لعلى واحد من قلة لم يسبحوا فى بحر الدهشة عندما لاحظ عشاق الفن التشكيلى كيفية استباق منير كنعان لعديد من مدارس الفن المعاصرة . والسبب فى عدم دهشتى هو تمردى منذ عامى السابع على «أفيشات أفلام السينما» التى كانت تصور النجوم بأسلوب يثير ضحكى بل وامتعاضي، لكن ما أن تمضى بضع ساعات أو أيام حتى أجد نفسى أمام وجه أنثوى مرسوم على غلاف آخر ساعة ، ثم مشهد درامى معبر يصاحب قصة أو رواية داخل المجلة ، ولا أتساءل عن كيفية رحيل الفنان إلى منبع الصفاء فى ملامح المرأة المرسومة على الغلاف ولا أجد فى نفسى قدرة على متابعة التجليات التى دخل من خلالها كنعان إلى أعماق المشهد الدرامى المرسوم والمصاحب للقصة أو الرواية داخل المجلة . وهكذا اعتذر كنعان برسومه عن ركاكة ما ينتسب إلى التشخيص؛ وأهدى عيونى الطفلة هذا الفارق الجوهرى عن قدرة الفنان على عبور الموانع الهائلة التى تقف أمام من يمارس لعبة الفن. طبعا أثناء الطفولة لم أكن أعرف «المسميات» وعندما كبرت تعلمت المسميات، وكان أول أساتذتى لرؤية فنون التصوير هو كنعان ، فقد سبق سيف وانلى إلى حياتى ، بل لنقل إن كنعان هو من قاد عيونى لتعشق فن التصوير . و ضحكت كثيرا عندما قالوا : لقد سبق كنعان الجميع حين انتقل بالتصوير من مرحلة التشخيص إلى التكعيبية والتجريد وغير ذلك . لم تكن دهشتى نابعة من تتبع تاريخ وتطور الحركات والمدارس الفنية فى كرتنا الأرضية، إنما السبب ببساطة أن كنعان هو أول من كانت رسومه هى قارب يمرح فى نهر الخيال ليكشف لى مكنون النفس البشرية ، فما المانع أن يكون حواره مع النور المشرق فى أعماق الكائنات ليهدينا التطور السابق لتلك المسميات القادمة إلينا من أوروبا؟ ولم تكن بى لهفة لإثبات أن مصريا له فضل السبق فى أى مجال؛ فأنا واحد ممن آمنوا بيقين أن حضارة القدماء تعترف بفضل مصر على العالم . وعندما كبرت وصادقت عيونى متاحف الأرض ، كان ما زرعه كنعان فى أعماقى عن معنى الترمومتر الذى اكتسبته عيونى عبر لوحاته التى حاورت طفولتي، وكبرت معى ، وكنت كلما تأملتها أجدها تضيف لى نبضا يفتح العيون على ما لم أكن أعرف من أسرار الجمال.ولم أندهش مثلما اندهش غيرى أمام قدرة منير كنعان على قراءة الكون من خلال اللون والخط، وكيف وصل إلى مستحيل لم يعرفه أهل الركاكة والترهل قبل أن يقدمه لنا. حدث منا ذلك رغم أن كنعان عاش بيننا _ ومازال يعيش _ مكتملا وناضجا وشفافا ليكشف لنا اعماقنا ويرانا ؛ ويجسدنا على جدران قرأ بعيونه ما فيها من موسيقى ومن تاريخ . عن نفسى لا أستطيع نسيان آثار منير كنعان الذى بدأ من طفولتي, لأنى علمت عندما كبرت كيف أنطق معبرا عما لم أكن أستطيع التعبير عنه ، فأؤمن أن مهمة الفنان المستحق للخلود والذى يستطيع بلوحاته أن يترقى بالمشاعر بعد أن يرصد الواقع بعلاقات تقترب من فنون العمارة أو الهندسة أو التأليف الموسيقى، وتقوم اللوحة بعلاج النفس بأكثر مما تستطيعه أدوات فرويد مكتشف التحليل النفسى ؛ والتى استكملها أخلص خلفائه الملهمين إيرك برن الطبيب النفسى للمقاتلين أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، هذا الذى نصح الطب النفسى بألا يتحول إلى واعظ يدخن البايب ويقف على مصطبة وهمية وينظر إلى آهات البشر ليأخد فى آهة من فم واحد فينزعه من وجوده الأرضى ليحبسه فى قوقعة يمنحها الواعظ المدخن اسما ، يبدأ من «الاكتئاب» وينتهى بالشيزوفرينيا أو الفصام. استطاع إيرك برن أن يعلن للكون فى قرب نهاية العام الثالث والأربعين من القرن الماضى أن المرض غير موجود فى جسد من ينطق الآهة ، ولكنه موجود فى كيفية إنتاجنا لآهات أنفسنا وآهات من حولنا ، وأننا فى حاجة إلى من يرحمنا من مسلسل شحن بعضنا للبعض بالكراهية وصناعة الموت لغيرنا لنراه كبطولة ما . وفى نفس ذلك العام أهدانا كنعان رفضا لما نحن عليه من قصور رؤية ليجسد أمام عيوننا ما تصنعه البشرية بنفسها ، فرسم علامة الرفض لأحوالنا ، وصنع منها موسيقى يمكن أن نراها بعيوننا، لتغسلنا من جمود الغباء والتحيز ، فنسترد إنسانيتنا . فعل كنعان ذلك وهو العاشق لدرب اللبانة التى رأى فى جدرانها لوحات مرسومة عبر الرطوبة وبساطة الأحياء الذين يصنون الحياة باستمرارها . كانت أغلفة مجلة آخر ساعة تخرج من موقعها لأراها معلقة على جدران غرفة أخى . ولم نكن نعرف أن الفنان الذى رسمها يقتحم حيرة الأعماق ليؤسس ما ظن فلاسفة وضع كل «شكل» فى إطار ما تنتجه باريس أو نيويورك، فكان منير كنعان سباقا فى لوحاته التى أخذت اسم التجريد الذى هلل له المريدون والمقلدون، ناسين أن هناك مصريا أحب «درب اللبانة» وقرأ فى جدرانه رحلة رفض صناعة الموت التى احترفها العالم فى ذلك الزمان وادعى أنها بطولة الموت فى صراع بين الجيوش المتحاربة . ولأنى أعمل فى دار روز اليوسف؛ كان من السهل أن أسمع هذا الحوار الساذج عن الخلاف بين الرسم الصحفى وبين فن التصوير ، وطبعا كان الرسامون الصحفيون يعرفون جيدا محاولات من اقتصرت أعمالهم على «التصوير المتقن» ليسوا سوى كسالى عن الرؤية الكاشفة لما فى واقع البشر. ولم يكن هناك أقرب إلى قلبى من قول أستاذنا الفنان حسن فؤاد :المهم فى الفن أن يكون فصيحا يقرأ ما تعجز عن قراءته العيون الكسول، ويشد تلك العيون إلى ضرورة اكتشاف الجمال» . وإذا ما تصادف قول حسن فؤاد مع متابعتى لفنانى الإسكندرية _ سيف وأدهم وانلى _ لذلك كان من السهل أن أرى الفصاحة فى أعمال كليهما، وقد مارس كل منهما الرسم الصحفى لبعض الوقت ثم جذبتهما تطورات الفن عبر المتوسط سواء فى روما أو باريس ، ليكتشف كلاهما ما سبق أن اكتشفه منير كنعان دون أن يكون قد سافر إلى البلاد التى تضج بحركات فنية ترصد الواقع وتعيد تقييمه وتتمرد عليه . كان كنعان الموجود على أغلفة آخر ساعة يمارس استكشافه لضمير البشرية عندما يذهب إلى مرسمه فى درب اللبانة فى قلب القاهرة القديمة ؛ ويتقدم بفن قراءة الأعماق فوق خيال أهل أوروبا المنغمسين فى التصنيفات والتقييمات . وإذا قيل «الكولاج» أو «التجريد» أو غير ذلك من صفات لمدارس فنية، فهذه التصنيفات لم تكن تعنى لكنعان رغبة فى الحصول على مكانة فيها، فقد استطاع بنور أعماقه أن يهبها لنا فى لوحات. عن ماذا كان يبحث كنعان المحاط بكل المودة من كل من صادفوه أثناء رحلته مع التصوير والرسم ؟ سؤالى هذا تطلب منى استعادة ما تعلمته من الأصول الحقيقية لوجود الإنسان على الأرض التى يخطوها شوقا إلى مستقبل كامن فى أعماقه، يريده أن يرى النور الذى فى قلبه وقد صار حياة. يعلمنا الطب النفسى أن كلا منا مولود وفى داخله نبوءة ذاتية يحاور كل ظروف الحياة حتى يحققها ، تلك النبوءة التى يقول عنها أهل الإيمان إنها «اللوح المحفوظ» ويقول عنها أهل العلم المعاصر إنها الشريط الوراثى الحامل لمواهبنا وقدراتنا وقدرنا, وأثق أن سناء البيسى التى التقاها بأخبار اليوم قد تجسدت أمامه كجزيرة صفاء، وكان هو أيضا موجود فى أعماقها كقارب سماوى سيصل إليها ليبنى كلاهما الحلم الممتد . وطبعا لم يكن كلاهما يعلم أن نصف حلمه فى الامتداد سيأتى عندما يمتزجا، وما أن امتزجان حتى جاء هشام، طفل برتبة صديق فى حياة كل منهما. ومن يعرف ماذا تضم أعماق هشام من صفاء وحزم دقيق يمكنه أن يعلم لماذا اختاره كنعان كصديق، ولماذا ترتوى أعماق سناء البيسى بخرير كلماته المتدفقة من نبع حكمة عدم القدرة على الكذب . فلتشاهدوا لوحات كنعان ولتجدوا ما تريدون أن تجدونه فيها ولكن كل اللوحات ستبقى شاهدة على قدرة فنان كثير الصمت عظيم الصدق مع النفس ومع الحياة ، فعبر عن هذا الصدق بنوره الصافى الذى صار ألوانا وخطوطا ، أهدتها له موسيقى تعطينا معنى لحقيقة أن يكون الإنسان إنسانا لا أكثر ولا أقل. وليتقدم الذين يحشون أفواههم ويزعجون أذنى بمصطلحات الفن وليقولوا ما يحلو لهم ، وسأغفر لهم ذلك لأن كنعان أقنعنى بأن التعبير عن النفس وما فيها لا يتطلب إلا استكشاف ما فيها من نور ، وقد استكشف كنعان بنور أعماقه ملامح من أحبها ومن أعطاه حبها هذا الصديق هشام ، فكان بعضا من فن كنعان هو ابتهال وتراتيل للحبيب والصديق . سوف تضيء لوحات كنعان قاعة أفق يوم الإثنين القادم لمزيد من مقالات منير عامر