بين ما تكتبه المرأة وما كتب عنها نعيش مع كتاب للناقد شوقي بدر يوسف ، احد النقاد المهتمين بشكل خاص بالكتابات النسائية ، من احدث دراساته النقدية تلك التي صدرت حديثا في كتابه الجديد تحت عنوان " القصة القصيرة النسوية اللبنانية "انطولوجيا " والذي تضمن أشهر أعمال الكاتبات في لبنان ، الذي سرد فيه الكاتب مجموعة قصص قصيرة تشمل إبداعات قاصات لبنانيات، وما تجسده عبر مخيلتها الحكائية منذ الإرهاصات الأولي وحتي آخر ما توصلت إليه القصة عند كاتبات هذا العصر. من بين الكاتبات المبدعات اللاتي قدمها الناقد شوقي بدر يوسف في كتابه الجديد اخترت الكاتبة " ليلي بعلبكي " و الكاتبة "غادة السمان".لان الأولي هي أول من كتبت الرواية بشكلها الحديث بجرأة والثانية لأنها الأكثر شهرة في المنطقة العربية . يقول المؤلف في كتابه :تمثل ليلي بعلبكي المولودة عام1936 في ساحة السرد النسوي اللبناني أيقونة مهمة لها توهجها باعتبارها من أوائل الروائيات والقاصات اللبنانيات التي أيقظت مارد التمرد عند المرأة وأخرجته من قمقمه لينطلق إلي آفاق جديدة لم يكن قد تعّود عليها قبل ذلك. لقد كانت صيحاتها في "أنا أحيا"، و"الآلهة الممسوخة" مدوية في ساحة الكتابة السردية العربية في أواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، وعلي الرغم من أنها بدأت إبداعها بالرواية إلا أن القصة القصيرة عند ليلي بعلبكي كانت لها رؤية جديدة غير مألوفة في المشهد القصصي اللبناني أيضا مما أثار حولها جدلا كبيرا طال الكاتبة والكتابة ذاتها، فقد كانت أعمالها بداية التأسيس للرواية النسائية العربية، وكانت وقت صدور بواكير أعمالها الروائية وهي رواية "أنا أحيا" 1958 علامة فارقة في السرد الروائي النسوي آنئذ، حتي أن بعضهم قد لقبها بفرانسوا ساجان العرب لجرأتها في معالجة تمرد المرأة وحريتها الذاتية في هذا العمل، وكان لصدور هذه الرواية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي صدي واسعا في حقل السرديات، حيث أنها انتقدت في هذه الرواية التقاليد العربية، وبدأت في رؤيتها الإبداعية الجديدة وفي هذه التجربة البكر في الرواية العربية اختراق بعض التابوهات الاجتماعية والدينية ، والمتابع لأعمال ليلي بعلبكي يجد كم الحرية التي نادت به الكاتبة في نسيج نصوصها الروائية والقصصية، ففي قصة "حين تساقط الثلج" يذهب الزوج في نزهة إلي الجبل ويترك زوجته في المنزل دون أن ترافقه كالعادة. تجلس الزوجة طيلة النهار وهي تبكي وتتمني موته حتي تتشفي منه وتنتقم لنفسها من هذا الظلم الذكوري، وفي قصة "كنت مهرة صرت فأرة" تفر الزوجة من زوجها الذي منعها من الرقص حيث كانت راقصة باليه، وهي بفرارها تتغلب علي رغبتها في مواصلة التزاماتها لأسرتها حتي ولو علي حساب رغبة الزوج وإرادته. عندما نتحدث عن إبداع غادة السمان فكأننا نتحدث عن الأدب النسوي اللبناني بكل مقوماته، ورؤاه، وأشكاله المختلفة، وبكل ما يحمل من قضايا وإشكاليات، وعلي الرغم من أن الكاتبة سورية الأصل إلا أن معايشتها للبنان وتواجدها علي أرضه جعلها محسوبة علي الأدب في لبنان بإلحاح شديد، كما هي محسوبة أيضا علي الأدب السوري من خلال المنبت، والنشأة والدراسة، وإن كان الأدب العربي علي إطلاقه يتعايش مع إبداعها وينهل من أعمالها الكثير، لذا فإننا سوف نحسبها علي أدب المنطقة العربية كلها، ومن قصصها في هذه المختارات قصة "يدعّون الشمس تشرق من إسرائيل!!"، وهي قصة سياسية تضاف إلي محور المقاومة مع العدو الصهيوني في كتابات المرأة .إن غادة السمان تمثل مع كوليت خوري وليلي بعلبكي مثلثا متساوي الأضلاع في الأدب النسائي كل ضلع يمثل حالة من حالات الإبداع المتميز والمؤثر في كتابات المرأة ،إلا أن غادة السمان بمحبرتها الذاتية وقلمها المتميز وإبداعها المتوازن بين المتخيل الذاتي والواقع المتحلق حول الشأن العربي بقضاياه المختلفة الاجتماعية والثقافية والسياسية حفرت لنفسها أخدودا خاصا متميزا في الأدب العربي الحديث ، وقد شرعت غادة السمان في أول مجموعاتها القصصية وهي مجموعة "عيناك قدري" التي أهدتها إلي والدها، في تأصيل جوانب عالم المرأة من خلال الحياة والحب والعاطفة المستثارة في نسيج قصص هذه المجموعة، وقد اختارت القصة الأولي كعنوان لقصص المجموعة، وفي هذه القصة تعبر الكاتبة عن مشاعرها باعتبارها امرأة كبلها الحب وسبب لها أزمات نفسية عديدة، وهي كما تصور في نهاية النص حين تقول ":عيناك قدري، لا أستطيع أن أهرب منهما وأنا أرسمهما في كل مكان وأري الأشياء من خلالها"، "عيناك قدري.. لا أحد يهرب من قدره يا عماد" ، وفي مجموعتها الثانية "لا بحر في بيروت" جسدت غادة السمان واقع الحياة من خلال شخصيات بعضها نمطي وبعضها غير مألوف تعبّر فيها عن العلاقات السائدة بين الرجل والمرأة خاصة الموضوعات المتسمة بالخيانة في هذا الجانب. حتي إنها تتساءل في قصة "لعنة اللحم الأسمر" عما إذا كان هناك رجل يستطيع أن يفهم مشاعر المرأة، بطريقة مباشرة وليس عن طريق العلاقات الجسدية، وهو ما أجابت عنه بعد ذلك في قصة "غجرية بلا مرفأ"، أما المجموعة الثالثة وهي مجموعة "ليل الغرباء" فهي مجموعة تشي بعنوانها حيث تجسد المتناقضات الممتلئ بها المجتمع ومفارقات الحياة بقضاياها المربكة. ولنأخذ مثلا من هذه المجموعة قصة "فزاع طيور آخر"، القصة تحكي عن قاض يؤمن بالصدفة البحتة فقط، ولا يبحث في أمور العدالة في القضايا التي ينظرها من جوانبها الموضوعية، يعتقد أن الصدفة هي سيدة العالم والحاكمة فيه، لذا لم يكن يصدر الأحكام انطلاقا من الحيثيات الموضوعية للقضايا، إنما كان يختلي بنفسه ليلقي بقطعة نقود في الهواء، علي إحدي وجهيها كتب "مذنب"، وعلي الوجه الآخر "برئ". والصدفة فقط هي التي تقرر مصير أي متهم.. أما مجموعة "رحيل المرافئ القديمة" فقد رصدت غادة السمان فيها الهزيمة بكل سقطاتها وزلاتها، رصد فعل الهزيمة كاملا كما رأته وكما عايشته في أزقة وشوارع بيروت، وهو ما انسحب بشدة وبقوة علي أزقة وشوارع باقي المدن العربية الأخري ": ... الأرصفة مرشوشة بالناس، يتنكبون الترانزستور كالبنادق المكسورة، ويمشون بتثاقل الجنود المهزومين، ينصتون إلي الأخبار وإلي أغاني أم كلثوم وبين فئة وأخري تفوح رائحة الحشيش الذي حشوا به لفافاتهم.. الشعب الفقير الحزين المتعب، يترنح فوق الأرصفة وخلف نارجيلات المقاهي كمن أصابته ضربة في رأسه لما يصح منها بعد.. وبعد لحظات بدأت أشعر أن رائحة العفونة التي كنت أظنها تنبعث من البحر بفعل حرارة الجو قد تكون رائحتنا نحن.. نحن الناس المهزومون المقتولون دون أن ندري. الراكضون بجثثنا في شوارع العواصم العربية والمدن والقري.. كان واقع الهزيمة هو الحاضر في هذه المجموعة، عبّرت عنه الكاتبة بثلاثة نصوص جسدت الفعل الكبير الحادث علي المستوي النفسي والقومي.