"حواديت سيما"، مجموعة قصصية جديدة للدكتور وليد سيف، صدرت مؤخرًا عن دار روافد للنشر والتوزيع. تضم 19 قصة قصيرة، تكاد تلمح فيه ما يشي بأنها لمحات أو ومضات من سيرة ذاتية. من ذلك ما يمكن أن يرصده القارئ من ملامح مشتركة، أو قريبة لرواة القصص، وكثير من شخصياتها، تتكامل مع بعضها البعض، لتصل بنا فى النهاية إلى ما يمكن اعتباره تجسيدا لشخصية مركزية واحدة، تهيمن على السرد وتوجهه.كذلك فإن تكرارية هذه الملامح وانتشارها خلال القصص، مما يقربنا أكثر من تصور أنها تنتمى إلى شخصية الكاتب نفسه، وهو ما لا ينفي دور الخيال بالطبع فى إعادة بناء هذه القصة أو تلك. من الملامح التي يمكن رصدها مثلاً والتي تجعلنا نرجع انتماء المجموعة إلى السيرة الذاتية بشكل غير مباشر ما يمكن اعتباره الانتماء الاجتماعي والثقافي لشخصياتها الأساسية، ورواتها، أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى، والذين حصلوا على مكانتهم الاجتماعية نتيجة لتحصيلهم العلمي، كما حققوا ذواتهم عن طريق ما حصلوه من ثقافة نوعية خاصة في مجال الفن والأدب، يؤكد هذا الملمح ورود بعض أسماء حقيقية في عدد من القصص، لأفراد من عائلة الكاتب، مع ذكر الاشتغالات الثقافية لهم، كما في قصتي (عرض خاص، وفي انتظار زائر الفجر). في هاتين القصتين نتعرف على شقيقي المؤلف: محمود عبدالوهاب الناقد وكاتب القصة المعروف، وكذلك مصطفى عبدالوهاب الناقد السينمائي الراحل، كما يحضر "شهاب" ابن المؤلف باسمه وصفته في قصة "الأجندة واللاسلكي". هذا إلى جانب وجود بعض القصص التي تتخذ من عالم السينما وحكاياته مادة لها، وهو العالم الذي ينتمي له المؤلف بحكم اشتغاله الإبداعي والنقدي ككاتب سيناريو وناقد سينمائي، من ذلك قصص "عرض خاص" التي يستعيد فيها الراوي ذكريات حضوره، طفلا، أحد العروض السينمائية في عرض خاص، بصحبة شقيقه الناقد السينمائي، وكذلك قصة "العصفور" التي تدور حول شخصية شاركت في فيلم "العصفور"، والمفارقات التي وقعت لها. ومن ذلك أيضًا تركيز الكاتب على تقديم الكثير من الصور التي تنتمي إلى عالم الطفولة، لذلك الطفل الذي يجمع بين ملامح البراءة والتهذيب، التي تليق بانتمائه لأسرة محترمة تهتم بتعليم أبنائها وتهذيبهم، من ناحية، وبين وعي طفلي، متذوق للجمال، متمرد في حياء، بحواس تتفتح على الحياة والحب، وتكره القيود، بما يليق بطفل سيصبح فيما بعد مبدعًا للجمال وناقدًا للفن، من ناحية أخرى. يمكننا أن نلمح ذلك المزيج في الكثير من قصص المجموعة منها على سبيل المثال "القلب يعشق كل جميل" في مثل قول الكاتب: "كانت قاماتنا قصيرة ووجوهنا طفولية كأعمارنا ولكن نظراتنا إليها الإشارة إلى المدرسة كانت تعكس عدم براءتنا"، وأيضًا في قصص "زيارة أبله سنية، ضد التيار، قمة إيفرست، السلم، المنظر الأول، الغزلان تموت كمدًا، في انتظار زائر الفجر، نجم الموسم". يلفت النظر أيضًا وبقوة في مجموعة "حواديت سيما" للكاتب وليد سيف أن 12 قصة من بين قصصها ال 19 تدور في عالم الطفولة وتستعيد تفاصيله، في مقابل سبع قصص فقط تدور أحداثها في مراحل الشباب، غير بعيدة عن تلك المرحلة، الأمر الذي يحرض القارئ على أن يعود إلى طفولته هو، ليعيش مجددًا ذلك الوعي الطفلي المتطلع، يستعيد مرحلة تفتح الحواس على الحياة والحب، فيستعيد البهجة، ويرتد مغسولاً من أعباء الزمن، وتعقيدات الآلة، وما يحيط به من كراهية ودم هنا وهناك؛ حيث ينجح وليد سيف في أن يغطس به إلى بئر الطفولة العميقة، بمياهها الزرقاء النقية التي من شأنها العمل على إذابة ما علق بأرواحنا من أدران، وما تخثر فيها من مشاعر وآمال وأحلام. وقد وفق الكاتب، إذ اختار لمجموعته اسم "حواديت" ذلك أنها بالفعل تحاول استدعاء النمط الشفاهي للحدوتة، ببساطته، وعدم اهتمامه بتعقيدات التكنيك، والحبكة، قدر إخلاصه لمادته ذاتها، واهتمامه بأن يصل إلى متلقيه بتلك الحكايات التي لا بد أن تتسم بالطرافة، وتثير المتعة، بل وتحقق شرط التسلية أيضًا. هكذا يتناغم شكل السرد مع مادته، فتنجح المجموعة في إحداث الأثر النفسي والجمالي، لدى متلقيها، بفضل بساطتها في الولوج إلى عالم الطفولة، واستعادته ببراءته وشقاوته، وتفتحه، الأمر الذي لا أحسبه يصب في خانة الحنين إلى الماضى، بقدر ما أعتبره محاولة لتجديد الحياة، بل وإعادة ولادتها من جديد، وكنوع من المقاومة الإيجابية لزحف القبح على العالم، وطغيان القسوة. ربما كانت هذه الدوافع غير الواعية أو الواعية، من يعرف؟! هي التي شكلت الاستراتيجية التي وجهت وعي الكاتب، ومن ثم قصص المجموعة نحو استعادة عالم الطفولة، ويؤكد هذه النتيجة لديّ وعي الكاتب نفسه، الذي تجلى عبر صوت أحد رواته في قصة "دفء سناء" والذي تعرفنا خلاله كيف يتغلب بالجمال والرقة على قبح الواقع وقسوته، وهو ما يمكن رؤيته كذلك بوصفه العنصر الشارح والمعادل لعلاقة الكاتب بعالم الطفولة، الذي يشكل العنصر الأبرز، والمهيمن، في المجموعة، يقول الراوي: "مر شريط الذكريات في لحظات خاطفة وسناء ترددها بعينيها الواسعتين الصافيتين، ببريقهما المشع من وجهها الجميل، لتمحو من ذاكرتي كل العيون الموحشة والميتة وكل الوجوه القبيحة اللزجة .. قالتها بارتعاشة شفتيها وأنفاسها اللاهثة العطرة الدافئة لتبدد هواجسي ومخاوفي ورعشتي .. تأملتها مليًا أستنشق مشاعر الود والحنان وأزيل من قلبي كل ما تراكم به من مشاعر حقد وكراهية لعالم يسحقني ويتصيد أخطائي ولا ينشغل بحالي .. كانت روحها الطيبة تحيط بي كظل وارف يحميني من قسوة الشمس وأمطار الصيف". هكذا أتصور أن حديث الراوي في المقطع السابق يمكنه أن ينسجم أيضًا مع رؤية الكاتب لعالم الطفولة، ويبرر عودته إليها عبر أكثر من 12 قصة من قصص المجموعة .. ذلك لتمحو من ذاكرته كل العيون الموحشة والميتة وكل الوجوه القبيحة اللزجة، وتحيط به روحها الطيبة كظل وارف يحميه من قسوة الشمس وأمطار الصيف. انزع فقط اسم "سناء" من هذه القصة، وضع مكانه "الطفولة" ثم أعد قراءة القصة، وعلى هدي ذلك أعد قراءة المجموعة. إنها سردية غنائية أحسبها قد وفقت فى شغل تلك المساحة بين زمن الحكي، وزمن الحكاية، وفقت في شغل تلك المساحة بالبهجة والشجن معًا.