تعكس أعمال الفنان المصري الراحل منير كنعان ثراء تجربته الممتدة منذ أربعينات القرن الماضي وحتى وفاته عام 1999. الخطوط المنسابة بسلاسة على سطح الورق تعكس قدرته على اقتناص الملامح. رسومه الصغيرة بالقلم الرصاص تشي بتمكنه مِن أدواته. وجوه كثيرة، ربما كانت لأصدقاء أو زملاء عمل، صاغها كنعان بأسلوب مدرسي محترف. تقف هذه الأعمال المدرسية من الرسوم واللوحات التصويرية في مواجهة أعمال أخرى منفلتة، لا تستطيع خلالها الإمساك بأطراف العناصر. أعمال كثيرة تراوح بين التشخيص والتجريد، تنحاز إلى هناك تارة وتأوي إلى هنا تارة أخرى، لتؤكد أننا أمام تجربة فائرة وعفية ومفعمة بالتحولات. تفاصيل كثيرة تجمع شتات هذه التجربة، تحتفظ بها زوجته الكاتبة سناء البيسي وابنه هشام كنعان؛ بعناية. صوره الفوتوغرافية مع العائلة أو أصدقائه من الفنانين، مراسلاته مع مؤسسات وهيئات خارج مصر تسعى إلى الاستعانة بخبرته، في بعضها إغراء بالسفر. دعوات صريحة ومبطنة إلى الخروج من أسر المحلية إلى آفاق أكثر رحابة. غير أن كنعان كان يؤمن بأن وجوده بين الحارات والشوارع المزدحمة وبيته في حي «درب اللبَّانة» في القاهرة، هو أحد أسرار تجربته. يكتب كنعان عن هذه القناعة: «لو ذهبت بعيداً عن مصر؛ أين أجد هواء درب اللبَّانة؟ أين أجد وجوه أبناء هذا الشعب؟ أين أجد هؤلاء النسوة والرجال والأطفال وهم يختلطون بقوة وعطف وارتباك؟ هؤلاء هم الهواء الذي أستنشقه، ومنهم تعلمتُ، وبالجهد الذاتي وبالمناخ الذي عشت فيه وإطلالتي من المشربية شاهدتُ الحياة واستنشقت جوهرها؛ فكيف أسافر بعيداً؟ صدقني لم أندم أبداً على اختياراتي في الحياة. وصدقني مرة أخرى أن العناية الإلهية كانت ترعاني، ولديَّ قناعة جعلتني أكشف كم عندي من الاكتفاء، وما زلتُ أشعر بسعادة طاغية وعيوني تتحرك في غرفة نومي تعايش لوحاتي، وما زلتُ أعاني من القلق الفني رغم تقدمي في السن، وما زلتُ أقفز من سريري لأتأمل لوحة ينقصها شيء ما، وأتوقف للبحث عنه فلا أجده، فأظل مستيقظاً، وتلك نعمة جميلة». هكذا يتحدث منير كنعان عن نفسه، عن ولعه بالمكان والتفاصيل، عن ذلك التمرد والعناد. لقد ظل هذا التعلق بالمكان، وذلك الإحساس الطفولي الشغوف بالتفاصيل يلازمه حتى رحيله. يدفعه التمرد والعناد للبحث عن الجديد، وهما اللذان قاداه أيضاً إلى المغامرة والسير نحو المجهول، فهو واحد من الفنانين المصريين الذين ثاروا ضد التعامل النمطي مع اللوحة. ظل كنعان يراوح بين التشخيص والتجريد منذ وقت مبكر من تجربته، لكنه لم يجهر بتجريديته تلك إلا في بداية الستينات. ففى عام 1960، أقام كنعان معرضاً جامعاً لأعماله في مبنى جريدة «الأخبار» القاهرية، فأثار الدهشة، إذ توارى الشكل فيه خلف الكتل اللونية والتراكيب وقصاصات الورق. كان يتوق إلى الانطلاق نحو عوالم أرحب، وبقدر جموحه وقلقه ثار كنعان على النمطي والمعتاد، أزال الشكل أو أخفاه بين تراكمات اللون وطبقات العجائن والخامات. توارت الوجوه والملامح والأبنية والزخارف، وبدت اللوحة مُتخمة بالمساحات والعناصر والمفردات المُقحمة: قصاصات ورقية، خيش، أسلاك، رمال، أخشاب، حتى صارت المساحة المرسومة ميداناً لمعركة بين الحركة التائهة والثبات المفرط، أو أحد شواطئ المتوسط، يمكنك أن تلمح خلاله مراكب مشرعة، وأمواجاً هادرة، وطيوراً عجيبة تحط على جزر من الأخضر الزيتوني، وبلاداً بعيدة كالقمر، ودياجير منفلتة عن مسارها، ومساحات من اللون المضيء تتشابك في عراك أسطوري مع مساحات أخرى مُعتمة وكابية. هنا نقاط كالجمر تندفع نحو الأزرق. وعلى البُعد ثمة خطوط رفيعة وحادة تحاصر الأبيض الناصع في استدراج عفوي لبقايا فيه من اللون الرمادي، أما الأسود الصريح فصار لوناً للحلم وللسكينة المفرطة. صار اللون محاصراً تارة بين مساحات القرمزي، وتارة أخرى نراه وقد تكثف ليتخذ شكلاً بنائياً بعد العفوية الرصينة، كأنه يتراجع في انحسار أمام طغيان العقل الواعي في ديناميكية مترددة تتوق إلى السكون. بدأ كنعان متردداً بين التشخيص والتجريد، كأثر مباشر لازدواجية تعامله مع اللوحة في مراحلة المبكرة، فقد كان عمله في مؤسسة «أخبار اليوم» يُلزمه باتباع نمط واقعي في تصوير العناصر، أما في المساء حين كان يخلو إلى نفسه، فكان يسعى إلى هدم تلك القواعد التي تحكم عمله الصحافي نهاراً، فجمع في البداية بين النقيضين داخل اللوحة. كان يرسم الشكل ثم يعود ليهدم بناءه، ويعيد صوغه، ناثراً ألوانه وعجائنه على السطح. انتقل كنعان في ما بعد إلى مراحل التجريد الخالص، حين تخلى نهائياً عن الشكل، وبزغت على السطح مفردات وعناصر جديدة يشيد بها صروحه التصويرية، منتقلاً من اللون إلى الكولاج، ثم التراكيب حين أقحم على السطح مساحات ناتئة، انتقاها من بين العناصر المحيطة به سعياً إلى الوصول إلى جوهر المشهد. استخدم المسامير والأسلاك والخيوط للإيحاء بالحركة والظل على السطح، وقصاصات المجلات بديلاً للون، وقطع الأخشاب لتأطير المساحات. في وصفه لذلك التحول في تجربة كنعان يقول الناقد ورائد السريالية المصرية جورج حنين: «كنعان يزرع مسامير لكي يسقط المساحة. ويستعمل الخيط لكي يفك العقد، ويستخدم مصاريع الخشب لكي يرى خلال وإزاء كل شيء، وبخيوط الحديد يشيد أسواراً، وهذا هو سيد المتناقضات وآمرها». استطاع كنعان الفكاك بمهارة وشجاعة تُحسب له من ترسبات التعاليم الأكاديمية، والمطاردة اليومية للعقل الواعي، قرر أن يُبحر إلى شواطئ التجريد، ففعل من دون أن يرتجف أو ينظر إلى الوراء، واستطاع كذلك الإفلات من أسر المخزون الثقيل لهذا التراكم الحضاري والبصري، والتخلص من عبء المسؤولية وتأثيرات الواقع الهستيري والوقوف من جديد أمام مساحة الرسم بأنامل غير مرتعشة ومخيلة متجددة. تحولت اللوحة لديه إلى صرح وبناء، ما إن يقيمه حتى يشرع في تهشيم أركانه، وما إن ينهار البناء حتى يعيد تشييده في شكل مغاير. وما بين شد وجذب وهدم وتشييد يتحرر الضوء من أسر المصدر المعلوم، ماحياً صورة الظلال المائلة باتجاه واحد، ليصير النور فيضاً وانبثاقاً، كما لو كان مخزوناً في حجر التكوينات والفراغات. أما الحركة فتبتدع لنفسها في أعماله مساراً آخر غير الظل والضوء وتدرج اللون ولعبة المنظور، وتظهر حيل أخرى قوامها صراع الخامات المختلفة. تتنوع الأدوار وتتحاور بحثاً عن خامة غائبة واستنفاداً للخامات الجاهزة المعطاة. قال يوماً في سياق حوار معه: «أنا أميل إلى ذلك الفنان الملتصق بلحظته، والذي يتحرك بلا خوف ويحمل روحه معه ويسير بها في شجاعة حتى الموت. لقد كانت حياتي كلها أبيض وأسود، كنت في «درب اللبانة» في الليل فناناً متمرداً وطليعياً وأجرب الخامات وشبه مجنون، وفي الصباح ألبس بدلة الرسام الصحافي وأذهب إلى عملي. كنت من البداية مقتنعاً بهذه الازدواجية رغم ما فيها من عنت. أعطتني الصحافة إحساساً بالاحتكاك بالحياة من قريب وبالأفكار والصراعات، وكانت تعيدني دائماً إلى الواقع، إلى جانب أنها وفَّرت لي الضمان المادي لأنني كنت حاسماً في أن يكون فني الحقيقي بعيداً مِن أي مغازلات تجارية من أي نوع. وأعتقد أن ما ميَّز تجربتي - وقد يكون أيضاً هو الداء الكامن فيها - هو أنني فنان له بدايات وليست له نهاية، فأنا لا أتوقف عند المكاسب لترسيخها، بل أهجرها سريعاً. وأنا أعتقد أن الفنان يجب ألا يمتلك ذاكرة قوية، بمعنى ألا تصل ذاكرته إلى حد حفظ الأشكال والحلول البصرية، وإنما يُبقي فقط على الروح والحالة، وأنا لا أتذكر جيداً أعمال الآخرين وأفضل اللعب والمصادفة. عليك أن تكون صارماً في اللعبة، وأن تدرك قانون المصادفة. أن تفهم العفوي، وهذا هو التحدي الحقيقي، لأن كل ما هو مُستقر ومحكوم من البداية هو نفسه قانون راسخ. أنا أعتقد أيضاً أن اللعب الحقيقي هو في التعامل مع اللحظات الحرجة والمفاجآت، فاللوحة تبدأ عندي بجرَّة خط، إما أن تجره اللوحة أو أجره أنا، لذا لا أبدأ مِن قرار مسبق أو بتصور للعمل، ولكن لديَّ خبرات بالتأكيد تُحركني في اتجاه محدد». مثَّل الفن لمنير كنعان غاية وهدفاً، كان رهانه الذي عاش لأجله متحدياً ومقاوماً تيارات النقد وعواصف الهجوم. وبقدر هذا الهجوم الذي كان يواجهه، كانت الدهشة من الجميع حين حصل على الجائزة الأولى في بينالي القاهرة الأول الذي أقيم عام 1984، وشاركت فيه 12 دولة عربية، وأشرف عليه محكمون أجانب من النرويج وفرنسا وإيطاليا. ولقد فتحت تلك الجائزة التي حصل عليها كنعان، الباب على مصراعيه أمام حركة واسعة من التجريب داخل الساحة التشكيلية المصرية، بعد أن كان ورفاقه من المطالبين بالخروج من أسر الأنماط السائدة حينذاك يتحركون في وجل بين حشود المتربصين والرافضين أي محاولة للخروج عن الإطار الذي وضعوه وحاصروا به أنفسهم.