انطلاق فعاليات ندوة "طالب جامعي – ذو قوام مثالي" بجامعة طنطا    تراجع ناتج قطاع التشييد في إيطاليا خلال مارس الماضي    ڤودافون مصر توقع اتفاقية تعاون مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لدعم الأمن السيبراني    بروتوكول تعاون بين جامعة الفيوم والاتحاد العربى لحماية الحياة البرية والبحرية    عاجل: إيران في حالة حداد.. تفاصيل الأحداث بعد وفاة الرئيس رئيسي    أخبار الأهلي: الأهلي يكشف تفاصيل جراحة علي معلول    بالاسم ورقم الجلوس.. رابط نتيجة الشهادة الاعدادية الأزهرية 2024 الترم الثاني عبر بوابة الأزهر الإلكترونية    تفاصيل عيد الأضحى 2024 ومناسك الحج: الموعد والإجازات    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    حجز استئناف أحمد عز على إلزامه بدفع 23 ألف جنيه إسترليني لتوأم زينة    تطورات حالة والد مصطفى قمر الصحية بعد إجرائه جراحة    بعد طائرة الرئيس الإيراني.. هل تحققت جميع تنبؤات العرافة اللبنانية ليلى عبد اللطيف؟‬    إيرادات "السرب" تتخطى 30 مليون جنيه في شباك التذاكر    6 نصائح لمواجهة الطقس الحار.. تعرف عليها    الوفد الروسي بجامعة أسيوط يزور معهد جنوب مصر للأورام لدعم أطفال السرطان    الليجا الإسبانية: مباريات الجولة الأخيرة لن تقام في توقيت واحد    استبدال إيدرسون في قائمة البرازيل لكوبا أمريكا 2024.. وإضافة 3 لاعبين    مدرب الزمالك يغادر إلى إنجلترا بعد التتويج بالكونفيدرالية    مصطفي محمد ينتظر عقوبة قوية من الاتحاد الفرنسي الفترة المقبلة| اعرف السبب    وزير الري: 1695 كارثة طبيعية بأفريقيا نتج عنها وفاة 732 ألف إنسان    البنك الأهلي المصري يتلقى 2.6 مليار دولار من مؤسسات دولية لتمويل الاستدامة    المؤشر الرئيسي للبورصة يتراجع مع نهاية تعاملات اليوم الاثنين    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأجيل محاكمة رجل أعمال لاتهامه بالشروع في قتل طليقته ونجله في التجمع الخامس    العثور على طفل حديث الولادة بالعاشر من رمضان    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    سوزوكي تسجل هذه القيمة.. أسعار السيارات الجديدة 2024 في مصر    العمل: ندوة للتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية ودور الوزارة فى مواجهتها بسوهاج    "النواب" يوافق على منحة لقومي حقوق الإنسان ب 1.2 مليون جنيه    الحياة على كوكب المريخ، ندوة علمية في مكتبة المستقبل غدا    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد    افتتاح دورة إعداد الدعاة والقيادات الدينية لتناول القضايا السكانية والصحية بمطروح    «صحة الشرقية» تناقش الإجراءات النهائية لاعتماد مستشفى الصدر ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    «السرب» الأول في قائمة إيرادات الأفلام.. حقق 622 ألف جنيه خلال 24 ساعة    مسرح التجوال يقدم عرض «السمسمية» في العريش والوادي الجديد    نائب جامعة أسيوط التكنولوجية يستعرض برامج الجامعة أمام تعليم النواب    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    في طلب إحاطة.. برلماني يحذر من تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    شكرى: الاحتياجات ‬الإنسانية ‬للأشقاء ‬الفلسطينيين ‬فى غزة ‬على رأس أولويات مصر    وزيرة الهجرة: نتابع تطورات أوضاع الطلاب المصريين فى قرغيزستان    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    باحثة سياسية: مصر تلعب دورا تاريخيا تجاه القضية الفلسطينية    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    ماذا يتناول مرضى ضغط الدم المرتفع من أطعمة خلال الموجة الحارة؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    إعلام إيراني: فرق الإنقاذ تقترب من الوصول إلى موقع تحطم طائرة الرئيس الإيراني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكُتّابُ ورمضان.. دهشة وُجودية وشوقٌ إلى الحكايات
نشر في نقطة ضوء يوم 05 - 06 - 2017

لشهر رمضان صلةٌ متينةٌ بالأدب؛ أعني أدبَ الفِقْهِ وأدبَ الظُّرْفِ، بل إني أراه شهرًا شِعريًّا ذا جماليةٍ عالية عمادُها التكثيفُ والحَبْكُ والخيالُ وقانونُ النُّدْرة، فكلُّ يومٍ منه إنّما هو بيتٌ مكتوبٌ بأسلوب الصّبر والتقشُّف، بيتٌ فيه نظامٌ إيقاعيٌّ ذي قافية تتردّد مع كلّ مساء ويعلن عنها الأذانُ لتُمثّل وقفةً لاسترداد النفس وتقوية الهِمّة. ولا تخلو مدوَّناتنا الأدبية من حكايا أدبيّةٍ أبطالُها الكُتّابُ والشعراء على غرار ما نقرأ لبشار بن برد وهو يخاطب شهر رمضان: «قل لشهر الصيام أنحلتَ جسمي- إنّ ميقاتَنا طُلوعُ الهِلالِ/ أجهد الآنَ كلَّ جَهدِكَ فينا- سترى ما يكونُ في شوّالِ». واستهداءً بهذا، اقترحت القدس العربي على مجموعة من الروائيين العرب أن يُحدّثوا القرّاءَ عن الكيفية التي يعيشون بها أيامَ رمضان ولياليه.
محمد الغربي عمران- روائي من اليمن :
في صنعاء لا ليل لنا في رمضان، ولا يختلف عنه الأمر في الفطر، فما بالك بمدينتي الصغيرة «ذمار» الواقعة إلى الجنوب من صنعاء100 كيلو وعادة ما أقضي أيامي بين صنعاء وذمار والقرية هناك وسط جبال داكنة. عادة ما يموت الليل في شوارع صنعاء مع العاشرة أو الحادية عشرة.. فصنعاء منذ عقود لا دور سينما فيها ولا مسرح ولا منتديات ثقافية تنشط ليلا.. والمتنفس الوحيد هو أن تقضي ليلك أمام التلفاز أو بين ماضغي القات حين يتجمع في دواوين يتابعون قنوات التلفزيون.
يمثل رمضان بالنسبة إليّ شهر عذاب في ظروف أقل ما توصف به هو كونها صعبة.. ولذلك نحاول ومجموعة من الأصدقاء ممن لا يتناولون القات أن نخلق لنا مداراتنا المختلفة. ففي الوقت الذي يغادر الناس الشوارع لتناول وجبة الإفطار بعد اذان المغرب نجول في أزقة صنعاء العتيقة وأزقتها تلك اللحظات لا أحد غيرنا يجول .. نعرج على مطاعمها الشعبية لنتناول وجبة الإفطار وبعدها نكل تطوافا في سكينة مدينة عمرها آلاف السنوات.. وبعدها نكمل تجوالنا بزيارة مقيل الدكتور المقالح وليلة أخرى نزور مقيل أحد الأدباء من الرعيل الأول.. وهكذا تكون لنا مساءات في مدينة يهجر شوارعها أهلها كما يهجرون مقاهيها ومنتدياتها في ليالي رمضان.
إلا أن متعة رمضان في صنعاء لا تتجلى في الأوقات المسائية، بل في تلك النهارات الهادئة من ضجيج السيارات وضوضاء الشوارع.. خاصة في بداية النهار حين أجد متسعا من السكينة والهدوء لأواصل قراءاتي وكتاباتي، حيث تبدأ دوائر السلطات دوامها اليوميّ مع منتصف النهار، كما تفتح المحال التجارية أبوابها مع النصف الثاني. ويتركون لنا النصف الأول منه.
وحين أرحل من صنعاء إلى ذمار أجد أن أروع أمكنتها هي مقبرتها مترامية الأطراف، مقبرة واسعة جدا. وقد درج الناس على زيارة موتاهم مع الساعات الأخيرة للنهار فترى منظرا شبيها بمهرجان عظيم يتكرر كل يوم رمضاني، نذهب وبعض الأصدقاء مع الذاهبين لنقضي بين الرابعة عصرا وحتى التاسعة مساء، نجول في أنحائها، وإذا ما أظلمت وأفرغت إلا منا ومن سكانها، تمددنا على نجيل أخضر في أطرافها نتنادم وعيوننا تتابع ثريات السماء وشهبها المتسارعة، تتطاير كلماتنا وسط سكون كثيف وكأننا لسنا نحن. ففي ذمار لا يوجد ما يمكن أن تقضي أوقاتك فيه غير مَقَائل القات، أو أن تتسمر أمام التلفاز، الجميع يهجع من العاشرة.. وتخلى شوارعها وأسواقها.
وعلى النقيض من ليل صنعاء وذمار تكون ليالي القرية هناك وسط الجبال البعيدة أكثر روعة.. حينها أشعر بأني عدت للرحم الأول في بطن أمي.. هنا حيث يتحول ليل منزلي إلى مسامرات متواصلة يأتي الأهل والأصدقاء في موجات متتالية لزيارتي محملين بصخب أطفالهم.. وبراءة حكاياتهم لتستمر المسامرات وسماع الحاكيات إلى ما بعد منتصف الليل. وحين أهجع في مرقدي أكون على موعد مع نهار يسبح في هدوء ساحر.. صمت إلا من نقر بعض العصافير على زجاج النافذة أو هديل حمامه لا أراها. يشدك منظر حركة الهابطين إلى الوادي وتلك السحب تسبح دون ضجيج، الجبال بتجاعيدها، أشعر لحظاتها بكمال كل ما حولي ودهشة وجودي في ذلك المكان الفريد.
في القرية أحس بأني عدت إلى رحم أمي.. تتكرر الليالي وتتجدد الحكايات والمسامرات.. يستمعون لحكايات أرويها عن رحلاتي إلى بعض المدن خارج اليمن، عن تلك المجتمعات، وأسمع حكاياتهم العفوية وقد تجمعوا ذكورا وإناثا في سمر تتخلله الحكايات العفوية وحب المعرفة، ولذلك عادة ما أهرب من جمود مدينة صنعاء وذمار في رمضان إلى بوح الريف وعفويته.
رمضان يمثل لي كابوسا مختلفا عن شهور السنة.. لكنه يعطيني تجددا كما يجعلني أدرك روعة بقية شهور السنة … وأعيشها بشغف وأحاول أن أتأقلم مع شهر مختلف وأعيشه بشكل مختلف مع قلة من الأصدقاء. ممّن لا يمضغون القات.
وداد طه، روائية فلسطين :
كهدوء كرسيّ وحيد أمام البحر، كرسيّ يذكّر أنّ ثمّة ثرثراتٍ كانت، أو يوحي بأنّ ثمة انتظاراً لبعيد مّا، كرسيّ ساكنٍ ووحيد أمام الشّمس، متروك على ضفّة الزّمن، مشرّع على حدّيْ الأنا، الماضي والآتي، فيما الحاصل مشغول بذاته ولاهٍ عن التّفكير، هكذا يكون يومي في رمضان.
أنا امرأة بسيطة، يومي اليوميُّ عاديّ، أعمل وأمارس رياضتي، أقرأ قليلاً وألهو، أهاتف الأصدقاء وأعدّ وجبة صغيرة إذا سمح لي الوقت. لكنّني بتّ ألاحظ أنّي أنتظر رمضان لأمتلئ بالحركة، الآن وأنا أكتب هذه السّطور أفهم أن الطّاقة التي أحياها في هذا الشهر طاقة الكون الجميل، السارح نحو الله، المنتظم والآسر، فكلّ شيء، التفاصيل كلّها تتخذ شكلاً آخر ومعنى آخر. فمثلاً أخبّئ ما أريد أن أنهيه بحرفيّة وصفاء إلى رمضان، إذ إني أنهيت رسالة الماجستير خلال الشّهر منذ ثلاث سنوات، كيف لا أنا أعرف ولا عتبة بيتي التي كنت أجلس عليها تعرف. في رمضان أنهيت كتابة روايتي الثّانية «وأخون نفسي» تزامناً مع أبحاث أخرى وقصص قصيرة أخرى، كنت أجلس تحت شجرة الياسمين بعد صلاة العشاء، وأكتب أكتب، وكان شعاع القمر الشّفيف مؤنساً.
أنتظر رمضان للدّعاء، عندي طقوس أشتاق إليها وأشعر أنّ رمضان وحده يعطيني ذلك الإحساس بفيض الرّوح حين أناجي ربّي. قد يعييني انقلاب اليوم والسّهر طيلة الليل، لكنّي ألتذّ بانتظار الغروب، وأتعمّد أن أخبّئ أمنياتي في جيبه، لا أختلف مع البسطاء في شيء من عاداتهم الرّمضانيّة، ولا أعتقد أنّ أيّ باحث عن الحقيقة في أيّ دين سيختلف معنا في الإحساس بروعة المناجاة والشّعور بدنوّ الله من القلوب.
وفي رمضان يرفّ جناحا التّأمّل، فأنا أحلّق عادة من دون أن أشغل فكري كثيراً بالتّفاصيل، لعلّ يقيني أو شجاعتي مبالغ فيها أحياناً وهذا السبب أنّي أقدم عادة، أما في رمضان فأفكّر، أقرأ بتأنٍّ، أطالع الوجوه بحرص، أرنو بتؤدّة إلى الأصوات، ألتقط شيفرات الأحلام، أنغرس في ذاتي وأغربل رمالها، أتّخذ القرارات بصفاء غريب وسلام. رمضان يجعلني أعقد مصالحة معي وأنفتح على المجهول إليّ بوعي وصفاء وإقبال شهيّ على الحياة وأنا متحرّرة من خوفي ومن لامبالاتي كإنسان…رمضان موعد سنوي لتجديد العلاقة بالحاصل الملهوّ عنه فينا..بيومنا الذي هو عمرنا.
محمد فتيلينه- روائي- الجزائر :
لكل كاتب طقوس في الكتابة ولكل مهتم بالأدب وعوالمه عادات في القراءة. ووسط تلك العادات هناك أمكنة بعينها يرتادها الكاتب ويختار لها أزمنة تحمل هي الأخرى خصوصية بذاتها. من تلك الأزمنة المصاحبة للعالمين العربي والإسلامي في كل عام شهر رمضان. المرتبطة أيامه ولياليه لدى المسلمين بالمثابرة وبالتأمل، فهو إذ يمثل لهم أكثر من احتفاء روحي وقربى للخالق، فإن أجواءه المفعمة بالكثير من الألفة والنوستالجيا، تساهم في استحضار الكثير من ذكريات الزمن الجميل وعبقه عبر التقاء الأجيال حول طاولة واحدة مع ساعة الغروب، ترسيخا للألفة الاجتماعية. ولا أشذ عن قاعدة اللقاء بالأهل ككل واحد مرتبط بالجذور، عبر مسامرة الكبير لمتابعة تفاصيل العمر معه، والإصغاء إلى الصغير وهوسه بقناديل الشهر المميز.
ووسط الارتباط الروحي والتاريخي لهذا الشهر يسكنني إغراء لا يقاوم، مبعثه سحر التراث العربي الزاخر بصنوف الكتابة ومجالاتها المتنوعة. فتجذبني حاسة القراءة دون كلل كي أقلب في ساعات السحر على أعاجيب كليلة ودمنة، وأحجيات ألف ليلة وليلة، وقصص الأميرة ذات الهمة، ومغامرات فرسان بني هلال، وأنقب في عوالم تلك الصفحات عن درر قد لا تكون الذاكرة دوّنت بريقها. يبدأ النهار مع استرجاع صفحات من أعاجيب القصص التراثية، وتدوين ما علق في الذاكرة. لتنتهي ساعاته بملخصات تشوشها من حين إلى حين خربشات على الهامش، تجعلني استدعي أسئلة لتحضير ما قد ينقص رفوف الذاكرة عبر موعد ليلي آتٍ. وهكذا تستمر الحكاية الرمضانية حتى غروب الثلث الأول من رمضان لتنتهي القراءات على ثلاث أو أربع تراثيات، قد يسعف قلمي الجهدُ وساعاتُ الصبح بتدوين كراسات صغيرة تلخص الحكايات وتنعش القراءات النقدية الأولية لاحقا. ومع الثلث الثاني أين يعتاد الجسم على شيء من الجلد والصبر يحتاج بعد أن يشبع حاسة النهم القرائي إلى إشباع نهم آخر لا يقل جمالا وأنسا ألا وهو النهم السماعي، فتشبع التراثيات الغنائية رغبة السماع ليشتغل الجهاز القديم بعد أن ينفض عنه غبار الشهور، ليهدي الأذن أنغاما لن تكلّ عن الإنصات إليها بروية وانتباه. وتختلط تلك الأسطوانات بين سماع كلامي بحتٍ منبعه الحصص الإذاعية القديمة، وسماعِ قصائد مغناة على مقامات الشرق التي لا يختلف ذوّاقان على مدى سحرها الفني والوجداني. ثالثة الأثافي، مرافقة المدّاحين، ومشاركتهم التراتيل والأناشيد، ولو خلف الصفوف. ومرافقة القرّاء مع خير الليالي على تتبع البيان القرآني، طمعا في الإبحار في بلاغته وبيانه والتبصر إن أتيح التدبر في أحرفه المعربة، التي أعجزت ربيعة ومضر. ولا تكتمل دون شك الفرحة القرائية أو السماعية أو الصوفية إلا على زيارة حبيب أو لقاء قريب على باب عيد الفطر السعيد.
قاسم توفيق، روائي – الأردن
عندما يُعلن القمر أنّ رمضان قد جاء للزيارة، أسمعُ مع هذا الإعلان صوتاً عالياً يهتف، اعلموا أيها الناس بأن هَدْأة عقولكم قد آن وقتها هذه السنة. تحتاج الكائنات كلها لهَدأة تريحها أو تضعها ولو قليلاً أمام النفس، وكذلك نحن البشر، بعد أن استلبت مشاغل الحياة هذه القيمة العظيمة منّا ولم نعد نتذكر كم هي مشوقة ومهمة. رمضان شهر هدأتي الطويلة، بعد أن مرّنت عقلي على اقتناص هدأته في كل يوم قبل أن أخلد إلى النوم، وهَدأة أطول عندما يعاندني زماني وناسي أو من أحب. رمضان هَدأتي الطويلة، انقّضُ عليها، أتشبثُ بها بمخالبي، أرجع إلى ذاتي، أحاول أن أفهم ما كان طوال سنة مضت، وما يُفترض به أن يكون. عند مغيب شموس أيام رمضان، أدقق النظر فيما يصير عليه حال مدينتي الصاخبة رُغم صغرها، «عمان» ، يتحول هذا الصخب إلى حالة تحمل جلالاً متفرداً بقدرة عجائبية، يحل الهدوء والسكينة موضع الصخب والانفلات، ويحل السلام موضع الحرب، يخفت الضجيج، ويسكن الكون. لا تكون «عمان» جميلة إلا في تلك الدقائق، عندما تغيب الشمس، ويعطي المؤذن التصريح للأكل والشرب. في كل يوم من رمضان، وفي تلك الساعة، أسأل إن كنّا قادرين أن نتحول، وننتقل من عالم صاخب ضاج إلى آخر هادئ رقيق في دقائق، فلمَ لا يكون باقي عمرنا كذلك؟
في رمضان أُصاب بنهم القراءة، لا أقبل فكرة قضاء نهار الصوم بالنوم، (هذه عادة سائدة عند بعض المتبطلين، وأحسب أنها عادة في بعض الدول الإسلامية إذ تنام الناس طوال النهار لتقوم لأعمالها بعد الإفطار). في رمضان أقرأ أكثر، أكتب القليل، أمتنع عن مشاهدة التلفزيون الذي يعرض عشرات المسلسلات بغَثّها الكثير وسمِينها القليل، لا أحتمل فكرة أن يشدني مسلسل طوال ثلاثين يوماً، أرى فيه عناء المخرج والممثلين لمَطّ أحداث هذا المسلسل حتى تملأ ثلاثين حلقة، في حين أن المشاهد العادي يعلم أنها لا تحتمل أكثر من عشر حلقات. أنكبُ على كتب لم أقرأها من قبل، وأخرى قرأتها منذ زمن بعيد، لأرى كيف سأراها من جديد. يدهشني، ويدهش من يحيطون بيّ جلوسي لساعات طويلة نهارات رمضان في رحم رواية عظيمة، أو ديوان شعر ساحر، أو كتاب فلسفة. أتفق وأختلف مع المؤلف، لا أتوانى عن وضع هوامشي وملاحظاتي، وأن أُسقط سخطي، وجوع وعطش النهار بقلم الحبر على فكرة مبتذلة، أو غبية على صفحة الرواية، أو القصيدة. يحدث أن يحين موعد الإفطار، وأنا غافل عنه، مسلوب بكل كياني ممّا أقرأ.
أميل في رمضان لقراءة أدب أمريكا اللاتينية، لا أعرف ما الذي يزيد من رغبتي في قراءة هذا النوع من الأدب في رمضان أكثر، قد تكون أجواء أدب أمريكا اللاتينية الأقرب للشرق هي السبب، وربما لكون بعض هذا الأدب يحكي عن التاريخ الحزين لشعوب هذه الأمم، والذي يشبه تاريخنا. النهم للقراءة هو هَدأة عقلي وروحي في رمضان، وهي لحظة التقائي بذاتي طويلاً. شهر كامل يا لها من غنيمة. أستعيد الكثير من الصور والذكريات لرمضانات الطفولة، أطرب لتذكرها ولمراجعة رحلة العمر، وللأحداث التي شاهدتها وعشتها، وعندما تستفزني الذاكرة وتعيد لي شهور الفاقة الطويلة والكثيرة، أنظر لما صار عليه حالنا اليوم، أفكر بأن وجع العطش، والجوع اليومي، وجع منسي يمسحه صوت المؤذن لصلاة المغرب، أما ما يبقى عالقاً في الذهن، ويطرق على الرأس بشدة فهو هذا الوجع العربي الغرائبي الذي يبدو وكأنه آت من عالم الأساطير والخرافات. رمضان صار اليوم حزيناً، ذكرياته بكل ما فيها من جمال وقبح لن تصير لأولادنا، فهم يعيشون في زمان أسقطت فيه الأنظمة كل القيم، حتى الصوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.