«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر الحديث بوصلته عند كعبة القريض
نشر في نقطة ضوء يوم 14 - 02 - 2012

تتشابه "النغمة" مع "الكلمة" من حيث التفعيلة فكلاهما "فعلة"، فتلك حروف صوتية وهذه أوتار نغمية، والإثنتان يقع سهامهما على المسامع، وتظهر آثارهما على تقاسيم وجه الإنسان وردود فعله بما تفرزه الخلجات المتفاعلة على شغاف القلب والمتناغمة مع مجسات الروح، لكن المتلقي يطرب للنغمة بوصفها إيقاعات متناسقة المديات هدفها الاستحواذ على مسامعه ومشاعره وتوجيهها لمراد النغمات (الموسيقى) فيقال هذه موسيقى هادئة وتلك صاخبة، وأخذت الموسيقى مسميات مختلفة تُعرف بها، وتدخل الكلمة في النغمة فتنتج الأغنية أو النشيد الوطني، وما إلى ذلك.
ولكن هل بالإمكان أن تصبح الكلمة ذات نغمة وإيقاع من دون استعمال لأدوات العزف والموسيقى؟
الجواب وببساطة نلحظه في الشعر العربي العمودي وفي النثر المقفى وفي العبارات المسجَّعة، فهذا النوع من الكلمات المنتظمة شعراً أو نثراً يملك من الإيقاعات ما يجعلها حسنة الوقع على المسامع والقلوب من غير الحاجة إلى استعمال آلات العزف لاستحداث الإيقاع المطلوب وتهييج النفس أو تهدئتها، وهذه واحدة من مميزات الشعر العربي بل من أكثرها قيمة، وتنبع قيمتها من كون الإيقاع هو القبان الذي توزن به الكلمات المكونة للبيت الشعري، وهو بمثابة القالب والنموذج، وبتعبير آخر "الوزن الشعري".
وبالطبع لا يعني أن الشعراء جميعهم يعرفون الأوزان الشعرية وقواعدها، بل هنا تظهر أهمية الشعر العربي، فمعظم الشعراء المجيدين ينظمون الشعر دون أن يعرفوا وزنه أو بحره، وهم ينظمون على السليقة، وهذا الأمر كان قائما في العصر الجاهلي وفي بدايات عصر الإسلام وإلى يومنا هذا، لكن المنعطف الأدبي حصل على يد الخليل الفراهيدي (100- 170ه) الذي ابتدع الأوزان بعد أن قام بتقطيع الشعر، فنُسب إليه علم الأوزان والبحور، ولم تكن المهمة بالسهلة وربما مروره على سوق الصفارين والنحاسين ألهمه فكرة تقطيع الشعر وتأصيل أوزانه وبحوره، فكانت طرقات النحاسين ترنّ في أذنيه فيستعذب صدى الحديد الضارب على صفحة النحاس، وهو ما جعله يخلو بنفسه في داره في البصرة الفيحاء يقطّع الأشعار ويستنطقها بصوت عال وهو العالم الضليع بعلوم عدة حتى ظن نجله أن أباه أصابه المسِّ والجنون، ولكنه جنون من نوع آخر تفتق عنه علم الأوزان، وحتى لا تذهب الظنون بنجله بعيداً خاطبه الوالد شعراً من بحر الكامل وكان يريد أن يثنيه عن إعلان فضيحة جنون الأب:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ** * أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني *** وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
وفي تقديري أن الخليل الفراهيدي الذي استعذبت مسامعه طرقات النحاس استوحى فكرة تقطيع الشعر من مدرسة الإمام علي(ع) (23ق ه - 40ه) الذي كان أول من ترجم دقات الناقوس وإيقاعاته، فكان أن مرّ ومعه الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي (16ق ه - 78ه) على راهب وهو يضرب الناقوس، فقال عليه السلام لجابر بن عبد الله: أتدري ما يقول هذا الناقوس؟
فقال الأنصاري: الله ورسوله أعلم!
قال عليه السلام هو يقول (من المتدارك):
حقّاً حقّاً حقّاً حقّا *** صدْقاً صدْقاً صدْقاً صدْقا
إنَّ الدنيا قدْ غرَّتْنا *** واستهوتْنا واستلهتنا
لسنا ندري ما قدّمنا *** إلاّ أنّا قد فرّطنا
يا ابن الدنيا مهلاً مهلا *** زنْ ما يأتي وزناً وزنا
وللأوزان صلة
ولكن هل توقفت الأوزان الشعرية على ما اكتشفه االفراهيدي قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟
جانب من الإجابة نجدها في كتاب "الأوزان الشعرية العروض والقافية" للفقيه الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر نهاية عام 2011م في 719 صفحة من القطع الوزيري عن مكتبة دار علوم القرآن بكربلاء المقدسة (العراق) وبيت العلم للنابهين ببيروت (لبنان) قدم له وعلق عليه الأديب الجزائري الشاعر عبد العزيز بن مختار شبِّين بعد أن استفرغ المؤلف جهده في بيان علم العروض والقافية بوصفهما شرطان لازمان للشعر العمودي وبدونهما لا يُسمى شعراً وإنما نثرا مقفى أو كلاماً جارياً، فالعروض علم يتناول بيان وزن الشعر وميزانه وهو بمثابة القالب الذي فيه يتشكّل الشيء ويتمثله فلا يحيد عن ملامحه ومعالمه ومن خلاله يتضح السليم من السقيم وبه توزن كلمات البيت، وهذا العلم هو بحد ذاته بحر عميق يتناوله المؤلف في فصل مستقل أخذ من الكتاب 128 صفحة تناول فيه وبشكل تفصيلي علم العروض وقواعده، فما يفرق الشعر عن النثر أنه يتصف بالوزن والقافية وظهور المعنى وإثارة الأحاسيس، فالشعر الذي لا يدغدغ المشاعر والأحاسيس وإن توفرت فيه شروط القواعد العروضية فإنه نظم وهو متأخر رتبة عن الشعر، فكل شعر نظم وليس كل نظم شعراً.
ولأنَّ العروض علمٌ واسع وبحر زخّار، فإن تفريعاته كثيرة تبدأ من قواعد الكتابة العروضية وتنتهي بالدوائر العروضية وما بينهما البناء الشعري، تركيبة التفعيلة، الضرورات الشعرية، المصطلحات، التقاطيع الصوتية، مصطلحات أخرى، المعاقبة والمراقبة، قاعدة الخرم ومتعلقاته، أقسام الزحاف، أنواع العلة، والتفاعيل وفروعاتها الجائزة.
وأهم ما يتصف به الفصل الأول والفصلان الثاني والثالث أن العروضي الكرباسي بقدر ما استفاض في بيان العروض والقافية وشروحاتهما فإنه أحكم وضع الأساس لهذا العلم الغزير وأقام عليه بنيانه فجاءت التفريعات مُحكمة وكتاباً مفتوحاً لكل أديب وشاعر، ومنهاجاً دراسياً لكل جامعي وطالب علم، وقد تصفَّح الأديب الجزائري والضليع في البحور الخليلية الدكتور عبد العزيز شبِّين أوراق مؤلفات الكرباسي الخاصة بالشعر وفنونه واكتشف أنه: (كلّما قلَّبت ورقة أردفت أخرى تُلهمني بجديد لم أعهده في كتب شتَّى، منهجاً، وأسلوباً، وشمولية وعمقاً، وأصالةً وتجديداً، فدرس فيه عروض الشعر دراسة تنظيرية لا أحسب لها نظيراً فيما سبق من الدراسات)، وقد جمع الكرباسي الأوزان الخليلية الخمسة عشر بحراً والسادس عشر (المتدارك) الذي أضافه الأخفش سعيد بن مسعدة البصري (ت 215ه) في بيتين من الشعر من بحر الطويل الثاني:
طويلٌ يَمُدُّ البسطَ بالوفر كاملٌ *** ويهزجُ في رجزٍ ويُرْملُ مُسرعاً
وسَرِّحْ خفيفاً ضارعاً واقتضب لنا *** من اجتُثَّ مِنْ قُرْبٍ لتدركَ مطمعاً
والبيتان ينطويان على البحور التالية: الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتثّ، المتقارب، والمتدارك، إضافة إلى بحور أخرى مستحدثة هي: المستطيل والممتد والمطرّد والمنسرد والمتئد، وكلها جاءت في خمسة دوائر عروضية لها قدرة ضبط موسيقى البيت العربي ضبطاً هندسياً دائرياً على أساس التبديل الدوراني المتحرك خلاف حركة عقرب الساعة، ضمّت دوائر: المختلف، المتفق، المؤتلف، المجتلب، ودائرة المشتبه، وعليها توزعت البحور.
مقاييس وإيقاعات
إنَّ الحديث عن علم العروض هو حديث مطول ومستوعب عن الوزن الشعري أو البحر، فالكلمات المنسلخة الوزن هي خارجة عن ميزان الشعر، فكما يوزن الذهب بأجزاء المثقال يوزن البيت الشعري بالحركة، ومثله الزمن الموسيقي في النغمة الواحدة، لأن الشعر في محصلته إنشاء وإنشاد، نغمة وإيقاع، ولكن ما يميز الإيقاعَ الموسيقي أنَّ نغماته رُسِمَت أفقيا في مدرجات عمودية تبدأ من اليسار في حين أن الإيقاع الشعري تضمنته تفعيلات دائرية من أية حركت بدأ الشاعر انتهى إلى بحر بعينه حسب تقطيعات التفعيلة.
وإذا كان الفصل الثاني اختص بالأوزان أو البحور وأخذ من الكتاب أكثر من نصف صفحاته (163- 563)، فإن العروضي الكرباسي استحدث بحوراً كثيرة فاقت بحور الفراهيدي ضمّها في كتاب مستقل أسماه "بحور العروض" ضمَّ 210 بحور، بيد أن الذي بين أيدينا من شروحات واجتهادات عن البحور الخليلية وغيرها تعكس قيمة الشعر العربي وأحقيَّته بأن يكون ديوان العرب يحفظ تاريخهم بما فيه من صفحات يسر وعسر.
وبالإمكان من خلال الغوص في البحور اقتناص الكثير من جواهر المعرفة والدرر والحكم والمواعظ، ومن ذلك أن بحر الطويل الذي بلغت حروفه 48 حرفاً من ثمانية تفاعيل حظي بلقب أمير البحور، وربما أطلقوا عليه حمار البحور لكثرة تركيب العرب أشعارهم عليه فسمي من باب البلاغة الأدبية "ركوبا"، ويكفي أنَّ ثلاثاً من قصائد المعلقات استقلت ظهر مركبه، واحدة لامرئ القيس ابن حجر الكندي (130- 80 ق.ه)، وثانية لطرفة عمرو بن العبد الوائلي (ت ن 62ق.ه)، وثالثة لزهير بن أبي سلمى المزني (ت 13ق.ه)، وأشهرها قصيدة امرئ القيس:
قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل *** بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ
وخيراً فعل الدكتور شبّين عندما أفرد وبشكل عام لكل بحر حكمة وموعظة من نظمه أو نظم المؤلف أو لغيرهما، ومن ذلك في بحر الوافر قول الكرباسي في تلميذ أساء الأدب في ساحة الأستاذ:
وكم لقَّنته سرَّ التفاني *** فلمّا خاض تجربة جفاني
وفي بحر المتدارك يحذرنا الشاعر شبِّين من الدهر وتقلباته:
زهرةُ العمر تذوي حذار الغُرور *** أينَ مِن سالفِ الدَّهْرِ يا بنَ القُبور؟!
ولا يتوقف المؤلف عند البحور الخليلية فيتنقل بين أروقة الأدب لبيان ألوان من الشعر وهي: السلسلة، الدُّوبيت، القُوما، الموشّحات، الزَّجل، المواليا، الكان وكان، المزدوج، المُسمَّط، والحديث (الحر)، ثم يحط قلمه ودواته عند كل لون من هذه الألوان، وعلى هذا المنوال جرى قلم المقدم والمعلق، بيد أنه مكث طويلاً في تناول الشعر الحر، فالكرباسي انتقد قول الأديبة العراقية الراحلة نازك صادق الملائكة (1342- 1428ه) العازفة عن استعمال أسلوب الخليل بدعوى عجز المدرسة الخليلية عن إظهار المعنى وإيجازه وسهولته كما هو الحال في الشعر الحديث، وتساءل: ماذا تقول الملائكة في قول المتنبي أحمد بن الحسين (303- 354ه) من البسيط:
ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدركُهُ *** تجري الرياحُ بما لا تشتهي السُّفُنُ
ومع هذا فإنه لا ينفي التزام الشعر الحديث بأصل التفعيلات وإن تخلّص من القافية والوزن، وتمسكه بالتقاطيع الموسيقية والوحدة النغمية وإن تحرر من قيد الوزن والقافية، لكن الدكتور شبِّين يزيد من غرز خنجره النقدي في خاصرة الشعر الحديث أو الحر فهو عنده كالإبن الضال يخرجه من صبغته الشعرية ويعيده إلى خانة الكلام الحر: (لأنَّ الشعر وليدُ الإلهام، موزون مقفّى، فيه حكمة وإيحاء، وليس كما يدعونه بقصيدة النثر رموزاً مغلقة، وألفاظاً جوفاء، وإبهامات مبهمة .. لم يغذّه الإلهام فجاء أجوفَ يابساً، ولم يخِصْهُ البيان ولا الخيال فأتى بليداً ميتاً، خالياً من الروح، فاقداً للذوق، وكل كلام جاء على هذه الصورة فهو ليس من الشعر في شيء)، وكأن المعلق يحدثنا عن جدول كلمات متقاطعة قد نصرف فيه وقتاً طويلاً حتى نعرف المعنى والمراد من الكلام الذي شط عن الشعر الموزون وحاد.
جمالها في خواتيمها
لاشك أن الأعمال بخواتيمها إن خيراً فخيرا وإن شراً فشراً، وخاتمة العمل هي الماركة المسجلة لصاحبه، به يُنادى وعليه يجازى، ولا تخرج المعادلة الجمالية والذوقية ومنتهاها عن خاتمة البيت أو ما اشتهر في الأوزان الشعرية بالقافية أي الجزء الأخير من عجز البيت، فبه يتحدد الإيقاع الشعري أو النغم، ومن دونها خرجت القصيدة عن دائرة الشعر أو النظم.
والقافية هي العنوان الذي استقل به الفصل الثالث والأخير من "الأوزان الشعرية العروض والقافية"، ويُلاحظ أنَّ به تفرّد عنوان الكتاب أيضا، لأن العروض والقافية مثل سكة الشعر عليها تسير عربة الشعراء.
وإذا كان للقافية وعموم الشعر عيوبها ذكرها المؤلف بالتفصيل فإن للشعر محاسنه وإبداعاته وذوقياته، ختم به الفصل بإيراد أربعة عشر ذوقاً شعرياً يزيد من عذوبة الشعر ويظهر تمكّن الشاعر من الإبداع وهي: لزوم ما لا يلزم، التخميس، التشطير، التصدير، الإجازة، الإقتباس، التضمين، المواربة، التشريع، الطرد والعكس، التطريز، الجناس، التفويف، والتسميط.
ومن أمثلة الذوقيات الشعرية ديوان "التفسير المنظوم" للمؤلف نفسه (مخطوط) وكل قصائده اقتباسات وتضمينات وتشطيرات لآيات القرآن الكريم.
ومن أمثلة المحسنات، الجناس في قول الشاعر من الوافر الأول:
طرقتُ البابَ حتى كلَّ متني *** فلمّا كلَّمتني كلَّمتني
وقالت لي أياسماعيلَ صبراً *** فقلتُ لها أياسْما عيلَ صبري
فكلّ متني الأولى في البيت الأول أي تعب متني والثانية كأختها والثالثة بمعنى حدَّثتني، وإسماعيل في صدر البيت الثاني اسم علم للذكور وفي العجز "اسما" بمعنى أسماء وهو إسم علم للإناث، وعيل العجز والنقص.
في حقيقة الأمر أرى ومن خلال قراءتي المتأنية لكتاب "الأوزان الشعرية العروض والقافية" أن الأديب العروضي الدكتور محمد صادق الكرباسي لم تفتر عزيمته البحثية عند تناول فصول الكتاب على ما فيها من شروحات رئيسة وتفريعات دقيقة، ووصل خط النهاية كما بدأ به أولاً، كما أنَّ قلم المعلق لم يتوانَ عن ترصيع المتن بالتعليقات المستفيضة المتضمنة لإبداء الرأي والشواهد الشعرية، مما يعطي إنطباعاً خاصاً أن الكتاب هو جوهرة أدبية علمية متسقة تنم عن عقلية عروضية معززة بمعرفة موسوعية صلبة العود، ومتابعة حثيثة لدى المعلق مؤزرة بسليقة شعرية طيعة القود، لها الجاهزية على العوم في أبحرها والولوج في لجّاتها، وجوهرة بمقام "الأوزان الشعرية" لابد أن تجد مكانها المرموق في المحافل الأدبية والشعرية وبخاصة في الجامعات والأقسام الأدبية، ناهيك عن حاجة الأدباء والشعراء لمثل هذا الإبداع الأدبي الذي به يزينون أبياتهم ويرفعونها على قواعد سليمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.