وأنا هنا لا اوجه ادانة الي ما اصبح عليه حالنا في رمضان.. ولكني فقط اقوم بمحاولة للرصد وقراءة الواقع، دون زيادة أو نقصان مهما تعاقبت علينا فصول العام صيفاً أو شتاءً، وبينهما خريف هين ومعتدل، أو ربيع عاصف ومترب،..، ومهما تغيرت من حولنا طبيعة الجو ودرجات الحرارة، لتحيطنا ببرودتها القارصة في الشتاء، مثل الذي مررنا به منذ شهور قلائل، أو تصهرنا بحرها اللافح وتغرقنا في بحار رطوبتها الخانقة، التي نعاني منها هذه الأيام، ..، مهما حدث ذلك، وبالرغم منه، يظل لشهر الصوم »رمضان الكريم« لدي كل المصريين، طبيعة خاصة ومذاق متفرد، لا يشابهه شيء علي الإطلاق، ولا يدانيه في طبيعته ومذاقه شهر آخر من الشهور. في رمضان صيفاً أو شتاء ترق القلوب، وتصفو النفوس ويتطلع المرء إلي مرضاة الله عز وجل، ويحاول جاهداً التقرب إليه، وتهفو إلي رحمته وغفرانه قلوب البشر ونفوسهم آملة متوسلة راجية في القبول والسماح من الرحمن الرحيم، رب العالمين، مالك يوم الدين الذي وسعت رحمته كل شيء، ..، والقادر علي المغفرة والهداية، والسميع البصير بمكنون الصدور، وما يعتمل في أغوار النفس البشرية ما ظهر منها وما بطن. ويدرك جميع المصريين هذا الذي أقوله، ويعرفون أن طبيعة الشهر الكريم تهل عليهم مع لحظة الإعلان عن ثبوت رؤية هلال رمضان، وتحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم فور هذا الثبوت وذلك الإعلان، فإذا بنا جميعاً نعيش الحالة الرمضانية بكل ما فيها من روحانيات سامية، ورغبات جارفة للتوبة والمغفرة والهداية. ولعلي لا أبالغ إذا ما قلت إني كنت ومازلت علي قناعة بأن كل المصريين في ذلك سواء، يستوي في ذلك أبناء المدن وساكنو القري، الكل يعيش الحالة الرمضانية، كلٌ علي قدر استطاعته، والكل يسعي لمرضاة الله، ويأمل في كرمه ورحمته، والكل يقشعر منه البدن، ويرتجف الوجدان، وهو ينصت خاشعاً إلي آيات القرآن الكريم أو أذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت رحمه الله والكل ينتظر دقات المسحراتي، ويطرب لها، وكنت ومازلت متصوراً أن كل الصبية مازالت تراودهم رغبات النزول لمرافقة المسحراتي في تجواله لإيقاظ وتنبيه من غلبه النوم بصوته المألوف ودقات طبلته الحادة، كما كنا نفعل ونحن في عمرهم منذ سنوات وسنوات، في أيام وليالي مازالت محفورة في الذاكرة حتي الآن. ألف ليلة.. وليلة في تلك الأيام وتلك الليالي، منذ سنوات وسنوات، كنا صغاراً في بواكير الصبا، وكانت أحلامنا كبيرة، وخيالنا يسع الدنيا كلها، وينطلق بلا حدود من زمان أو مكان، تغذيه حكايات وقصص ألف ليلة وليلة، التي كانت سمة أساسية ومميزة لرمضان، بما فيها من كسر للمألوف وقدرة فائقة علي جذب الانتباه، والاستحواذ علي المشاعر والألباب، تأخذنا معها، للغوص في أعماق البحار، حيث ممالك الجن، وتصعد بنا إلي قمم الجبال علي أجنحة طائر الرُخ، وتعود لتطوف بنا في أرجاء بعيدة في أطراف أرض الله الواسعة لترينا بعين الخيال، وتسمعنا في ذات الوقت، من خلال صوت المذياع، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. وكنا في تلك السن، وتلك الأيام، حين نلتقي مع أقراننا في المدرسة صباحاً، أو أماكن اللعب واللهو بالمساء، نتسابق للحكي عما سمعناه من قصص شهرزاد وحكاياتها لشهريار، وعادة ما كان كل منا يضيف من عنده حواشي كثيرة للقصة والحكاية، علي قدر ما أعطاه الله من خيال، وكان ذلك يسعدنا أيما سعادة، ونطلب المزيد منه ممن توفرت لديهم هذه الموهبة أو تلك المقدرة، ..، وفي كثير من الأحيان كانت قصص وحكايات هؤلاء الأصدقاء تبدأ بما جاء في ألف ليلة، ولكنها سرعان ما تتفرع بعيداً عن النص لتكون قصة أخري قائمة بذاتها، دون اعتراض من أحد، بل وسط تشجيع الكل وإنصاتهم النهم لكل ما تجود به قريحة صدقنا وخياله الخصب. وفي تلك الأيام، وتلك السن، ما بين السابعة وما بعدها حتي ما دون الثالثة عشر كنا ننتظر مدفع الإفطار، وأذان المغرب ابتداء من بعد العصر، صيفاً أو شتاء، ونحن نمرح ونتسامر، واضعين في جيوبنا بعضاً من البلح الجاف »التمر« بعدد الأصدقاء المقربين لنا، بحيث نسارع فور انطلاق المدفع، وبدء الأذان لتناولها معاً مع مشاعر دافقة من الود والسعادة، ..، ثم ننطلق إلي بيوتنا لتناول الإفطار علي موعد للقاء بعد ذلك في المساء. الحضرة.. والوِرد وفي ليالي رمضان، في تلك الأيام، وفي ذلك المكان حيث إحدي قري الدلتا، كانت لنا سهرات أسبوعية مع الكبار من الأهل، تضم الآباء والأقارب والأصدقاء من الرجال، حيث تقام بالتناوب في بيت أحدهم ليلة للدعاء، وقراءة القرآن، وبعض الأوراد ونسميها »الحضرة«، وكنا نحن الصغار حريصين علي إثبات الحضور ومحاولة مجاراتهم في القراءة من كتب الأوراد، بصوت مرتفع حتي يشعر الجميع بوجودنا ومشاركتنا لهم، ..، وكنا كثيراً ما نخطئ في القراءة، وكانوا كثيراً ما يصححون لنا في حالة انتباههم، أما إذا كانوا قد دخلوا في مرحلة من الانفعال والتدفق الوجداني، فلن ينتبه أحداً منهم إلي أخطائنا البسيطة، التي كانت تمر مرور الكرام، أو هكذا كنت أتصور، وأتمني، حتي ذلك اليوم الذي نبهني فيه عمي الكبير بعد انتهاء »الحضرة« وكنت قد أخطأت كثيراً في قراءة »الورد« وتصورت أن أحد لم يلاحظ وتهيأت للانصراف لشأن من الشئون، فإذا به يستوقفني، وكان الجميع قد انصرف حيث كانت الحضرة في منزلنا، ونظر إلي في رفق وهو يضع يده علي كتفي ويقول »في المرة القادمة لابد أن تقرأ الوِرد قبل الحضرة حتي تستطيع تجنب الأخطاء، وفي كل الأحوال يستحسن ألا ترفع صوتك كثيراً فوق أصوات الكبار« ..، وكم كان خجلي كبيراً وموجعاً في تلك الليلة، وقد آليت علي نفسي بعدها المواظبة علي قراءة الورد قبل كل حضرة، وأيضاً كنت أخفت صوتي قدر استطاعتي حتي لا أتعرض لما تعرضت له في تلك الليلة. وظللت علي تلك الوتيرة عدة أسابيع، حتي لاحظ عمي ذلك وتنبه إليه، فإذا به يطلب مني في أحد الأيام أن أقرأ له ما في الورد، فلما فعلت ولم أخطئ تهلل وجهه وهو يقول »الآن تستطيع أن ترفع صوتك وأنت تقرأ معنا«، ..، وكم كانت سعادتي كبيرة وأنا أفعل ذلك. بداية التحول كان هذا هو واقع الحالة الرمضانية التي عايشتها وغيري من الأقران، في واحدة من قري مصر ومجتمعاتها الريفية، المتشابهة مع غيرها من القري والمدن الريفية الصغيرة الممتدة بطول الدلتا وعرضها، في سنوات ما قبل ظهور الشاشة الصغيرة »التليفزيون« مع بداية الستينيات. وفي ظني أنه رغم اختلاف المكان وطبيعة الحياة وتسارع أو رتابة وقعها، وارتفاع أو انخفاض صخبها بين القاهرة حيث العاصمة، وبين بقاع الريف المختلفة في القري والمدن الصغيرة بالمحافظات، إلا أن خصائص الحالة الرمضانية لم تكن تختلف كثيراً جداً في جنوحها للروحانية، وميلها للانجراف نحو هدوء النفس ومرضاة الله. وفي اعتقادي أن الأمر بدأ في التغير والتحول والاختلاف رويداً رويداً مع انتشار التليفزيون ودخوله بيوت عموم الأسر المنتمية إلي الطبقة المتوسطة في منتصف الستينيات في الريف والحضر، وهو ما أدي إلي التأثير علي ملامح وشكل الحياة في مصر نظراً لما أحدثه من متغير علي المستوي الاجتماعي والثقافي للأسر والأفراد، وكان من الطبيعي أن يصل هذا التغيير وذلك التحول إلي الحالة الرمضانية، وأن تصبح مختلفة عما كانت، وأن تختلف نسبة التحول والتغير من مكان إلي آخر، علي قدر ما نال هذا المكان من متغيرات اجتماعية وثقافية. وأنا هنا لا أوجه إدانة إلي ما أصبحت عليه هذه الحالة الآن، ولكني أقوم بمحاولة موضوعية للرصد، وتسليط الأضواء، وقراءة للواقع فقط لا غير، ودون زيادة أو نقصان. وفي إطار هذا الرصد لما هو قائم الآن ومنذ فترة ليست بالقصيرة، يستوقفني بشدة ويستفزني بقوة، كلما هل علينا شهر رمضان الكريم، ذلك الخلط السيئ، الذي وقعنا فيه جميعاً سواء في الريف أو الحضر، بالمحافظات أو العاصمة، بين روحانيات الشهر الفضيل، والاغراق في الإسراف السفهي في الطعام والشراب، ..، كما يستوقفني أيضاً ذلك الربط الظالم والمتعسف، الذي نقوم به دائماً بين ليالي رمضان المباركة، التي يجب أن نضيئها بوهج المعرفة، ونحييها بنور التفكر والتعبد، وبين ما نمارسه من الغرق الإرادي في دوامة التسلية والسمر والسهر، ..، أو الاستسلام الطوعي لموجات الدراما وفيضان المسلسلات الكاسح علي قنوات التليفزيون المختلفة والمتعددة. إفراط وتفريط لقد بات واضحاً لكل ذي عينين، أننا وقعنا بإرادتنا للأسف، في خطأ فادح، عندما ربطنا بين شهر الصوم والعبادة، وما فيه، وما يجب أن يكون عليه، من محاولات صادقة للتقرب لله عز وجل، طلباً لراحة النفس، وهدوء القلب، وصفاء الروح، ..، وبين تلك الممارسات البعيدة كل البعد عن روح وفلسفة الشهر الكريم، وأهدافه الراقية وغاياته السامية. وبات مؤكداً وملموساً لكل ذي قلب سليم، أن فداحة هذا الخطأ الذي شاع واستشري بيننا جميعاً دون استثناء، ودون تفرقة بين عموم الناس وخاصتهم، وعلي اختلاف أطيافهم الثقافية والفكرية، وتفاوت مستوياتهم المادية والاجتماعية، يكمن في تحول هذا الخطأ في نظرنا جميعاً للأسف، من سلوك خاطئ، وفعل مذموم، ليصبح عادة مقبولة، وسلوكاً غير مرفوض، وغاية مرغوبة، وفعلاً منشوداً. ثم تطور الأمر إلي ما هو أكثر فداحة من ذلك، وأسوأ بكثير، حيث تمكن منا ذلك الخلط، وهذا الخطأ بحيث أصبح عرفاً وسلوكاً ومنهجاً مجتمعياً معمولاً به من الجميع، وملزماً للكل دونما نقاش، ودونما مراجعة، ودونما نقض أو إبرام. وإذا بنا، والقادرون منا بالذات في سباق محموم نحو الإسراف السفهي في الطعام والشراب في شهر رمضان، بالإضافة إلي التنافس علي الاستغراق التام في البحث عن وسائل للسهر والتسلية، والسمر، وإضاعة الوقت فيما لا يفيد ولا ينفع، ..، وكأن رمضان الكريم أصبح شهراً للأكل والتخمة، والتكاسل والسهر وقلة العمل، بدلاً من أن يكون شهراً للتراحم والتكافل، وفرصة ربانية لنشر المحبة والمودة بين البشر، وزيادة الترابط والمودة بين جميع فئات المجتمع. ليس هذا فقط، بل بات مستوقفاً للنظر، ذلك الحال الغريب الذي أصبحنا عليه، بحيث أصبح من الشاق علي النفس، أن يستطيع البعض منا النجاة من الموجات المتدفقة والكاسحة علي الشاشة الصغيرة، محملة بكل ما هو مرئي ومسموع علي عشرات بل مئات القنوات الفضائية طوال شهر الصوم، الذي تحول بقدرة قادر لشهر المسلسلات والبرامج، من كل لون وكل صنف، بغض النظر عما تحمله هذه المسلسلات، وتلك البرامج في طياتها ومضامينها من غث الكلام، وسوء المعني والمحتوي. تخمة الطعام والمسلسلات وفي إطار الرصد أيضاً، أصبح لافتاً للانتباه أن القليل منا هم من يملكون القدرة علي ضبط النفس، والنأي بها عن الانخراط فيما انخرط فيه بقية خلق الله في مصر، من الجلوس طوال ليل الشهر الكريم، جاحظي الأعين، مسلوبي القدرة علي إعمال العقل، محدقين في ذلك الفيض المندفع والمتتابع علي الشاشة الصغيرة من الأحداث والمسلسلات والبرامج المحتشدة والمتزاحمة ابتداء من بعد الإفطار وحتي أذان الفجر. فإذا ما أضفنا إلي ذلك أن القليل منا أيضاً هم الذين يستطيعون الفكاك من أسر الإفراط في تناول الطعام والشراب، أثناء الإفطار، وما بعده، والقليل منا من يستطيعون النجاة من مخاطر التخمة وسوء الهضم الذي ينتاب عموم الناس طوال الشهر الفضيل، نتيجة عدم القدرة علي ضبط النفس، وتركهم لأنفسهم للوقوع صرعي النهم الزائد عن الحد، في التهام أكبر قدر من صنوف الطعام والشراب، وكأنهم يأكلون في آخر زاد لهم. إذا ما فعلنا ذلك، وتنبهنا إلي ما قبله، لوصلنا إلي الحقيقة المؤلمة والموجعة التي تؤكد تحول غالبيتنا، للأسف الشديد، إلي ضحايا لتخمة المشاهدة الظالمة، وتخمة الطعام المؤلمة في ذات الوقت، بالقصد، ومع سبق الإصرار والترصد، وإننا استسلمنا بإرادتنا لهذا الوضع البائس، طوال الشهر الكريم، الذي أخذنا نمارس فيه نوعاً متطرفاً من السفه في الاستهلاك بجميع أنماطه المادية والمعنوية. والمثير للأسف في هذا الأمر، أننا أخذنا نتجاهل أن ذلك الذي نفعله الآن ومنذ فترة، يتناقض مع حكمة الصوم وفلسفته، ويتضاد مع الأهداف والأسباب الروحانية العظيمة التي فرضها الله سبحانه وتعالي علينا من أجلها، وجعله ركناً من أركان الإسلام الخمسة. كما أنه يتناقض في ذات الوقت مع ما كنا قد درجنا عليه وتعلمناه من احترام كامل لمبني ومعني شهر الصوم، وإدراكنا اليقيني بأنه شهر للعمل والتأمل والعبادة، وفرصة سانحة للاجتهاد في فعل الخير، والتقرب إلي الله، والإبحار في كنوز المعرفة والعلم والثقافة الدينية والروحانية، والدنيوية أيضاً. بل إن الأكثر إثارة للأسف والأسي في واقع حالنا اليوم، هو أن البعض منا راح بسوء الفهم، وسوء التقدير يدعي ويروج بما يسلكه من مسالك، وما يأتيه من أفعال، بأن شهر رمضان الكريم هو شهر للإهمال في العمل، والتكاسل والتراخي في أداء المسئولية والواجب، وأنه شهر للاستهلاك السفهي الزائد عن الحد. ومرة أخري أقول.. إنني لا أقصد إدانة لما وصل إليه حالنا اليوم في رمضان، ولكني فقط قصدت رصد لما يجري حولنا وما أصبحنا عليه، ..، وقد ساقني إلي هذا الرصد تداعي الخواطر والذكريات لما كنا عليه، وما أصبحنا فيه.