في الثقافة العربية مايزال الخلط ما قائما، إلى اليوم، بين المصطلحين (ontology) و(anthology) وكلاهما يونانيان، فالأول يعني “علم الوجود”، بينما الثاني يعني “المختارات” و”المقتطفات”، هذه الإشارة بمناسبة صدور العمل البحثي الرائع والجهد المميز الذي نهض به الناقد شوقي بدر يوسف ممثلا في مختارات جمع فيها نصوصا سردية لكوكبة من الكاتبات الرائدات في لبنان. تتيح هذه المختارات فرصة أمام الدارسين والباحثين ليُطلوا على هذا الفضاء الرحب الثري، لمن أراد أن يخوض بحر السرد النسائي القصصي في لبنان. يرى الباحث أن النصوص القصصية المختارة إنما تعبر عن تجسد مخيلة الكاتبة اللبنانية في هذا النوع السردي الماكر المخادع المعبر عن الذات الأنثوية وعلاقتها بالآخر وعن صورة الحرب والمقاومة وعن الأحداث اليومية المؤثرة في الذات وأوجه الحياة المختلفة، كيف لا وهي الخصوبة الأنثوية الطالعة من رحم المخيلة عند المرأة وهي الحساسية الحكائية التي تصنع قصصها في مواجهة فك العزلة عن طبيعة المجتمع وقضاياه الملحة التي تحتاج إلى رؤية أدبية فنية لشرح خطوطها؟ يعترف الباحث أن الكتابة عن القصة القصيرة في لبنان من الموضوعات قليلة التناول في حقل الدراسات داخل لبنان وخارجها. محاولة اكتشاف خصوصية الكتابة القصية لدى الكاتبات اللبنانيات في مجال القصة القصيرة يقود لنفس النسق الذي تعيشه المرأة والمبدعة العربية في فلسطين والعراق ومصر غير بعض الخصوصيات التي تميز الكاتبات في لبنان كالعمل في الصحافة والمنفى الاختياري بالهجرة لأوروبا وظروف الحرب وخصوصية الساحة اللبنانية التي تنفتح على أكثر من ساحة في الغرب والشرق ، تنعكس بأبعادها الثقافية والسياسية والاجتماعية على وعي الكاتبات وطرائق تفكيرهن وأساليبهن وزاوية النظر لديهن. السكاكيني من رائدات الكتابة النسوية يشير الكاتب إلى قلة الدراسات التي سبقت عمله هذا فيقف عندها منوها أن أولها جاء على يد محمد يوسف نجم ، إلا أن الإصدارات التي تناولت مشهد القصة القصيرة في لبنان بحثيا وأنطولوجيا غير كافية ولا شاملة وأن المشهد لا زال يعاني أزمة نقدية حادة تحدد واقع التجربة وطبيعتها. يقف الكاتب أمام سبق الريادة في القصة النسائية اللبنانية ويرى أن وداد سكاكيني وروز غريب هما من كاتبات النص الأول من القرن العشرين. وممن برعن في استنشاق رحيق الحياة كما يرصد الكتاب تحولات القصة النسوية التي طرحت تجاربها معبرة عن تطورات هذا الفن وتحولاته وقضاياه من خلال ما تم نشره عبر السنين، حيث يرى أن أول مجموعة قصصية وصلتنا كانت مجموعة وداد سكاكيني بعنوان «مرايا الناس» عام 1945. ونوهت بها الناقدة يمنى العيد بقولها “توسلت وداد سكاكيني لغة وصفية تحليلية أعانتها على النفاذ إلى المستويات النفسية لشخصيات قصصها خاصة قصتها “هاجر العانس″ التي تمكنت فيها المؤلفة من كشف عوالم هاجر النفسي ومن متابعة تحولاتها السلوكية بوصفها تحولات ناتجة لا عن طبيعة هاجر وإنما عن محيطها العائلي والاجتماعي. أما جيل الوسط من الكاتبات فتحتله كل من إميلي نصر الله وليلى عسيران وليلى بعلبكي وغيرهن. حيث أصّل هذا الجيل فن القص في المشهد القصصي اللبناني ومنح المشهد بعض ملامح القصة الفنية المعاصرة وبدأت ملامح هذا الجيل ترمي بظلالها على المشهد وتؤصل فنية الجهد الذي تبذله كاتبات هذا الفن حيث بدأ هذا الفن يأخذ مسارا جديدا في الكتابة الأنثوية خاصة بعد ظهور أعمال ليلى بعلبكي، رواية “أنا أحيا” على وجه التحديد سنة 1958 ورواية الآلهة الممسوخة عام 1960 ومجموعتها القصصية اليتيمة “سفينة حنان إلى القمر” الصادرة عام 1963 وأثارت بصدورها الكثير من النقاش والجدل. حيث يُلاحظ شوقي بدر يوسف أن ظهور القصة القصيرة جاء وزخم الرواية يكتسح المشهد الأدبي اللبناني، وهوما أحدث توازنا معقولا بين القصة والرواية بعد أن كانت القصة القصيرة تحتل مرتبة ثانية بعد الرواية التي اشتركت مع القصة القصيرة في جرأة طرحهما وسخونة الموضوعات التي وظفت في كل منهما. تناول شوقي بدر يوسف في منجزه مع 32 كاتبة، ليسدّ بذلك نقصا كبيرا في متابعة السرد القصصي في لبنان، متوقفا مع حياة الكاتبة ومقدما إثباتا لأعمالها المنشورة بتفاصيل النشر الببليوغرافية من مكان النشر وتاريخه، وما قيل عن الكاتبة وعن كتاباتها بأقلام نقدية معروفة لبنانيا وعربيا مع إضاءة لمجمل ما يُميز إبداع كل كاتبة، ثم أورد لكل كاتبة نصا يمثل تجربتها ويدلّل عليها ..