أُثير جدل حاد في السادس عشر من ديسمبر عندما نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" خبراً علي صدر صفحتها الأولي جاء فيه أن الرئيس بوش سمح لوكالة الأمن القومي بالتنصت علي المكالمات الهاتفية والبريد الإلكتروني لبعض المواطنين الأمريكيين دون إذنهم، ودون الحصول علي إذن قضائي. وكان من نتائج نشر هذا الخبر أن أحدث ضجة كبيرة لدي الرأي العام الأمريكي، ولكنه أدي أيضاً إلي إثارة جدل سياسي محتدم ارتفعت حدته مع تتالي تصريحات المسئولين حول الموضوع. جاء في الخبر الذي أوردته الصحيفة أنه يحق لوكالة الأمن القومي، بموجب قانون 1978، مراقبة أي شخص تشتبه في علاقته بالتجسس أو الإرهاب، ولكنها مطالبة في كل مرة تريد القيام فيها بذلك بالتوجه إلي محكمة خاصة والحصول علي موافقة القاضي. وتتابع الصحيفة قائلة إنه منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر وافق الرئيس بوش علي مراقبة الأمريكيين لأكثر من ثلاثين مرة من دون الحصول علي إذن من تلك المحكمة. وضمن تداعيات نشر الخبر، سارع عدد من الزعماء في الحزب الديمقراطي المعارض، ومنتقدو الرئيس بوش، إلي اتهامه بخرق القانون لأنه انتهك حق الخصوصية المنصوص عليه في الدستور الأمريكي. واعتبر منتقدو الرئيس قراره بالتنصت علي مراسلات المواطنين الأمريكيين بدون إذن قضائي شططاً في استعمال السلطة، وخرقا للدستور الذي يضمن "حق الشعب في أن يكون آمنا... من التفتيش والحجز من دون مسوغ قانوني"، متهمينه بالوقوف فوق القانون وبعدم احترام قوانين الديمقراطية، بل إن منهم من ذهب إلي حد اعتبار ما فعله سبباً كافيا لمقاضاته وعزله من منصب الرئيس. في البداية رفض الرئيس بوش رفضاً قاطعا التعليق علي هذا الموضوع، علي اعتبار أنه سري وحساس، مكتفيا بالقول إنه غير سعيد لنشر صحيفة "نيويورك تايمز" الخبر، لأنها بقيامها بذلك قد تسببت في إضعاف الحرب علي الإرهاب، ومنحت العدو معلومات كان يجب ألا يحصل عليها. وفي ردهم علي هذه الاتهامات، أوضح مسئولو صحيفة "نيويورك تايمز" أنهم حصلوا في واقع الأمر علي المعلومات التي وردت في الخبر منذ سنة، لكنهم اختاروا ألا ينشروها حينها نزولا عند طلب الحكومة ولأسباب أمنية، وهو الأمر الذي جعل بعض الجهات توجه سهام انتقاداتها إلي الصحيفة لأنها تأخرت في نشر الخبر، الذي ساهم في تضرر صورة الرئيس بوش كثيراً لدي الرأي العام الأمريكي. واعتبرت أنه لو تم نشر الخبر السنة الماضية، لكان الشعب الأمريكي عبر عن سخطه وغضبه مما فعله الرئيس، ولربما لم يكن ليصوت عليه في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر 2004. والواقع أن العديد من الناس متفقون مع الديمقراطيين في الكونغرس والذين يرون أنه علي الرئيس أن يقدم تفسيرا مقنعا للموضوع. وتحت ضغط الانتقادات المتزايدة لما قام به الرئيس، التقي وزير العدل ألبيرتو جونزاليس، الذي يشغل أعلي رتبة في السلطة القضائية في الفرع التنفيذي من الحكومة الأمريكية، بوسائل الإعلام، وصرح بأن جميع المراسلات التي تمت مراقبتها سراً جرت بين مواطنين أمريكيين وأشخاص خارج الولاياتالمتحدة، وبأن أحد الأطراف يشتبه في انتمائه ل"القاعدة". وإذا كان جونزاليس قد أقر بوجود حالات لم يكن الرئيس يحصل فيها علي إذن قضائي، فإنه زعم بالمقابل أن هذه الحالات كانت تقتضي اتخاذ القرارات بسرعة فائقة لم تكن تسمح بمراجعة المحكمة أولا. وعلاوة علي ذلك، اعتبر جونزاليس أن اتخاذ قرار ما بدون مراجعة المحكمة أمر ينسجم مع القانون، لأنه منصوص عليه في القانون الذي صادق عليه الكونجرس غداة هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهو القانون الذي يسمح للرئيس باستعمال "كافة الوسائل الضرورية" لمحاربة الإرهاب. وردا علي سؤال كيف يمكن الاستناد إلي القانون الذي سنه الكونجرس، والذي ينص علي استعمال "كافة الوسائل الضرورية"، في هذه الحالة في حين أنه لم ينص علي المراقبة السرية صراحة، أجاب جونزاليس بأن القانون المذكور منح الرئيس بوش سلطات واسعة وبأنه (القانون) ليس في حاجة إلي التفصيل والإشارة الحرفية إلي المراقبة السرية. وللتدليل علي كلامه، ساق مثال المواطن الأمريكي حمدي الذي تم القبض عليه في أفغانستان بصفته "مقاتلا عدوا"، والذي حكمت المحكمة العليا الأمريكية باعتقاله استنادا إلي تفسيرها للقانون نفسه، بالرغم من أن القانون المذكور لم يشر حرفياً إلي كلمة "اعتقال"، ولأن الاعتقال يندرج في إطار الصلاحيات المخولة للرئيس في أوقات الحرب. وأضاف جونزاليس أن المحكمة العليا ستتبع نفس المنطق لتصل في نهاية المطاف إلي استنتاج أن الرئيس يتمتع بصلاحية التنصت علي المكالمات الهاتفية للأمريكيين في إطار ما هو مخول له من صلاحيات. بيد أن معارضي الرئيس لم يقتنعوا بالحجج التي قدمها جونزاليس واعتبروها واهية، ورأوا أن الرئيس بوش استعمل سلطات لم تمنح له، وبأنه انتهك الحريات المدنية. وطالب أعضاء الكونجرس بوش بالعدول عن سياسة المراقبة السرية، أو علي الأقل تقديم تفسيرات مقنعة. ولكن سرعان ما تناقلت وسائل الإعلام تفاصيل أكثر عن عمليات المراقبة السرية، ما حدا بالكونجرس إلي التعهد بتكثيف تحقيقاته في الموضوع. إن الحدة التي تميز النقاش السياسي الدائر حالياً بين مؤيدي الرئيس ومعارضيه حول هذا الموضوع تعزي إلي كون الرأي العام الأمريكي أضحي منقسما بشأن الطريقة التي يدير بها بوش الموضوع العراقي وموضوعات أخري. وفي هذا السياق، تعكس استطلاعات الرأي عدم رضا الأمريكيين عن بوش بخصوص جميع القضايا تقريبا، باستثناء حربه علي الإرهاب. وكان من نتائج ذلك أن أعلن المدافعون عن الرئيس في الأسابيع الأخيرة أن خوض تلك "الحرب" يقتضي أن يتخذ الرئيس إجراءات استثنائية كاعتقال المتهمين من دون توجيه تهم إليهم، ومعاملة المعتقلين بطرق يعتبرها البعض تعذيبا. كل هذه الإجراءات أثارت جدلاً حاداً في أمريكا، أسفر عن خسارة بوش جولة أمام الكونجرس بخصوص موضوع التعذيب. أما الخبر الجديد حول التنصت علي مكالمات الأمريكيين والتجسس علي مراسلاتهم، فقد أدي إلي ارتفاع حدة النقاش والجدل بشأن صلاحيات الرئيس، والأيام القليلة القادمة وحدها كفيلة بالكشف عما إن كان سيخسر هذه الجولة أيضا.