.. المعيار الذي أتحدث عنه تأخذ به الدول الكبري, والديمقراطيات العريقة, وأقصد به معيار خدمة الناس, فالسياسة منذ وضع نظرياتها الأولي.. اليونان الأقدمون مردودها النهائي هو الشعب. لذلك عندما وصفوا الديمقراطية بأنه حكم الشعب بالشعب وللشعب لم يكن ذلك من قبيل الطباق أو الجناس اللغوي كما يري اللغويون وعلماء النحو, وإنما هو تصوير لواقع السياسة التي لم تخلق بالأساس إلا لخدمة الناس والشعب والمجتمع. واليوم يوصف أي حكم أو نظام سياسي( بالرشادة) كلما اقترب من الناس في بيوتهم ومتاجرهم, ومكاتبهم, فالحكم الرشيد هو الحكم الذي يعلي من شأن المواطن العادي ولن يفعل ذلك أحد إلا اذا غاص في مشكلات الناس, واعتاد أن يجالسهم من خلال رموزه, أو ممثليه في المجالس القروية أو المحلية وعبر الخلايا القارية للأحزاب والنقابات. وكلنا يذكر أن ألمع رجال السياسة في أوروبا كانوا الأصل رؤساء مجالس ومدن أو( قري).. وكانوا ممثلين لمهن وأحزاب ونقابات, فجاك شيراك( في فرنسا) كان عمدة لمدينة باريس قبل أن يصبح وزيرا أو رئيس الوزراء أو حتي رئيسا لفرنسا.. وكذلك نيكولا ساركوزي تدرب حسبما يذكر في مذكراته وهي بعنوان ساركوزي من ألف إلي ياء في عمل المحليات عندما كان نائبا في مجلس فردي صغير ثم صعد ليكون عضوا ورئيسا لمجلس مدينة في ضاحية باريسية.. ويؤكد أن احتكاكه المباشر بالناس أعطاه خبرة وحنكة في التعامل مع جماهير السياسة بعد ذلك. واذا أوسعنا الدائرة في القارة العجوز, وانتقلنا إلي ايطاليا أو اسبانيا وانجلترا وجدنا أن المجالس الفردية التمثيلية هي بمثابة معمل لتفريخ رجال السياسة.. ففي دهاليزها وبين أبوابها اتفقوا واختلفوا واكتسبوا خبرات في التعامل مع هموم المواطن العادي. وفي ظني ان مصر قد أدركت في هذا الاطار أكثر من حقيقة منها أن حراكها السياسي الذي تعيشه منذ سنوات, قد وضع في اعتباره أن يربط السياسة( في الداخل) بالسياسة في الخارج, انطلاقا من قناعة راسخة مؤداها أن خدمة الناس, أو ما يعرف بمحدودي الدخل هو حجر الزاوية في أي عمل سياسي ناجح. الحقيقة الثانية أن السياسة( كل لايتجزأ) فلا تستطيع أن تتحدث عن سياسة( خارجية) ناجحة, وأخري( داخلية) فاشلة, فكما يقول علماء السياسة الخارج انعكاس للداخل, أو هكذا ينبغي أن يكون. الحقيقة الثالثة أن عجلة الاصلاح السياسي لايمكن أن تنطلق في حرية وأن تؤتي أكلها كل حين إلا اذا كان نجاح السياسية الداخلية دافعا أكبر لنجاح باهر للسياسة الخارجية. الحقيقة الرابعة هي أن سياسة مصر الخارجية حققت لمصر أمنا واستقرارا وجنبتها أهوال( مواقف) كان يمكن أن تدفع مصر دفعا نحو أتون حرب لن تبقي ولن تذر في حال اندلاعها وهو ما يحسب للقيادة السياسة في كل الأحوال. لكني وهذا مما يؤسف له السياسة الداخلية وأعني بها حركة المؤسسات المحلية في الداخل يشوبها كثير من النقصان, فالشوائب, والقرارات غير المدروسة وغياب السلطة, ونقص الخبرة, والعجز في وضع الرؤي وتهميش الجماهير, وانعدام الثقة.. كلها سمات أصبحت لصيقة بشكل أو بآخر ببعض المواقع في المجالس المحلية. وأتصور ان مصر قد أدركت هذه الحقائق جميعا, ولذلك كانت التوجهات الرئاسية بالعودة إلي تشكيلات العمل التمثيلي المختلفة في الحزب, والنقابة, ومجالس القري والمدن باعتبارها جميعا خلايا قاعدية للعمل العام.. ثم إمكانية تصعيد من حققوا في هذه التشكيلات نجاحا من نوع ما ولعل اختيار اللواء عبدالسلام المحجوب محافظ الاسكندرية السابق ليجلس في مقعد وزير الحكم المحلي هو المثال الصارخ الذي كرس هذا التوجه فالناجح من المحليات يمكن ان ينجح ألف مرة نجاحا باهرا في الوزارة.. وليس من شك في أن مصر أحوج مايكون إلي تكرار هذه التجربة باعتبار أن الناجح في الدوائر الأضيق يمكن أن يكون كذلك في الدوائر الأوسع والأكبر.. وخلاصة القول في هذا المعيار الذي أشرت إلي أنه ليس غريبا عن الديمقراطيات العريقة والعتيقة في عصرنا الحالي أن المحليات والمحافظات يمكن أن تكون ساحة للتدريب علي السياسة بمفهوم خدمة الناس, والانطلاق من واقعهم الصعب والشائك.. بمعني أن تكون مصنعا لانتاج السياسيين والوزراء ورجال الدولة. والانصاف يقضي بأن أذكر ثلاث حالات لايختلف حولها اثنان عاقلان وتؤكد بالدليل القاطع أن الداخل يمكن أن يكون رافدا للخارج فخدمة جماهير محافظة ماهي والحال هذه أشبه ببروفة نجاح أمام جماهير وزارة في كل أنحاء مصر. الحالة الأولي يمثلها اللواء عادل لبيب محافظ الاسكندرية الذي يبكي علي فراقه حتي اليوم سكان محافظتي قنا, والبحيرة, فكلنا يعلم أنه أحدث ثورة اصلاحية في كل أنحاء محافظة قنا, واقسم اني قرأت رسائل كان يبعث بها سكان قنا إليه تفيض ألما وحزنا لأنه تركهم وكلنا يذكر أنه لم يمض في دمنهور سوي ستة أشهر لكنه أحدث فيها اصلاحا أتمني أن تدور عجلته ولاتتوقف, وتبين لي أن سر نبوغ عادل لبيب هو روح المبادرة التي تتقمص جسده واستعداده لتحمل تبعات أية مسئولية ثم ثقته في مصر وقيادتها وحب هذه القيادة للشعب المصري. الحالة الثانية نجدها علي قدمين في شخص اللواء سمير سلام محافظ الدقهلية الذي يحلم( صباحا ومساء) بتخفيف العبء علي سكان الكفور والقري والنجوع, فالتف حوله ابناء الدقهلية الذين وجدوا أنفسهم لأول مرة أمام( محافظ) يري أن الدقهلية أوسع وأرحب من مدينة المنصورة ولاشك أن التفاف الناس حول اللواء سمير سلام هو التفاف حول القيادة السياسية, ونظام الحكم الذي جدد الناس فيه ثقتهم حبا وتقديرا.. انطلاقا من السيد المحافظ. الحالة الثالثة تأتي هذه المرة من دمياط حيث استطاع محافظها الدكتور فتحي البرادعي أن يضيف إلي النظام السياسي مكاسب عديدة, وأن يربط حركة هذه المحافظة الصغيرة بانجازات مصر الكبري.. ولعل أهم مكسب هو أن د. البرادعي أكد اللحمة التي تربط شعب دمياط بالقيادة السياسية, وقد بدا ذلك من احتفاليات كثيرة أقامها الدمايطة في مناسبات قومية عديدة.. أما المكسب الثاني فهو أن دخلت دمياط علي يديه القاموس السياسي عندما ضربت المثال وكانت القدوة في العمل الأهلي المكمل للسلطة والنظام, وليس المتعارض معه.. إلا نماذج مفعمة بحب الوطن والقيادة أفسحت لها المحافظات أو المحليات الفرصة لكي تكون المثال في القيادة الواعية والواعدة.