يستحيل أن نفهم معنى ما نحن فيه الآن، مقارنة بما عند الدول الأخرى، إلا إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً، لنرى كيف كانت البداية، ثم كيف اتسعت الفجوة بين الحصيلة هنا، وبينها هناك! ففى اليونان القديمة، وكان ذلك قبل الميلاد بنحو ستة قرون، كان عندهم حاكم لمدينة أثينا اسمه «كليثنس»، وكان هو أول من وضع عملياً أساس الحكم الديمقراطى الصحيح فى العالم، عندما قرر ذات يوم، نقل الحكم إلى الشعب، فاختار 50 رجلاً من كل قبيلة من قبائل اليونان العشر وقتها، ليتشكل منها أول برلمان فى الدنيا، يعبر فعلاً لا شكلاً عن إرادات الناس! وحين جاء فلاسفة اليونان من بعد خصوصاً سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، فإنهم وصفوا الإنسان بأنه حيوان سياسى، ولم يكن الوصف شتيمة، بقدر ما كان يريد أن يقول إن الإنسان قادر على أن يدير نفسه ويدير غيره، بشكل منظم وبطريقة مرتبة فى الحكم. وكانت هذه البداية، لدى اليونان، مجرد خطوة أولى فى حاجة ممن يريد أن يستفيد منها، فى حكم بلاده إلى أن يأخذها ثم يطورها ويبنى عليها دون أن تفقد بالطبع معالمها الأساسية، وهى أن يكون الحكم للشعب. ولذلك فإن الآباء المؤسسين الستة للولايات المتحدة، فى منتصف القرن الثامن عشر أخذوها ثم أدخلوها «الخلاط الأمريكى» إذا جاز التعبير، لنجد أنفسنا فى النهاية، أمام كونجرس أمريكى، قريب الشبه جداً من حيث طريقة تشكيله، من تجربة ذلك الحاكم اليونانى القديم، وقبائله العشر.. ففى مجلس الشيوخ الأمريكى، يمثل كل ولاية من الولايات الخمسين، نائبان، أياً كان حجم الولاية، ولكن التمثيل فى مجلس النواب حسب حجم الولاية لتظل كاليفورنيا مثلاً أكبرها من حيث عدد نوابها.. وهكذا كانت الخلطة الأمريكية ساحرة! وفى إنجلترا كانت الخلطة أن الملك يملك ولا يحكم، وكانت ديمقراطيتهم، ولاتزال من أعرق الديمقراطيات فى أنحاء الأرض، لا لشى إلا لأن ما لله هناك لله، وما لقيصر لقيصر دون أدنى خلط بينهما! وفى فرنسا كانت الخلطة أن فترة الرئاسة خمس سنوات، بعد أن كانت ستاً ثم خفضها شيراك وكان الأهم من ذلك أنه لم يحدث أن رئيساً عندهم بقى فى الحكم لأكثر من فترتين، ليس لأن الدستور يقف فى طريقه، وإنما لأن الحياء دائماً يمنعه! وعندنا، فإن الخلطة جاءت مرة فى صورة مجلس شورى النواب عام 1866، وهو أول مجلس من نوعه فى العالم العربى، ثم مرة أخرى فى صورة دستور 1923، الذى كان يعبر بشكل أو بآخر عن المزاج المصرى العام، فى تلك الأيام! وابتداء من ثورة يوليو 52 إلى اليوم وجدنا أنفسنا أمام خلطة من نوع لا مثيل له فى العالم، وهى خلطة لا اسم يناسبها ويصور حقيقتها إلا كلمة «عربدة».. وإذا كان الشخص الذى يعربد يمكن أن يفعل ذلك بفعل تأثير الخمر فى رأسه، فالمال أيضاً يمكن أن يصيب رأس الإنسان بما يجعله يعربد، والسلطة تصيب رأس الإنسان، فيعربد كما ترى فما أبعد المسافة بين تجربة ديمقراطية فى أثينا، قبل الميلاد هى الأولى من نوعها، وبين ديمقراطية باسم التجربة ذاتها، وتحت لافتتها فى القاهرة 2010 وهى تعربد!