خلال الأيام الصعبة التي تلت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر مرر مسئولون في البيت الأبيض بهدوء هذه العبارة عبر المجموعة المتباينة للوكالات الاستخبارية في واشنطن : اخبرونا بالأسلحة التي تحتاجون إليها لمنع هجوم اخر . وفي وكالة الأمن القومي البالغة السرية والمعروفة باسم NSA والتي تفيد أحيانا بأنه لا توجد مثل هذه الوكالة NO SUCH AGENCY عاد الطلب برد يقول اسمحوا لنا بجمع معلومات عن الناس داخل الولاياتالمتحدة .. كانت وكالة الأمن القومي تكافح دون الكثير من النجاح ". بهذه المقدمة المطولة يستهل مارك هوزنبول وايفان توماس من النيوزويك الأمريكية تقريرهما عن أحدث ابعاد فضيحة التنصت الحكومية علي الشعب الأمريكي والذي جاء تحت عنوان " ارفع السماعة ". ولعله من المهم أن نتوقف قبل الدخول في صلب الموضوع أمام مشهد مقارنة بين ما آلت إليه الشئون الحكومية الأمريكية اليوم وما كان مفترضا . والفيصل في هذا التفريق يتأتي من قراءة بعض السطور في نص إعلان الاستقلال الأمريكي الصادر في الرابع من يوليو عام 1776 وفيه " أننا لنؤمن بالحقائق البديهية التي تقرر أن الناس جميعا خلقوا سواسية وان الله وهبهم حقوقا معينة منها حق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة. لكن ما ابعد الوصف بين ما كتبه الآباء المؤسسون وبين واقع حال الولاياتالمتحدة اليوم والذي يتشابه كثيرا مع الفترة الممتدة من عام 1946 وحتي 1952 عندما امسك السيناتور جوزيف ماكارثي بعنق الديمقراطية الأمريكية بحجة محاربة الشيوعية فتطايرت لوائح المطلوبين وقد ورد يوما علي لوائح تلك الحقبة المظلمة من تاريخ أمريكا أسماء مثل دوايت ايزنهاور الذي صار بطلا قوميا وشارلي شابلن عنوان الفن الأمريكي واوبنهايمر أبو القنبلة النووية . هل يعيد التاريخ ذاته ؟ يبدو أن ذلك كذلك والدليل هو أن الولاياتالمتحدة اليوم وبإعلان رئيسها تمضي في طريق " بوشية " معادلة لل مكارثية والفارق أن الحجة اليوم هي محاربة الإرهاب بعد أن انهارت الماكارثية وافلت تطبيقاتها ... ما هي آخر ابعاد فضيحة التنصت ؟ هذا ما تأخذنا إليه السطور القادمة؟ تقربر أل يو إس إيه توداي منذ ديسمبر كانون الأول الماضي والأنباء تتوارد من واشنطن حول قيام هيئة الأمن القومي الأمريكي والتي كان يرأسها الجنرال مايكل هايدن المرشح اليوم لمنصب مدير المخابرات المركزية الأمريكية بالتجسس أو التنصت علي قطاع عريض من الأمريكيين غير انه قبل أيام قليلة نشرت اكبر الصحف الامركية انتشارا اليوم " يو إس إيه توداي " تقريرا ذكرت فيه أن ثلاث شركات قدمت طواعية لوكالة الاستخبارات القومية سجلات المحادثات الهاتفية لملايين الأمريكيين. وتضيف الصحيفة الأمريكية التي توزع مليونين ونصف المليون نسخة اليوم أن وكالة الأمن القومي كدست قاعدة بيانات واسعة من بلايين المكالمات داخل الولاياتالمتحدة تحتوي علي سجل لوقت إجرائها وأرقام الهواتف التي تم الاتصال بها وطولها ورغم أن الحكومة لم تطلب إلي شركات الهواتف أسماء أو عناوين إلا أن ابسط بحث علي شبكة الانترنت لأي رقم هاتف يمكن أن يفشي تلك المعلومات . ومما لا شك فيه أن الكشف الأخير قد عمق أزمة الحريات في أمريكا لدرجة بعيدة حتي أضحي التساؤل الرئيسي اليوم هل قادت كل تلك الانتهاكات للحرية الشخصية إلي القبض علي بن لادن ؟ أم أن الأمر صعب علي إدارة بوش فاختارت الأسهل أي التنصت علي الأمريكيين ؟ وكيف يمكن إيجاد توازن بين مكافحة الإرهاب والدفاع عن الحريات ؟ والحقيقة أن الرئيس بوش قد حاول الإجابة عن هذا التساؤل في خطابه الإذاعي الأسبوعي الأخير بعد أن لاذ بالصمت حين قال من المهم أن يعي الأمريكيون أن نشاطاتنا موجهة حصرا ضد القاعدة وشركائها المعروفين واعتبر أن العمليات الاستخبارية التي سمح بها كانت قانونية وان أعضاء الكونجرس من الجمهوريين والديمقراطيين اطلعوا علي الموضوع بصور مناسبة . وشدد بوش علي أن " كل النشاطات التي نقوم بها تحترم الحياة الخاصة لكل الأمريكيين مضيفا أن الحكومة لا تتنصت علي المكالمات الهاتفية الداخلية إلا بعد الحصول علي موافقة مسبقة من المحكمة . ثورة من قبل الرأي العام ولمن خبر الولاياتالمتحدة وعرف الشعب الأمريكي يدرك إلي أي مدي يوقن اليوم انه تلقي طعنة قاسية لا سيما وان زمن التنصت الداخلي كان قد انتهي مبكرا وذلك عبر وثيقة أمريكية شهيرة تدعي " توجيه إشارات الولاياتالمتحدة الاستخبارية 18 والتي صدرت عام 1980 " وتحدد إلي حد كبير الرصد الداخلي كما أن الأمريكيين وحتي الساعة لم ينسوا أزمة ريتشارد نيكسون وتجسس حزبه علي منافسه حيث عرف التاريخ الأمريكي وقتها واحدة من اكبر إن لم تكن اكبر فضيحة تنصت في تاريخه قبل أن يظهر بوش وصحبه. وقد تجلت ردود الفعل الداخلية في ثورة أولية عند المواطنين تجاه شركات الهواتف والتي ستغرق ولا شك الأيام القادمة في مستنقع قانوني ستوحل فيه لاسيما بعد أن رفع عملاء كبري شركات الاتصالات داخل أمريكا " فيريزون " دعوي في نيويورك وحدها تطالب الشركة بدفع تعويضات بقيمة 5 مليارات دولار كتعويض عن الأضرار التي قالوا أنها لحقت بهم . ويتهم عملاء " فيريزون " الشركة بأنها خرقت قانون العام 1986 " ستورد كومونيكايشن اكت " الذي ينص علي منع الشركات الهاتفية من نقل قوائم الاتصالات إلي الحكومة إن لم يكن ذلك مبررا بأذن قضائي مسبق . وفي سان فرانسيسكو علي الساحل الغربي للولايات المتحدة وحسب رواية النيوزويك الامريكية رفعت مجموعة تهتم بالخصوصية وتدعي مؤسسة الحقوق الالكترونية قضية تقوم جزئيا علي شهادة مارك كلاين وهو تقني في شركة AT&T للاتصالات لمدة 22 عاما يزعم انه شهد إقامة غرفة سرية لوكالة الأمن القومي في مقر الشركة الرئيسية بسان فرانسيسكو في وقت مبكر من عام 2003 ويقول كلاين انه اكتشف في وقت لاحق من ذلك العام أن كوابل من الغرفة السرية كانت تراقب مجلدات هائلة من اتصالات الانترنت . ويضيف كلاين انه اكتشف عمليات متشابهة في مدن أخري علي الساحل الغربي وهو يستنتج الآن أن وكالة الأمن القومي خلقت مقدرة علي الرصد مثل المكنسة الكهربائية لجميع البيانات التي تمر عبر الانترنت . ورغم أن شركة AT&T تقول بأنها التزمت دائما بالقانون وأنها سهرت علي حراسة خصوصية زبائنها إلا أن الحكومة الاتحادية الامريكية بقيت صامتة مع أن المدعي العام البيرتو جونزاليس أشار بشكل مشفر نوعا ما أثناء إيجاز له في البيت الأبيض بتاريخ 19/12 الماضي إلي وجوه عملياتية كثيرة لبرنامج التنصت لم يتم الكشف عنها حتي الآن .وكان الرئيس بوش في معرض دفاعه تجاه قضية الأرقام القذرة التي أماطت اللثام عنها النيويورك تايمز وكانت بمثابة الفصل الأول في مسرحية التنصت علي المواطنين الأمريكيين قد قال إن حوارا هاتفيا لا يستغرق أكثر من دقيقتين بين شخص ما في أمريكا ذي علاقة بالقاعدة واحد عناصرها في الخارج قد يسفر عن إزهاق أرواح آلاف الأمريكيين . ولم يكتف بوش بالإشارة إلي الماضي بل أكد علي أن برنامج التنصت سوف يستمر قائلا لقد جددت هذا البرنامج أكثر من 30 مرة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر واعتزم الاستمرار في ذلك طالما أن امتنا تواجه تهديدا متواصلا من عدو يريد قتل المواطنين الأمريكيين. وقد دافع بوش كذلك وقتها عن برنامج التنصت قائلا انه يتماشي مع الصلاحيات التي يمنحها الدستور للرئيس كما انه تتم مراجعته كل 45 يوما للتأكد من استخدامه بالطرق المناسبة إضافة إلي أن الكونجرس أجازه مرات وقد رأي بوش أن البرنامج فعال جدا لتشتيت الأعداء وحماية الحريات المدنية في أمريكا . والمثير والغريب في الوقت ذاته أن بوش وبعد القصة التي أوردتها صحيفة يو إس إيه توداي يعيد القول للمراسلين "نحن لا نتصيد الحياة الشخصية للملايين من الأمريكيين الأبرياء"