سريعا ما مضى رمضان ولا أوحش الله منك يا شهر الصيام الذكريات الجميلة التى ستبقى مرتهنة بلياليه الذكية، ألا وأن في القلب غصة لفراقك يا رمضان ولكن في الذكريات سلوى حتى تهل علينا مجددا إن شاء الله، ولسيت ليالي رمضان وذكرياته بالضرورة أن تكون قاهرية الانتماء بأجواء أحيائها العتيقة. لكن في ربوع مصر أجواء أخرى تجعلها لها طابعها المختلف في ذكريات وحاضر أبنائها من المبدعين، ولأن رمضان يرتبط أكثر بالذكريات ويحلو الحديث عنها، فقد سألنا الروائي أحمد صبري أبو الفتوح صاحب "ملحمة السراسوة" عن ذكرياته مع رمضان في موطنه الذي لا يبرحه إلى القاهرة إلا قليلا ولأمور ضرورية "المنصورة" وهو يفصح عن أن "رمضانه" هو الأب الحقيقي لإبداعاته الأدبية فقال: ذكرياتى مع رمضان هى ذكرياتى مع البهجة، والسلام النفسى، أول وعيي أن إجازة العيد، تصادف إجازة نصف العام الدراسى، فكانت المتعة مزدوجة، لكن رمضان كان على الدوام شيئا مختلفا، نتسابق فى الصوم ونحن صغار، ونكاد تزهق أرواحنا فى الساعات الأخيرة من اليوم الطويل، وفي آخر الليل نتسابق فى اليقظة لتناول السحور، ونسمع أطايب الإذاعة،" ألف ليلة وطاهر أبو فاشا"،" موهوب وسلامة" و"عباس الأسوانى"، "ابتهالات الشيخ سيد النقشبندى"، وسهر المندرة الكبيرة فى بيتنا، مع ليالى الشيخ حسن الذى يحيى رمضان لدينا، الكنافة البلدى بالقشطة التى تجيد صنعها أمى، و"المنقد الكبير" في الشتاء الرمضانى، وبرادات الشاى والقرفة والحلبة والينسون، والسبرتاية وفنجال القهوة، والشهوة الرائعة للطعام فى ساعات ما قبل الإفطار، صلاة التراويح والدعاء الذى لا يعرف المخاتلة، أو الرياء على الخالق، دعاء صرف، طازج، بسيط. دعوا قمر الدين وحده، هذا الشراب اللذيذ الذى أحمل له ذكريات مستمرة، والمشمشية الرائعة، والخشاف الذى كنا نستبقيه لما بعد الإفطار، ولا نبادر به، وحكايات ما بعد التراويح، نحكيها لبعضنا البعض، أو يحكيها لنا الكبار، والشياطين المصفدة فى الأغلال وسخرياتنا منها، وبلدنا الرائع وهو ينهض، يغنى ثورة يوليو الرائعة، ويهز قلوبنا هزا، فنحن أمام مستقبل منظور، وأحلام تجعل الذين كانوا خدما وشبه عبيد معنا فى قلب الحدث، والحلم، والأمل، أنا لم أعش رمضان مختلفا عن غيرى، ولكنى رأيته بعينى أنا، وخبرته بقلبى أنا، وسرحت فيه بخيالى أنا، واستمتعت به بطريقتى أنا، ربما لهذا هو لدى الجزء الأكبر من حياتى، فعشرات الحكايات التى أسهمت مع غيرها فى تشكيل عالمى الروائى كانت فى الحقيقة ابنة رمضان، ولياليه فى مندرتنا العامرة، وسهرة رمضان التى واظب أبى على إحيائها حتى انتقل إلى رحمة مولاه. أما الروائى حمدي البطران الذى ارتبط اسمه بروايته الشهيرة " يوميات ضابط في الأرياف" التى أحدثت أزمة بسبب اعتراض وزارة الداخلية عليها في منصف التسعينيات وتمت محاكمته تأديبيا بسببها، حيث كان لا يزال في الخدمة فيقول عن ذكرياته الرمطانية: شهر رمضان يشكل خصوصية لدي كل شخص , حيث يخلق كل منا طقوسه الخاصة في شهر رمضان والتي تختلف بالطبع عن طقوسه في الأيام العادية , وقد شكل لي شهر رمضان علي الدوام طقوسا خاصة , فقد عاصرناه في البرد القارس , والقيظ العنيف , وفي فترة التلمذة والجامعة , وفي العمل , وفي المعاش , وفي كل حالة , كنا نخلق لأنفسنا طقوسنا الخاصة. أذكر أنني في رمضان وكنت طالبا في المرحلة الثانوية قرأت الجريمة والعقاب, ومنزل الأشباح لديستوفسكي وقرأت عدالة وفن لتوفيق الحكيم , والضفيرة السوداء لمحمد عبد الحليم عبد الله . بالنسبة لي ككاتب , كان شهر رمضان دوما مصدرا للقراءة , فيه أقرأ كتبا اشتريتها طوال العام , ولم أجد لدي متسعا من الوقت لقراءتها , فأقرأها في رمضان , خلال الفترة من بعد الظهر إلي ما قبل الإفطار , وهي الفترة القاسية علي الصائمين , غير أنني لسبب غامض أجد نفسي غير قادر علي الكتابة خلال مرحلة الصوم, أي في فترات النهار, ولا أتذكر جوعي أو عطشي إلا عندما أتأهب للكتابة. وعندما يكون لدي عمل لم أكمله , ويأتي رمضان فإنني لا أتمكن من إكماله. تعودت علي الاستيقاظ المبكر منذ أن كنت في العمل, فقد كنت دوما أستيقظ في السادسة , وبعد المعاش داومت علي تلك العادة , إلا أن هذا في رمضان يبدو مقلقة, فالاستيقاظ المبكر في الصيام لا يريحني , ويشعرني منذ بداية اليوم بحاجتي إلي كوب الماء وطعام, وأشعر أن اليوم مازال طويلا أمامي . ولا أتمكن من النوم طوال اليوم كما يفعل البعض. أنتظر موعد الإفطار, أفطر ثم أصلي المغرب, وأظل متابعا للتليفزيون حتي موعد صلاة العشاء, أذهب الي المسجد أصلي العشاء , ولا أتمكن لفرط الزحام والحر الشديد , من استكمال صلاة التراويح, التي يصر شبابنا اليوم علي إتمامها بجزء كامل من القرآن الكريم, دون اعتبار لمساحة المسجد الضيقة, والحر الشديد . أعود الي البيت , أشعر بنوع من التقصير أمام أسرتي, لأنني عدت قبل إتمام التراويح, وإمام المسجد لا يزال يقرأ. ذات مرة , جاء شهر رمضان وأنا أحاكم أمام مجلس تأديب الضباط في القاهرة, بسبب روايتي يوميات ضابط في الأرياف , وقتها كنت أعمل في المنيا , وأقيم في ديروط مع أولادي وأسرتي, وكان معني أنني لن أتناول الإفطار معهم , وهو مال سبب لي نوعا من الضيق, كان موعد الجلسة في الثامنة مساء, في مقر وزارة الداخلية بلاظوغلي, معني هذا أنني يجب أكون في القاهرة قبلها, وبالفعل ركبت القطار الساعة الثانية، وعندما نزلت من التاكسي في باب اللوق, كان آذان المغرب قد أوشك, وكانت المطاعم قد تعودت أن تجعل الموائد علي الأرصفة لتستقبل أكبر عدد من الزبائن, تجولت في المنطقة, وجدت موائد نظيفة عليها مفارش جميلة, ورجال محترمون ينادون الناس ليفطروا, جلست , وعندما حان الآذان, تقدم مني رجل يرتدي الملابس الكاملة وقدم لي كوب به عصير المانجو , أو قمر الدين, لا أذكر, ثم جاءت الأطباق طبق كبير من الأرز عليه قطعة كبيرة من اللحوم , , وطبق به سلطة , وآخر به خضار , وبعد أن أكلت, أشرت الي الرجل الذي يرتدي الملابس الكاملة من بعيد, وحركت أصابع يدي بما يعني رغبتي في دفع الحساب, جاء الرجل مسرعا , وصافحني , وكانت في يده ورقة مالية, ولما رأي دهشتي , أشار الي لافته لم أتنبه لها , مكتوب عليها " مائدة الفنانة ... " وقتها شعرت بحرج شديد , وعزت علي نفسي , وعبثا حاولت أن أعيد المبلغ الذي أعطانيه الرجل , ولكنه أستبسل في الرجل, واستبسلت في الرفض , وتجمع بعض الناس , وهنا قال أحدهم " خلاص بأه يا أستاذ كله من خير الفنانة ..", وقتها شعرت بخزي هائل لا حدود, وأحسست أن كل الناس تعرفني, وتنظر الي لأنني أكلت في موائد الرحمن, المهم أنني فتحت يدي عن الورقة المالية فوجدتها خمسين جنيها!.