في كتابه الجديد بعنوان “قصيدة النثر: دراسة تفكيكية بنيوية”، يرصد الناقد والباحث العراقي سلمان كاصد مسيرة قصيدة النثر، وبنيتها اللغوية والأسلوبية، وتأثيرها على الأجيال الصاعدة. ويقول المؤلف إنه لا مناص من الإقرار بحقيقة ظهور جيل شكّل معطى جديدا بفعل انفتاح رؤاه على قوانين من الشعر الحديث اصطُلح عليه بقصيدة النثر تارة أو قصيدة الشعر الحر تارة أخرى، مضيفاً أن القصيدة الحديثة التي يكتبها الشعراء العرب تمتلك أسلوباً حداثيا يعنى وبشكل فاعل بقارئ النص الذي يُفترض فيه أن يكون منتِجاً للمعنى، أي قارئاً إيجابياً لا يكتفي باستقبال النص الشعري بسلبية المعنى الشعري المكتمل بذاته. ويشير كاصد في كتابه الصادر عن “دار أروقة للطبع والنشر” إلى أن القصيدة فعل سردي يقوم بالأساس على تكثيف النثر في إطار زمني مقنَّن، حتى أننا نجد ظاهرة البياض أو الحذف تلعب دورا فاعلا في مكونات القصائد التي تتطلب من القارئ إعمال الذهن من أجل استشراف العوالم المحذوفة التي وُصفت بالبياض. ويرى أن القصيدة نتاج تصور فاعل للعالم ولرؤية الشاعر، لذا فإن اختلاف رؤى الشعراء جعلهم يتلاعبون، ولو بنسب ضئيلة، في إظهار المعنى، تاركين للمتلقي تصوره واكتماله. وعليه تحولت مهمة الناقد هنا من شارحٍ للنص، كما هو عليه في تناول القصيدة الكلاسيكية، إلى قارئ مختلف يحاول بجد وإخلاص أن يتعدى حدود البنية السطحية إلى البنى العميقة بمفهوم تشومسكي. ويؤكد المؤلف أنه نظراً إلى أن السرود لا حصر لها، بل هي ذاتها امتداد لا متناه بتعبير رولان بارت، فإن اجتراح سرود مختلفة يبدو واضحاً عند شعراء قصيدة النثر في تباينهم ما استدعى منذ البدء أن نقرر اختلافهم. ويقول كاصد إن ظاهرة اختلاف رؤى الشعراء تؤكد ظاهرة تشابه مكونات قصائد الشاعر مع بعضها البعض عبر أسلوبية المحايثة التي نجدها عند قصائد الشاعرة الإماراتية الهنوف محمد التي بدت انتقالاتها في بناها الشكلية واضحة مما هو تفصيلي إلى ما هو خلاصة، أي من الخاص إلى العام، بينما قد يفارق الشاعر عبدالعزيز جاسم الآخرين بملحمية قصيدته التي تتشكل على بنى نثرية ذات هيكلية سردية حكائية واضحة. ويتوقف المؤلف عند قصيدة للشاعر خالد بدر ويرى أنها حاملة لرؤية مختلفة للعالم يبدو فيها الشاعر راصداً لانهيار العالم، وكأنه في تنازع دائم بين محاولة إبصاره للأشياء وبين غياب تلك الأشياء بالانهيار، إذ بدا الشاعر مبصراً لمأساوية الكون التخيلي الذي يصنعه عبر مأساوية الكون الواقعي الذي يراه. ويضيف المؤلف أن محاولته النصّية في الكشف عن عوالم القصيدة الحداثية جعلته يجترح مفهوم المؤثر النصي الذي يرشح المنهج ويكشف عن مكونات القصيدة، أي أن القصيدة هي التي تفرض منهجها النقدي الذي يعالجها، لذا كان تعدد المفاهيم بين التفكيكية والبنيوية طريقاً فاعلاً في سبر أغوار القصائد. ويشير إلى المواجهات المعلنة والقاسية ضد حالات التجريب التي يحاول شعراء قصيدة النثر تأسيسها، ذلك أن محاولة تأسيس جماليات جديدة تواجَه بكسر الذائقة الجمعية السائدة وباسترضاء الحساسية النقدية التقليدية وكأنها بذلك تحاول الاكتفاء بذاتها دون الاتكاء على أبَوية التقليد الشعري. ويؤكد الناقد أنه بات واضحاً أن قصيدة النثر تجربة قابلة للجدل ما دامت قد واجهت أهم معضلة في موروثنا الشعري، وهي ثنائية “الشكل والمضمون”، بسبب وعيها الحاد وثقافة كتّابها وإحساسهم بضرورة التحول نحو أنماط مختلفة، نتيجة تحولات البنى الفكرية والاقتصادية للمكونات المجتمعية المعيشة في عالم صارت فيه التقنيات المتوالدة تحاول كسر الشكل الواحد المهيمن والمضمون أحادي الموقف.