بالرغم من ارتباط مصطلح "حزب الله" بالإسلام السياسي الشيعي خلال السنوات العشرين الماضية، فإن الكلمة كانت واسعة التداول وربما لا تزال، في أدبيات "الإخوان المسلمين" منذ سنوات طويلة... أعني مصطلح "حزب الله"! ومن المعروف بالطبع، أن الكلمة قد وردت مرتين في القرآن الكريم في سورتي المجادلة والمائدة: "إن حزب الله هم المفلحون"، "إن حزب الله هم الغالبون". وقد فهمت ماهية هذا الحزب في إطاره الإيماني القرآني قبل أن تمتد إليها أيادي الإسلام السياسي، لتضفي الشرعية الدينية علي هذه الجماعة أو تلك. فالمعروف أن الأحزاب السياسية في العالم الإسلامي قد ارتبطت بالمفاهيم الغربيةالجديدة، ولهذا كانت مثلاً موضع نفور وارتياب الإمام الخميني في إيران، كما أشرنا في مقال سابق، ومرشد "الإخوان المسلمين" في مصر الشيخ حسن البنا، فيما ثار الجدل بين الجماعات السلفية ولا يزال، بين مؤيد ومعارض. ولما كانت حركة "الإخوان"، قد ظهرت عام 1928 في بيئة سياسية متطورة نسبياً، فقد نمت فيها أحزاب كثيرة من مختلف الاتجاهات. يقول البنا في "رسالة إلي المؤتمر الخامس": "والإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعاً قد وجدت في ظروف خاصة، ولدوافع أكثرها شخصي، ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت علي الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر. ويعتقدون كذلك أن النظام النيابي، بل حتي البرلماني، في غني عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر". ويختتم البنا كلامه بالقول إن الإخوان "يعتقدون في قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا أن تنحلّ هذه الأحزاب كلها، وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلي الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم". (الرسائل، دار الشهاب، ص 180). وفي الأوساط السلفية التقليدية لم تكن هذه القضية مثارة، أما في الكويت فقد طغي لاحقاً الموقف المؤيد للعمل الحزبي. يقول الداعية عبدالرحمن عبدالخالق: "إن الذين يفتون اليوم بعدم جواز الأحزاب السياسية الإسلامية يقدمون خدمة جليلة لأعداء الدين". (المسلمون والعمل السياسي، الكويت، 1986، ص 36). ورغم الدلالة العامة لمصطلحي "حزب الله" و"حزب الشيطان"، اللذين يفسرهما معجم ألفاظ القرآن الكريم، الصادر عن مجمع اللغة العربية، بأنه "الداعون إلي دينه الطائعون"، وأن "حزب الشيطان"، هو "أعوانه ممن يزينون الشر للناس"، فإن بعض الكتابات الإسلامية السياسية أو الحزبية، ك"الإخوان المسلمين" في مصر وسوريا بالتحديد، بدأت في بعض كتبها، بإطلاق صفة "حزب الله" علي جماعة "الإخوان المسلمين"! وكانت البداية في تعميم غامض! فسيد قطب مثلاً يقول: "إن هناك حزبين اثنين في الأرض كلها: حزب الله وحزب الشيطان. حزب الله الذي يقف تحت راية الله ويحمل شارته، وحزب الشيطان وهو يضم كل ملة وكل فريق وكل شعب وكل جنس وكل فرد لا يقف تحت راية الله".(هذا الدين، طبعة شتوتجارت، 1978، ص 85). ولا شك أن مثل هذا الاستنتاج المتزمت القاسي، والذي يذكرنا بفسطاطي الإيمان والكفر، اللذين يروج لهما تنظيم "القاعدة"، كان من المقدمات التي مهدت لوضع كتاب "معالم في الطريق" وانتعاش حركات التطرف والتكفير فيما بعد. وفي سبعينيات القرن الماضي، أصدر أحد الإسلاميين المتحمسين يدعي وائل عثمان كتيباً يقع في نحو 172 صفحة، كتب مقدمته الشيخ محمد متولي الشعراوي وطبع خمس مرات حتي 1977، وهي الطبعة التي بين يدي. عنوان الكتاب مثير وهو "حزب الله في مواجهة حزب الشيطان"، يقول فيه: "إن الإسلام لا يعترف إلا بحزبين اثنين فقط هما: حزب الله وحزب الشيطان: فأتباع حزب الله هم من يخلفونه -سبحانه- في الأرض ويحكمون بأحكامه. أما سواهم فمن حزب الشيطان، مهما اختلفوا في أسلوب حكمهم ومهما تصارعوا فيما بينهم". (ص133). ومن أطرف ما ورد في الكتيب قوله: "لو اقتصر الأمر علي صنفين من الناس، مع الله أو مع الشيطان، لا سترحنا واستطعنا تقييم الناس وتصنيفهم وفق ما يؤمنون به. لكن ماذا تقول في راقصة تبدأ رقصتها قائلة: "توكلت علي الله"! ونسمع "فنانة" تتكلم عن عزمها إقامة ملهي وتؤكد أن "كله بإذن الله، وإن شاء الله ربنا يوفقنا في إدارة الملهي". و"الأعجب أن تري إنساناً يمضي بخطي ثابتة وطيدة في طريق الشيطان، ثم يؤكد أنه ما نجح إلا بتوفيق الله له ووقوفه سبحانه بجانبه...هل هي شخصيات مزدوجة؟! هل من الممكن أن تكون أعمالك شيطانية وأقوالك ربانية؟" (ص99). أما الإسلامي البارز الذي وظف اصطلاح "حزب الله" في مؤلفاته علي نحو واسع، فكان سعيد محمد حوَّي (1935-1989)، أبرز الدعاة والقادة في جماعة "الإخوان المسلمين" السوريين، وصاحب المؤلفات العديدة الواسعة الانتشار. وتقول بعض المراجع إنه، أي سعيد حوَّي، "كان قد كُلف بوضع مناهج تربوية وتعليمية لجماعة الإخوان المسلمين، ما جعل حياته تكريساً للدعوة والتأليف، وقد طبعت طبعات عديدة وانتشرت في أنحاء العالم الإسلامي". (تتمة الأعلام، محمد يوسف، 1998، ص 208). في كتابه المعروف "المدخل إلي دعوة الإخوان المسلمين"، القاهرة 1984، يتحدث "حوَّي" عن صفات وخصائص "جماعة المسلمين"، أي الجماعة التي تحمل الإسلام بلا احتراس ولا احتراز، والتي تطرح صيغة الحق، والتي تتحرك لتحقيق الأهداف الإسلامية وتحرر المسلمين من أمراضهم، فيراها كلها منطبقة علي "جماعة الإخوان"! ويضيف قائلاً: "إن سمات حزب الله تنطبق علي الإخوان، فحزب الله له صفات، ولم تقم في المنطقة العربية جماعة عامة قام تركيبها علي هذه الأسس مثل جماعة الإخوان... إن الإخوان المسلمين هم الذين اجتمعت لهم هذه المواصفات- بفضل الله- نظرياً، ويحاولون أن يتحققوا بها عملياً. وإذن فالجماعة الإسلامية أو حزب الله أو الإخوان المسلمون كلها أسماء مترادفة". ويقول في مواضع أخري مناقشاً احتمالات الاضطرار في بعض البلدان للتخلي عن اسم "الإخوان المسلمين" بسبب بعض الظروف السياسية، فيقترح ما يلي: (استعمال كلمة "حزب الله"- وهي التعبير القرآني- أخف علي الآذان كثيراً من اسم الإخوان المسلمين، بعد عمليات التشهير والتجريح الهائلتين اللتين سُلِّطتا علي الحركة. ولذلك فإن الأخ - يقصد عضو الحركة- يستطيع أن يستعمل هذا التعبير بحرية أثناء الدعوة الأولية لإنسان). (ص 34). ويتناول الشيخ "حوّي" مقاصد تأسيس "حزب الله"، في كتاب مفصل بعنوان "جند الله ثقافة وأخلاقاً" (1971)، فيحددها في خمسة أهداف هي: 1- صياغة الشخصية الإنسانية صياغة إسلامية. 2- إقامة الدولة الإسلامية في كل قطر. 3- توحيد الأمة الإسلامية. 4- إحياء منصب الخلافة. 5- إقامة دولة الإسلام العالمية. (فاتني أن أتقصي موقف حزب التحرير من هذا المصطلح!). ويعتبر "حوّي" الثورة علي الاستعمار في العالمين العربي والإسلامي "الثورة الأولي". ولابد من ثورة ثانية، "لإنهاء المشاكل السياسية التي وضعها الاستعمار أو رعاها ليعيش المسلمون في دوامة". وأخيراً، يوجه إلي المسلمين كافة هذا النداء الحار: "إن الذين يريدون أن تتحرر فلسطين وكشمير والهند وتركستان وأرتيريا وغيرها من أرض الإسلام، عليهم أن يعملوا من أجل إقامة حزب الله إقامة سليمة. وإن الذين يحلمون أن تكون لهم دولة واحدة تضم شعبهم الواحد ذا اللسان الواحد- (لاحظ كيف أغفل حوي لغات الهند وتركستان وبقية الشعوب)- عليهم أن يعملوا من أجل إقامة حزب الله إقامة كاملة، وإن الذين تنفطر قلوبهم لسيطرة الكافرين علي المسلمين وتأخر المسلمين، عليهم أن يعملوا من أجل إقامة حزب الله إقامة كاملة، وإن الذين يرغبون في أن يدخلوا الجنة عليهم أن يعملوا من أجل إقامة حزب الله. وكل عمل إسلامي ينزل عن هذا المستوي الرفيع عمل ناقص وجزئي". (ص 48). يتبين إذن، من كلام "حوي" وغيره من الإخوان، أن الإسلام السياسي والحزبي بمختلف مذاهبه، حاول توظيف شعار "حزب الله" في تحقيق أهدافه، وإن كانت مطالب "حزب الله" أكثر تواضعاً في لبنان، إذ لم ينادِ بتحرير الهند وتركستان... واكتفي بمزارع شبعا والجنوب!