بتصديق من رئيس الوزراء الإسرائيلي قام رئيس الأركان بإعطاء أوامر تنفيذ العملية "فيرجر" كنت جالسا أمام التليفزيون بالصدفة عندما أُعلن لأول مرة صباح السادس من سبتمبر 2007 تعرض سوريا لغارة إسرائيلية أصابت بعض الأهداف في الشمال، وأن الدفاع الجوي السوري قد اعترض مسار هذه الطائرات وأجبرها علي الفرار، وأن سوريا تحتفظ بحق الرد في الوقت والمكان المناسبين. ثم ضاع الخبر بعد ذلك بين أحداث الشرق الأوسط الكثيرة والمتجددة، إلي أن أثاره مرة أخري تصريحات مفاجئة من الرئيس بوش وصور تم عرضها تُبين أن هدف الطائرات الإسرائيلية كان مفاعلا نوويا من كوريا الشمالية، وأن الهدف منه في النهاية صناعة قنابل نووية. هذا المزيج من المعلومات المتناقضة استدعت الحدث مرة أخري، وجعلت المراقبين يعيدون النظر فيه، وما قد يكشفه من معلومات وتفاعلات متداخلة علي المستوي الإقليمي والدولي، ومدي ما يطرحه من بدائل في المستقبل. معرفة التفاصيل الدقيقة لهذا الحدث مهمة، بنفس أهمية فهم الإطار العام المحيط به. بين مساء الخامس وصباح السادس من سبتمبر 2007 شن الطيران الإسرائيلي غارة خاطفة علي هدف عسكري بالقرب من قرية دير الزور السورية. المثير أن المعلومات التي صدرت من الجانبين السوري والإسرائيلي عن الغارة بعد حدوثها مباشرة كانت شحيحة للغاية، ثم جاء الاعتراف بها أولا من الجانب السوري مع تأكيده علي الاحتفاظ بحق الرد، أما الجانب الإسرائيلي فقد أحاط الحدث بغلالة من الغموض، وأنكر علمه بها في البداية، ثم جاء الاعتراف بما حادث خاليا من المعلومات وبعيدا عن صيغة التشفي والفرح. وتلاحظ أيضا أن العواصم العربية لم تدن الغارة وإسرائيل علي المستوي المتوقع، كما تجاهلت العواصمالغربية وموسكو وبكين الحدث الغامض وتعاملت معه بحرص بعيدا عن أية اتجاه للتصعيد. وقد صدر بعد ذلك بعض من التفاصيل من خلال التقارير والمقالات، وفي بعض الصحف والمجلات المتخصصة، لكن دخول الرئيس بوش علي الخط نقل الموضوع فجأة إلي مستوي آخر من التناول والتحليل. وإذا عدنا للسوابق الماضية وكما توضح التقارير المختلفة، لوجدنا بشكل عام ومنذ حرب 1973 أن تكرار الاختراق الإسرائيلي للمجال الجوي السوري لم يحدث إلا في مرات قليلة، وفي حالة حدوث هذه الاختراقات كان هناك دائما خطوط حمراء يحرص الطرفان الإسرائيلي والسوري علي عدم المساس بها حتي في أوقات الحروب اللبنانية مع إسرائيل في 1982-1985 ثم بعد ذلك بينها وبين حزب الله في 2006. لكن كل ذلك لم يُبعد عن الذاكرة قيام إسرائيل بتدمير المفاعل النووي العراقي في 1981 قبل تشغيله، وكذلك عملية الهجوم علي القادة الفلسطينيين المقيمين في تونس في 1985. بتصديق من رئيس الوزراء الإسرائيلي قام رئيس الأركان بإعطاء أوامر تنفيذ العملية "فيرجر" الخاصة بشن غارة جوية علي هدف عسكري موجود علي بعد 25 كيلومتراً في الشمال الغربي من قرية دير الزور في الشرق من سوريا وعلي مسافة 145 كيلومتراً من الحدود العراقية. الهدف المطلوب تدميره كان مبني مكعبا من الخرسانة، طول أحد أضلاعه يساوي 47 مترا، والضلع الثاني طوله 32 مترا، وارتفاعه 20 مترا، ويبعد حوالي 800 متر من نهر الفرات. وكان رئيس الأركان الإسرائيلي قد فكر في استخدام عدد كبير من الطائرات مرة واحدة خوفا من اكتشاف الهجوم قبل حدوثه، كما اختار الاقتراب غير المباشر بالطيران عبر المتوسط، ثم الالتفاف من خلال الحدود التركية والانقضاض علي الهدف وتدميره والعودة من نفس مسار الذهاب إلي نقطة البداية. وبرغم أن الاتفاقيات بين تركيا وإسرائيل لا تسمح بذلك، لكن الاعتماد كان علي إغماض تركيا لعينيها لبعض الوقت إذا تحاشت إسرائيل الكلام كثيرا عما حدث، أو إظهارها للحقيقة بصورة مباشرة يصب الالتفاف حولها. وقد تبين من البداية عند التخطيط للغارة أن رحلة الطيران إلي الهدف والعودة سوف يصل طولها إلي حوالي 2000 كيلومتر، وأنها قد تواجه بعضا من الصعوبات وخاصة تلك الناشئة من طول المسافة مع تجنب التزود بالوقود في الجو. وقد اختير القيام بالعملية ليلا خوفا من اكتشافها وتعرضها لإجراءات مضادة خلال رحلة الذهاب أو العودة. وقد زودت طائرات الهجوم بصواريخ جو-أرض، وصواريخ جو-جو، وقنابل موجهة بالليزر. وسبق ذلك اتخاذ إجراءات للحماية ضد الهجمات الاعتراضية الممكنة بواسطة نظم المعلوماتية السورية. وإضافة إلي ما سبق تم تجهيز عدد من المقاتلات الاعتراضية إف-15 وجعلها في حالة مراقبة دائمة للحدود. وفي 5 سبتمبر 2007، أقلعت 8 قاذفات مقاتلة إف-15 آي وطائرة إلكترونية جلفستريم جي-550 من مطار إسرائيلي. وكان واجب الجلفستريم إسباغ الحماية الإلكترونية علي الطائرات المقاتلة القاذفة ضد أية إجراءات إلكترونية مضادة. وبشكل عام فإن اختيار الوصول إلي الهدف عبر المجال الجوي التركي لم يكن مزعجا بالنسبة للطيارين الإسرائيليين، فكثيرا ما تدربوا في هذه الأماكن أثناء المناورات المشتركة التركية-الإسرائيلية، ومن الواضح أن عددا من الطائرات قد أُعطيت مهمة الهجوم علي وحدة رادار سورية بالقرب من الحدود التركية، وهذه المحطة كانت تغطي قطاع الحدود مع تركيا الذي تم الاختراق من خلاله. وهناك بعض المعلومات تُشير إلي أن الطائرات الإسرائيلية قد مرت وهي في طريقها إلي الهدف بالقرب من القاعدة العسكرية الأمريكية في جنوب تركيا، ومن المرجح أنها استفادت من قدرات هذه المحطة العملاقة في الحصول علي بعض المعلومات المهمة، أو إعماء محطات الرادار السورية أثناء اللحظات الحرجة من الغارة الإسرائيلية. ويبقي الآن في هذه القصة البحث عن عدد من الإجابات علي أسئلة مهمة ربما أبرزها طبيعة الهدف الذي تم تدميره، ولماذا تحاشت إسرائيل والولايات المتحدة ترويج القصة كلها إعلاميا من لحظة حدوثها، ثم لماذا كان رد الفعل السوري صامتا مثل رد الفعل الإسرائيلي. تصريحات الرئيس بوش الأخيرة حلت جزءا من اللغز، فلم يكن الهدف مصنعا لرؤوس الصواريخ الكيماوية كما أُثير وقتها، أو الصواريخ الباليستية بشكل عام، ولكن _ والعهدة علي الرئيس بوش- كان مفاعلا نوويا يمكن أن يوفر لسوريا قدرا من البلوتونيوم لإنتاج رأس نووية علي الطريقة الكورية الشمالية. ولاشك أن الجانب الأمريكي بقدر حرصه علي المحادثات السداسية مع كوريا الشمالية وهي من بين الإنجازات القليلة التي حققها بوش خلال فترة رئاسته، بقدر رغبته في توصيل رسالة إلي كوريا الشمالية أنها غير جادة في التخلص من مشاريع تطوير الأسلحة النووية ونشرها في العالم. ومن الواضح أن تعاطف بوش مع الغارة، وربما مشاركته فيها أيضا، قد تلاقت مع الرغبة الإسرائيلية في وقف هذا المشروع السوري، مع الحرص علي إبقاء سوريا ضمن المعادلة الإقليمية في العراق ولبنان وفلسطين إذا هي غيرت من أهدافها، وابتعدت عن الحلف الإيراني بكل أبعاده النووية والإقليمية. ولم يكن أمام سوريا الكثير لتفعله، وربما استراحت بقدر ما من الصمت الأمريكي والإسرائيلي، وأمامها قليل من الوقت للتفكير قبل زيارة بوش للمنطقة منتصف هذا الشهر.