في الوقت الذي تصارع فيه الولاياتالمتحدة في اتجاه تجاوز سجن نظرتها العنصرية الضيقة بين أبيض وأسود، نلاحظ أن البرازيل التي طالما احتفت بتقاليد تعددها وتمازجها الثقافي العرقي، وظل ذلك المزيج مكوناً رئيسياً من مكونات فخرها واعتزازها الوطني، قد بدأت تتجه مؤخراً إلي نقيض ذلك التاريخ تماماً. وخلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت هذه الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية، قد استقبلت من الزنوج الأفارقة عدداً يفوق ما استقبلته أية دولة أخري من دول القارة. غير أن نقص نساء البيض فيها، مصحوباً بضعف النظرة العرقية واعتبارات الفوارق العرقية، دفعا البرتغاليين البيض إلي الاختلاط والزواج من نساء الأفارقة وغيرهن بدرجة لا يمكن قياسها بأي وجه إلي تحفظ البريطانيين البيض إزاء الاختلاط مع النساء الملونات في أمريكا الشمالية. وكانت النتيجة مجتمعاً شديد التعدد والتمازج الثقافي العرقي. وخلافاً للمجتمع الأنجلو- أمريكي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، الذي طالما نظر إلي التكوين الاجتماعي العرقي بمنظور ثنائي عرقي، وفضل إنكار واقع التمازج القائم حقاً، نجد أن البرتغاليين قد تعلموا النظر إلي العرق باعتباره استمراراً لتداخل اللونين الأبيض والأسود، وما بينهما من ظلال ألوان ودرجات متداخلة مع بعضها البعض. علي أن هذا لا يعني غياب النزعة العنصرية في المجتمع البرازيلي. بل الحقيقة أن مجموعة الألفاظ والكلمات المستخدمة في وصف لون بشرة الأفراد، إنما تؤكد وجود تراتب وتمايز هرمي عرقي، يشكل البيض غير الملونين قمته، بينما يمثل السود غير المختلطين بأية دماء أخري، قاعدته الاجتماعية. لكن وعلي رغم ذلك، فإن الاعتراف بتداخل وتدرج الألوان، ساهم في تخفيف حدة التمايز العرقي علي أساس اللون، قياساً إلي ما هو عليه الحال في الولاياتالمتحدةالأمريكية. والمعروف في أمريكا أنه وفيما لو كانت تجري قطرة دم إفريقي واحدة في شرايين شخص ما، فإنه يتم تصنيفه علي أنه أسود بالضرورة. وعلي نقيض ذلك، فقد أمكن تحقيق تدرج البياض والقبول الاجتماعي لذلك التدرج، عبر التزاوج. ومما لاشك فيه أن سياسات الهجرة إلي البرازيل في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قد بنيت علي جهود استهدفت "تبييض" البشرة البرازيلية، عن طريق إضافة المزيد من المهاجرين الأوروبيين إلي السكان البرازيليين. وفي عام 1912 كان العالم البرازيلي "جواو باتيستا دو لاسيردا"، قد تنبأ بأن تؤدي عملية التمازج العرقي الجارية حينها، إلي تشكيلة اجتماعية يسودها اللون الأبيض بنسبة 80 في المئة، ونسبة 3 في المئة فحسب للملونين، بينما تحظي فيها العرقية الهندية بنسبة 17 في المئة بحلول عام 2012 والذي حدث عملياً أن البرازيل اتخذت مساراً عرقياً مغايراً لما كانت عليه _ولكن بدرجة انحراف طفيف- خلال عقد ثلاثينيات القرن الماضي. فهي لم تنبذ بعد سياسات "التبييض" التي كانت قد انتهجتها، إلا أنها لم تتخلَّ في الوقت ذاته عن أيديولوجية اعتزازها الوطني بمزايا الاختلاط العرقي الثقافي التي ميزتها تاريخياً. وبفضل جهود عالمها الأنثروبولوجي "جيلبيرتو فريرا"، فقد تنامي شعور البرازيليين بأن ذلك الخليط العرقي الواسع، إنما هو دليل علي تفوق ثقافي، وعلي غياب النزعة العنصرية السلبية في مجتمعهم. وبالنتيجة فقد أصبحت النظرة العامة إلي البرازيل داخلياً وإقليمياً وعالمياً، هي اعتبارها مثالاً يحتذي في مجال التسامح العرقي الثقافي. وليس أدل علي ذلك من قول عالم الاجتماع الأمريكي الشهير، "إي فرانكلين فريزر" في عام 1942، إنه في وسع البرازيل إعطاء أمريكا بعض الدروس المفيدة عن علاقات الأعراق والثقافات. غير أن الذي حدث في عقد الستينيات، هو نشوء حركة برازيلية "سوداء" _كانت متأثرة إلي حد ما بحركة الحقوق المدنية السوداء في أمريكا الشمالية- تمكنت من مناجزة ذلك الإجماع القومي البرازيلي علي مسألة الانتماء العرقي. وكان أن نادي أبناء الجيل التالي بإجراء المزيد من البحوث والدراسات الاجتماعية حول عدم المساواة العرقية في بلادهم. وعلي رغم صغر تلك الحركة وعدم قدرتها علي التحول إلي حركة جماهيرية واسعة ومؤثرة، فإنها تركت أثرها وبصماتها علي الحوار الوطني حول المسألة العرقية هناك. وما أن حل عام 2001 حتي تحول المطلب المثير للخلاف والجدل، حول تبني "الفعل الإيجابي" في الجامعات البرازيلية، إلي واقع عيني ملموس، بمعني تبني سياسات من شأنها تشجيع السود علي الالتحاق بالجامعات البرازيلية. وعلي امتداد السنوات الخمس الماضية، تنامي عدد الجامعات البرازيلية التي تبنت وجربت عدة إجراءات ذات صلة بتطبيق "الفعل الإيجابي" وصممت من برامج القبول، ما هدف إلي مساعدة أبناء وبنات السود والفقراء علي وجه الخصوص علي تخطي شروط سياسات القبول في التعليم الجامعي. والذي نتج عن كل هذا، أن ذلك الحوار المنقسم علي نفسه حول "الفعل الإيجابي" قد أقنع المزيد من البرازيليين بأن تاريخ اختلاطهم العرقي، لم يلغ واقع التمييز بينهم علي أساس اللون بأي حال من جهة. أما من جهة أخري، فقد أسهمت برامج قبول بعض الطلاب في الجامعات والكليات علي أساس انتمائهم الاجتماعي أو العرقي، في تحول الوعي العرقي لدي البرازيليين واتجاهه أكثر فأكثر نحو التمييز والمعايرة العرقية، بغية تحديد المستحقين لمزايا ذلك التمييز القائم علي العرق واللون. وعليه فإن نبوءة العالم "باتيستا لاسيردا" القائلة بدنو أجل "اختفاء" السود البرازيليين، لم تكن قد أخطأت تكهناتها. غير أن ما فات "باتيستا" ولم يرَه حينها، هو اتساع رقعة الفئة الاجتماعية الواقعة بين اللونين الأبيض والأسود. ووفقاً للتعداد السكاني لعام 2000، فقد اعتبر 53 في المئة من البرازيليين أنفسهم بيضاً، بينما بلغت نسبة الملونين بينهم 39 في المئة، مقابل نسبة 6 في المئة فحسب للسود!