لم يكن متوقعاً أن يلقى نشر الروائية غادة السمان رسائل الشاعر أنسي الحاج إليها، ما لقي من ردود فعل متضاربة تخطى بعضها حدود السجال الأدبي واستحال ضرباً من من التحامل الشخصي والهجاء. لا تُحصى ردود الفعل التي غزت ال "فايسبوك" جاعلة منه فسحة مفتوحة أمام الجميع، كتّاباً وقراء ومتطفلين على الكتابة والقراءة. أبدى هؤلاء آراءهم قبل أن يقرأوا كتاب الرسائل، الذي لم يوزع عربياً بعد، مكتفين بما نشرت "الحياة" من مختارات من هذه الرسائل. وبعضهم وجد في بادرة غادة السمان خطوة جريئة يجب احترامها ما دام الأدب فعل حرية، وبعضهم هاجم غادة هجوماً عشوائياً ومجانياً آخذاً عليها ميلها إلى إثارة الفضائح وتحقيق المزيد من الشهرة ولو على أنقاض ذكرى قديمة ترجع إلى العام 1963. ولم يتورع أشخاص عن تذكيرها بعمرها في ما يشبه النميمية الرخيصة، مع أنّ التقدم في العمر شيمة إنسانية، وغادة تملك من النضارة ما يفوق وطأة الزمن. طبعاً هو ال "فايسبوك" شّع الأبواب أمام رواده، وما أغزرهم، ليشاركوا في معركة طواحين الهواء هذه ويكونوا دونكيشوتيين، يطلقون الأحكام كيفما اتفق، بعيداً من أي حكم أدبي أو جمالي. وكم فوجئت شخصياً عندما وجدت أنني تلقيت ثمانية وعشرين ألف "لايك" على ال "إيميل" الخاص بي بعدما نشرت مقالي عن رسائل أنسي إلى غادة، مع مختارات منها. وهذا رقم جعلني أحتار وأطرح أكثر من سؤال. عندما وقعت رسائل أنسي إلى غادة بين يديّ قرأتها للتو وبنهم، وسررت بها كثيراً، ووجدت فيها ما يشبه المفاجأة الأدبية الجميلة، فهذه الرسائل هي وثائق تُضم إلى أدبيات الشاعر وتلقي ضوءاً ساطعاً على المرحلة التي أعقبت ديوانيه "لن" و "الرأس المقطوع"، وهي مرحلة كان بدأ خلالها يخرج مما يسمى عماء اللغة وجحيمها. والرسائل هي بذاتها تحف نثرية صغيرة، كتبها أنسي بنزق الشباب وحمأة العاشق الباحث دوماً عن امرأة مفقودة. وكم أحسنت غادة في كشفها هذه الرسائل التي أدركت قيمتها الأدبية والجمالية كما أشارت في التقديم الوجيز. لم تبال بما سيقول بعضهم ويكتب. ولم تول اهتماماً للمواقف العدائية التي سيعلنها المصطادون في الماء العكر. وهي خبرت مثل هذه المواقف وردود الفعل السلبية عندما أصدرت في العام1993 رسائل غسان كنفاني إليها. ولكن، لم يكن من "فايسبوك" حينذاك، ما حصر الحملات في الصحف والمجلات، فلم تُشع ولم يشارك فيها سوى الكتّاب والصحافيين وبعض السياسيين المناضلين الذين توهموا أن غادة عمدت عبر نشرها إلى "تشويه" صورة كنفاني البطل والشهيد وإلى جعله شخصاً عاشقاً، عاطفياً ورومنطيقياً، وهزيلاً أمام الحب. وأخذ الكثيرون عليها إخفاء رسائلها إلى غسان وحاكوا قصصاً حول الرسائل المختفية. لكنّ هذه الحملات ساهمت في ترويج الكتاب فطبع طبعات عدة وما برح مطلوباً. عندما يكتب شاعر أو روائي رسائل إلى امرأة ويبعثها إليها عبر البريد (بريد الهوى كما يسميه أمين نخلة) أو سواه، تصبح هذه الرسائل ملكاً لها. هذا ما يفترض أن يعرفه الكاتب جيداً. صحيح أنه هو من كتب الرسالة لكنه لم يبق صاحبها إلا مجازاً أو "معنويا" كما يقال. أما المرأة التي تلقت الرسالة، فهي أمست صاحبتها أو مالكتها، ويحق لها أن تفعل بها ما تشاء. أن تنشرها، أن تمزقها، أن تحرقها أو تدعها في الأدراج فيأتي من ينشرها بعد رحيلها. معظم الكتاب يدركون أن مصير رسائلهم لا يبقى وقفاً عليهم، ومنهم من يكتبون الرسائل قصدا كي تنشر يوماً عقب رحيلهم، وربما في شيخوختهم. لكنّ آخرين يكتبون في لحظات من الحماسة الجياشة من غير أن يفكروا في أن هذه الرسائل قد تنشر فتكشف لحظات من فورة حماستهم. وغالب الظن أن أنسي كتب رسائله في لحظات من الاستعار الوجداني. لا تُلام غادة السمان في إقدامها على نشر رسائل أنسي الحاج إليها. كان لا بد لهذه الرسائل من أن تخرج من عتمة الأدراج، حاملة معها عبق حب هو أقرب إلى الاستيهام الجميل. لا تُلام غادة بل تستحق تحية لجرأتها وإيمانها بالحرية التي هي خبز المبدعين.