يناور رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من خلال فرض استفتاء يبت في مستقبل حل الدولتين، في خطوة الهدف منها عزل "حماس". والواقع أنه حتي لو نجح الاستفتاء وجاءت نتائجه منسجمة مع رغبات محمود عباس، فإنه سيجر الحركة الوطنية الفلسطينية عشرين عاماً إلي الوراء. وبالطبع نحن نفهم الإحباط الذي يشعر به الرئيس الفلسطيني ومحاولاته الحثيثة للخروج من المأزق. فبعد فوزه في انتخابات حرة ونزيهة جرت في يناير 2005 لخلافة الرئيس الراحل ياسر عرفات، يجد نفسه بعد مرور أقل من سنة ونصف السنة علي وصوله إلي السلطة في ورطة تتمثل في مواجهة جمهور فلسطيني غاضب ومستاء أتي بحركة "حماس" إلي الحكومة. ومع وجود رئيس حكومة من "حماس" ومجلس تشريعي تسيطر عليه الحركة ذاتها، أصبح محمود عباس وحركة "فتح" في موقع ضعيف، وهو ما تًُرجم علي أرض الواقع من خلال المواجهات المسلحة بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة. بيد أن عباس في مسعاه إلي استعادة المبادرة واسترجاع دعم الرأي العام ارتكب خطأ؛ فقد تبني مقاربة صيغت في الأصل من قبل الأسري الفلسطينيين بقيادة الشخصية ذائعة الصيت مروان البرغوثي. وتدعو "وثيقة الأسري" إلي إقامة دولة فلسطينية علي حدود 1967 تكون القدس عاصمة لها. ورغم أنها تعترف ضمنياً بإسرائيل، فإنها لا تقر بحقها في الوجود. وفي ظل هذا الوضع لم يجد محمود عباس سوي الوثيقة لكي يطالب بتنظيم استفتاء مستنداً إلي رمزية الأسري والتقدير الذي يحظون به داخل المجتمع الفلسطيني لحمل "حماس" علي الاختيار بين قبول الوثيقة وإضعاف قدرة الحركة علي الاستمرار في الحكم. والحال أن الوثيقة التي يعتبرها محمود عباس آلية للوصول إلي السلام، لا تسهم سوي في تشويه موقفه من الإرهاب والمفاوضات، وهو الموقف الذي يجعله مقبولاً في الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ف"وثيقة الأسري" تدعم المقاومة المسلحة في الضفة الغربية وغزة، وتحث الفلسطينيين علي تحرير الأسري بشتي الوسائل والطرق الممكنة، كما تركز علي حق العودة للفلسطينيين. وعكس ما يعتقد محمود عباس من أن الوثيقة وسيلة للتجديد السياسي يعتبر تبنيه لما جاء فيها نكوصاً عن مواقف حركة "فتح" السابقة. ورغم كونها خطوة متقدمة بالمقارنة مع الأهداف ذات السقف المرتفع "لحماس"، فإنها في الوقت نفسه تعتبر تراجعاً واضحاً عن الأهداف المعتدلة ل"فتح". فهي تثير تساؤلات مشروعة حول الاعتراف بحق إسرائيل في الحياة، وحول دعم الفلسطينيين للإرهاب التي يفترض بأنها أمور حسمت وانتهي منها. لذا فإن عباس يجازف بحصر نفسه في مواقف تقي بظلال كثيفة من الشك حول مدي اعتداله، لا سيما وأن الوثيقة تربطه بلجان وشركاء يشرفون علي تنظيم المقاومة الفلسطينية. والأكثر من ذلك أن الوثيقة لا تخفي تأييدها الكامل للمقاومة في المناطق المحتلة، رغم الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمواطنين الفلسطينيين، فضلاً عن تشويه صورة قضيتهم جراء اتخاذ العنف طريقاً. وإذا كانت خطوة محمود عباس بتبنيه لوثيقة الأسري قد ترفع من شعبيته لدي الفلسطينيين، فإنها قد تربك علاقاته مع واشنطن وتل أبيب. وبالنسبة لمحمود عباس يعتمد النجاح في الدفع بحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة علي الدعم الأمريكي والموافقة الإسرائيلية. ولعل ما يواجهه عباس اليوم إنما يعكس مشكلة أساسية لازمت الحركة الفلسطينية لأكثر من نصف قرن وتتمثل في غياب استراتيجية متماسكة لتحقيق أهدافها. فلا عباس ولا "حماس" يملكان خطة للتفاوض حول دولة فلسطينية، أو حتي لانتزاعها بالقوة. ولا يبدو أن مثل هذه الاستراتيجية ستري النور قريباً في ظل الصراع المستحكم بين مراكز القوي الفاعلة في الضفة الغربية الموزعة بين حكومة إسرائيل ومؤسسة الرئاسة الفلسطينية وحكومة "حماس"، فضلاً عن الميليشيات وقوي الأمن التي تجوب الشوارع دون رادع.