انكشف في الآونة الأخيرة، وسط ضجة إعلامية، وجود برنامج سري أقره الرئيس بوش منذ فترة طويلة يسمح من خلاله لوكالة الأمن القومي الأمريكية في حالة الاشتباه، بالتنصت علي مكالمات واتصالات المواطنين الأمريكيين، أو الأجانب المقيمين علي الأرض الأمريكية، بدون الحصول علي إذن قضائي طبقا للقوانين الأمريكية. انكشاف أمر هذا البرنامج أُضيف إلي سلسلة أخري من الاستثناءات الأمنية التي منحتها الإدارة الأمريكية لنفسها منذ حدوث زلزال 11 سبتمبر، وظهرت في صورة تجاوزات وفضائح كان أشهرها فضيحة سجن أبوغريب في العراق، وطرق التعذيب والاستجواب المبتكرة للمقبوض عليهم داخل هذا السجن وخارجه، والتي تم تنفيذ معظمها طبقا لتعليمات خاصة صدقت عليها القيادات العليا ولم تكن مجرد خطأ أو تجاوز من القيادات الصغري كما حاولت الإدارة الأمريكية الإيهام بذلك. الجديد في الموضوع أن التنصت يتم علي الأمريكيين في الداخل عندما يتحدثون إلي بعضهم البعض، وأيضا عندما يتحدثون أو يرسلون رسائل إلي فرد آخر أمريكي أو أجنبي يعيش في الخارج. أما التنصت علي الخارج فقد كان مباحا من قبل بصفة دائمة حتي قبل 11 سبتمبر. حقيقة المشكلة أن ضربة 11 سبتمبر كانت في جوهرها ضربة معلومات في المقام الأول. فقد استطاع المنفذون للعملية أن يخططوا ويتحركوا ويتقابلوا ويتدربوا ويهجموا علي خصم شهرته الكبري أنه المفجر لثورة المعلومات، لكنه مع ذلك فشل في تفسير ما يجري أمامه لأن كل تركيزه كان علي "الخارج" ولم يكن "الداخل" يمثل له أية خطورة. والمصيبة أنه فشل برغم تركيزه علي الخارج في تفسير الحجم الضخم من المعلومات التي رصدها قبل العملية من الاتصالات التليفونية خارج الولاياتالمتحدة. الضربة المباشرة في عملية 11 سبتمبر كانت موجهة إلي برجي التجارة العالمي في نيويورك والبنتاجون في واشنطن، ولكن الضربة غير المباشرة كان هدفها النيل من مستوي ثقة الدولة الأمريكية في ولاء قطاع من الشعب الأمريكي وخاصة المسلمين منهم. ولم يكن ذلك جديدا في التاريخ الأمريكي، فقد تعرض الأمريكيون ذوو الأصول اليابانية أثناء الحرب العالمية الثانية لنفس عمليات التجسس والمراقبة والعزل، إذ كانت اليابان وقتها دولة من دول المحور تحارب في جانب ألمانيا وإيطاليا ضد أمريكا والحلفاء. الاختلاف الآن أن أمريكا لا تستهدف مواطنين مهاجرين من دولة أخري ولكن تركز علي أمريكيين ولدوا وعاشوا في أمريكا لكن غالبيتهم من المسلمين. الدين إذن هو المشكلة وليس الجنسية، وهي أيضا تتلصص علي المساجد ودور العبادة والمراكز الإسلامية خوفا من مؤامرات قد تحاك داخلها ضد الولاياتالمتحدة. المعضلة التي تواجه أمريكا الآن بسبب افتقادها الثقة في مواطنيها من المسلمين أنها بذلك تحطم الفكرة الأساسية التي قامت عليها أمريكا كبوتقة للطوائف والأجناس والأديان نجحت في تحقيق معجزة الاندماج بأكثر مما تحقق في أوروبا وفي دول أمريكا اللاتينية المجاورة لها والتي مرت بنفس الظروف التاريخية. إن قيام أمريكا بالتنصت علي مواطنيها والشك في ولائهم يمثل الانتصار الحقيقي لمن قاموا بعملية 11 سبتمبر، فكل ما كان يحلم به أسامة بن لادن وأيمن الظواهري هو حدوث هذا الشرخ داخل أمريكا، وانتقال نفس الظاهرة إلي باقي الدول الغربية. الهدف الأساسي من العمليات الإرهابية إذن ليس تدمير برج أو كوبري أو فندق ولكن تحطيم "النموذج" الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة، وهو نموذج انتصر في الحرب العالمية الثانية، وفي الحرب الباردة، وزحف مكتسحا مناطق شاسعة من أوروبا وآسيا رافعا لواء الديموقراطية وحرية الرأي وحقوق المرأة وحرية الإبداع والتجارة. ويري الفكر المتطرف الإسلامي أن الانتصار علي هذا النموذج لن يتحقق بتدمير أهداف مادية أو بشرية فحسب، ولكن بتخلي الدول التي تتبناه عن عناصره الأساسية، ولو في حدود ضيقة في البداية سوف تتسع مع الوقت. لذلك هللت الجماعات الإسلامية المتطرفة لعمليات تعذيب أبو غريب، وتهلل الآن لما يقوم به بوش من تجسس علي المسلمين الأمريكيين، كما أنها تهاجم أي تجربة ديمقراطية وليدة في العالم العربي، ولسان حالها يقول هذه هي حقيقة الدول التي تتغني بالحرية وحقوق الإنسان وهي أول من يتخلي عن هذه المبادئ. ولعل ولع هذه الجماعات بضرب مراكز الانتخابات في أفغانستان والعراق ، وانتقادها مؤخرا لاشتراك الإخوان المسلمين في الانتخابات المصرية دليل علي حجم عداء هذه الجماعات للنموذج الغربي الليبرالي في الحكم والحياة. هذا الموقف الأمريكي يذكرنا في العالم العربي بأننا مررنا بتجربة مماثلة، فقد فعلنا نفس الشئ مع "اليهود العرب" ومعظمهم إن لم يكن كلهم قد ولد علي الأرض العربية منذ آلاف السنين، بل إن بعضهم قد طُرد مع المسلمين من أسبانيا بعد خروج العرب منها. لكن الهاجس الأمني والشك في ولائهم كانت له الغلبة في التعامل معهم وهجرة معظمهم بعد ذلك إلي إسرائيل وإلي أوروبا والولاياتالمتحدة، وساعد علي ذلك تورط مجموعات منهم في عمليات تخرببية ضد الدولة الأم، وهو شئ مشابه لما تورط فيه مسلمون أمريكيون أو إنجليز بارتكابهم عمليات إرهابية ضد البلد الذي ولدوا علي أرضه ويحملون جنسيته. إن نصف اليهود في إسرائيل قد جاءوا أساسا من المنطقة..من مصر وليبيا وإيران واليمن والمغرب والجزائر..إلخ وكل ما فعلناه أننا قدمنا خدمة مجانية للمتطرفين اليهود الحالمين بدولة صهيون الكبري بطردهم إلي هناك، وهي نفس الخدمة التي يمكن أن تتحقق الآن لو قام الغرب بطرد أو "تطفيش" المسلمين لمجرد أنهم مسلمون، فلن يكون أمامهم إلا الانضمام لنفس الأفكار التي يتبناها بن لادن والظواهري وأبو مصعب الزرقاوي. لحسن الحظ أن هناك قطاعات واسعة في الولاياتالمتحدة وأوروبا تعلمت درس الفترة التي سبقت الحربين العالميتين الأولي والثانية، وتعرف جيدا أن الارتداد إلي تلك القيم المناهضة للحرية والديمقراطية والمعادية للأجناس والأديان الأخري سوف يلحق بهذه الدول الضرر قبل أن يلحق الضرر بالأقليات التي تعيش فيها. عندما أوقفت أمريكا المنح الدراسية للقادمين من الدول العربية والإسلامية، انتقد كثير من الأمريكيين ذلك التصرف، وقالوا إنه سوف يقتل التفوق العلمي والتكنولوجي الأمريكي في الصميم، ويقضي علي "فكرة أمريكا" نفسها، وأن هذا التصرف القائم علي البغض والعداء سوف ينتقل مع الزمن إلي طوائف أخري إذا بدأه الأمريكيون مع المسلمين والعرب. ولقد عادت بالفعل معدلات المنح الدراسية الأمريكية قرب معدلاتها الطبيعية قبل 11 سبتمبر. وفي أوروبا عندما تجرأت بعض الصحف الدنماركية علي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، خرجت قطاعات كثيرة من الدبلوماسيين والمفكرين الدنماركيين يدينون تصرف رئيس الوزراء من الحادث. وفي المقابل كان تصرف الخارجية المصرية والجامعة العربية في حدود التحذير من تكرار هذا الخطأ بحزم وحسم، والمتقبل في نفس الوقت لاعتذار الآخرين بحكمة وسعة صدر. كل ذلك لا يعني أن تغفل الدولة عن أعدائها في الداخل أو في الخارج، أو لا تفعل الواجب لردعهم ومعاقبتهم إذا لزم الأمر، لكن العالم قد تغير، والعمل الأمني الصحيح والماهر والمحترف هو الذي يقوم علي الفرز الدقيق للأمور، ومواجهة المخاطر الحقيقية في مهدها وفي حجمها الحقيقي بدون تهويل ولا تهوين، وبدون تضييع لفرص وعلاقات المستقبل مع الآخرين.