في الديمقراطيات الحديثة نجد أن إدارة المحافظات والأقاليم والمحليات هي معمل لتفريخ السياسيين باعتبار أن السياسة منذ اخترعها اليونان الأقدمون هي خدمة الناس.. ولا يمكن لأي وزير أن ينجح في وزارته ما لم يكن قد تعلم الاحتكاك بالجماهير من خلال عمله في المحافظات. أقول ذلك وفي ذهني أمران الأول أن الرئيس الفرنسي الحالي ساركوزي كان عمدة أو محافظًا لاقليم فرنسي يقع في ضواحي باريس، وكذلك كان الرئيس السابق جاك شيراك كان عمدة العاصمة باريس.. وينطبق ذلك علي كل رجالات السياسة في فرنسا وأوروبا. فكأن العمل كمحافظ أو عمدة هي العتبة الأساسية التي يتحتم الدخول منها إلي الاستوزار والجلوس في المقاعد التنفيذية العليا. الأمر الثاني يتعلق بسؤال هو التالي: إذا كنا نحرص علي أن نحذو حذو الغرب ونقلده في أشياء كثيرة فلماذا لا نأخذ بهذه القاعدة الديمقراطية التي تضمن النجاح للحكومة والنظام ولماذا يهبط علينا الوزراء فجأة دون سابق معرفة لهم بعمل الوزارات التي يجلسون علي مقاعدها؟ بكلمة أخري لماذا ونحن بصدد تشكيل حكومة لا نبحث بين المحافظين الذين اثبتوا كفاءة وتميزا ليشغلوا المناصب الوزارية والانصاف يقضي بالقول إن بين المحافظين وحكام الاقاليم في مصر "عدد" نجح في إدارة ديوان المحافظة، وكسر القاعدة التي كان معمولاً بها هي أن المحافظة يمكن اختزالها في مدينة واحدة هي العاصمة فالشرقية هي الزقازيق، والدقهلية هي المنصورة، ودمياط هي دمياط فقط، والغربية هي طنطا، وهكذا.. وفي الزمن القديم لم يحدث أن زار "المحافظ" اية قرية، أو فكر في شكاوي سكان الكفور والنجوع، ولذلك استطيع ان احكم علي هؤلاء بالفشل في السياسة والإدارة والحكم. واشهد اننا نعيش مرحلة أخري كشفت لنا فيها الأيام عن عدد من المحافظين يفهمون السياسة علي صورتها الصحيحة وهي خدمة المواطنين والاقتراب منهم ورفع الأعباء - ما استطاعوا - عن كواهلهم منهم علي سبيل المثال محافظ الدقهلية اللواء سمير سلام الذي وضع برنامجًا مكثفًا يزور فيه قرية أو نجعًا أو كفرًا يوميًا، وتكون المفاجأة أن يكتشف الفلاحون أن الذي يقف أمام بيوتهم أو في حقولهم أو داخل الأسواق يرقب عملية البيع والشراء هو محافظ الدقهلية الذي اعترف كثيرون منهم انهم لم يروا المحافظ ولو مرة واحدة في حياتهم. ولقد أقام اهالي قرية المهندس الواقعة في ضواحي مدينة شربين بمحافظة الدقهلية حفلا بهيجا دون ترتيب سابق بينما كان يسير اللواء سمير سلام بينهم في شوارع القرية وكانت سعادته تفوق سعادتهم هو يقول إنها رسالة اؤمن بها وأحاول ان اقوم بها مؤكدًا أن للمواطنين حقوقا يتعين علي ان اسمعها بنفسي. ويتحدث ابناء القري النائية مع بعضهم البعض عن الزيارات المفاجئة التي يقوم بها المحافظ فلقدزار قرية في ضواحي ميت غمر وأخري في ضواحي ميت عبيد وثالثة في ضواحي دكرنس ورابعة في ضواحي جمصة. أكد تواصله معهم بفتح مكتبه مساء كل يوم اثنين يجالس المواطنين مباشرة ودون وسيط. ولقد أمر أن تجوب القوافل الطبية القري والأقاليم تحمل الأطباء من كل التخصصات فضلاً عن الأدوية والعلاجات من كل لون وصنف وزار المدارس وتوقف في المكتبات وامر مديريات التربية والتعليم في المراكز والمحافظة بتزويد هذه المكتبات بكتب مفيدة للتلاميذ تقوي الشعور بالمواطنة والانتماء لمصر الأرض والسماء والقيادة وكذلك ضرب الرجل المثال في حسن وفن إدارة الاقاليم ولهذا اعتقد أن نجاحه في موقعه كمحافظ يرشحه لأن يكون وزيرًا خدمياً ناجحًا وبارعًا لأنه قد خبر السياسة ومارسها واقترب من المواطنين وشعر بهم ووثقوا فيه فازدادت ثقتهم في النظام والقيادة. انني ارشح هذا الرجل لوزارة من الوزارات، صحيح سوف تخسره محافظة الدقهلية لكن ستكسبه مصر كل مصر كما ارشح المحافظين الآخرين الذين ينشغلون - في كل وقت - بإدارة الأقاليم والذين قد كسروا الحواجز الفاصلة بين الريف والحضر. إذا كنا نريد أن تضرب الديمقراطية بجذورها في بلادنا فليكن اختيار الوزراء من بين الناجحين في إدارة المحافظات فلقد ثبت فشل الاختيارات الحالية في الوزارات سواء من التكنوقراط وأساتذة الجامعات أو من المتخصصين في بعض الفروع.. المحك الحقيقي للاختيار إلي المواقع السياسية التنفيذية العليا هو النجاح في التعامل مع المواطنين وكسب ثقتهم لأنها تصب في النهاية في رصيد الثقة في الحكم والقيادة.