إنه يتنفس الخوف علي نفسه، وما بقي له من مستقبله الرئاسي.. لهذا يعزف للشعب الأمريكي دائما علي وتر الفزع، ليسوقه بغريزة القطيع! والترويع يولد الترويع.. ومنذ فاجعة سبتمبر وشبحها يطارد المسئولين في البيت الأبيض بسؤالين: هل مختطفو الطائرات 19 فردا لهم سند أرضي من الخلايا النائمة داخل الولاياتالمتحدة؟.. وما الطريق إلي عناوينهم المجهولة؟! .. وأصدر جورج بوش تعليمات سرية لوكالة الأمن القومي تبيح لها علي سبيل الاستثناء التنصت علي أرقام التليفونات والبريد الالكتروني للمشتبه فيهم، دون الحصول علي إذن قضائي كما تقضي أحكام القانون الجنائي في الولاياتالمتحدة وسائر دول العالم الحر.. إلا أن وكالة الأمن القومي توسعت في هذا الاستثناء حتي أصبح قاعدة تشمل الشعب الأمريكي بأكمله.. والزوار الأجانب.. حتي أعضاء الهيئات الدبلوماسية أصحاب الحصانة! ساءلوا بوش، أجاب بسذاجة: "فعلت ذلك لأن العدو مازال يريد إلحاق الأذي بنا.. وإن كان ثمة من يتصل بالقاعدة من الأراضي الأمريكية، فمن الطبيعي أن نعرف: لماذا؟!".. بمثل هذه البساطة انهارت الحرية الفردية في الولاياتالمتحدة وأصبحت دولة بوليسية! حتي قانون التخابر الأجنبي الأمريكي لا يسمح بمثل هذه الاباحة والاستباحة.. أقصي ما تعطيه أحكام مواده من استثناء هو: "السماح لوزير العدل بتخويل سلطة الأمن بإجراء تنصت - eavesdropping بشرط ابلاغ مضمونها للمحكمة قبل انقضاء 72 ساعة لتصدر بها موافقة ذات أثر رجعي retroactive approval"! وعندما ساءل الصحفيون بوش تعليقا علي هذا الاستثناء المقنن الذي يحترم حرية الفرد، أجاب متلعثما: "الآن.. انظر.. أنا أفهم اهتمام الناس بالتنصت الحكومي.. بل إني أشاركهم هذا الاهتمام.. ومع ذلك من الواضح أن من واجبي أن أوازن بين الحريات الفردية، وبين معرفة نوايا العدو"! وتلاحظ النيويورك تايمز أن بوش لم يذكر شيئا عن تجاهله للنظام القانوني والقضائي الراهن.. ويبرر بمنطق معقول لماذا يتجنبه.. وإن كان مستشاروه القانونيون، ومساعدوه لشئون المخابرات، يجمعون علي أن النظام القانوني بطيء ومزعج جدا!! ... ولأن خروج الرئاسة الأمريكية علي القانون بمثل هذا القدر من التجبر والجسامة بادر السناتور آرلن سبكتر رئيس اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ وهو جمهوري إلي التلويح بمحاولة تصحيح الموقف عندما أعلن عن عقد جلسات استماع حول الموضوع أوائل فبراير.. لولا أن لجنة المخابرات بالمجلس شفعت هذا الاعلان بأن: الجلسات سوف تكون سرية! شيء.. له العجب! أركان المعركة التي تدور رحاها الآن في واشنطن بين بوش وخصومه منازعة حول ما إذا كانت مسئولية الرئيس عن منع تكرار صاعقة سبتمبر أخري في السماوات الأمريكية تخول له الخروج علي قانون أصدره الكونجرس صاحب سلطة التشريع في النظام الرئاسي.. أنصار الرئيس يدعون أن من سلطته اتخاذ إجراءات غير عادية لحماية الأمة مادامت الإجراءات العادية لا تنهض بالحماية الكافية.. بينما يقول خصوم الرئيس إن الحرب ضد الارهاب يمكن أن تتم علي وجه مرض إن لم يكن أفضل دون تفسيرات غريبة وتأويلات غير مألوفة للقانون.. ويضيفون: إن حجج البيت الأبيض وأسانيده تستعيد مقولة نيكسون في ورطة ووترجيت: "عندما يفعلها الرئيس.. هذا يعني أنها ليست غير شرعية".. وهو تأسيس خاطئ علي نظرية لا وجود لشيء إلا الانا - (Solipsism!. مسئول بالبيت الأبيض يجادل مسفسطا: "وكالة الأمن القومي لا تتوسع في الاستثناء.. فقط تراقب هؤلاء الذين يتصلون بالقاعدة".. ويضيف مسئول بالمخابرات المركزية لمجلة "تايم": برنامج المراقبة يستثمر في تطوير شبكة عنكبوت Spiderweb بين أي شخص في الخارج يتصل بالقاعدة وبين مصدر داخل الولاياتالمتحدة، ليقود المحققين إلي أطراف أخري قد يتصل بها هذا المصدر تاليا! ويخفف نائب الرئيس ديك تشيني من ثقل الموقف وهو يقول ساخرا: "إن كنت تتصل من لوس أنجيليس بالعمة سادي في باريس.. من المحتمل ألا تثير مثل هذه المكالمة اهتمامنا"! إن كان الأمر كذلك يقول نقاد الرئاسة وخصومها لماذا لا تحصل وكالة الأمن القومي علي إذن قضائي مسبق بالمراقبة والتنصت.. خاصة وأن سجلات وزارة العدل الأمريكية تكشف عن أنه في الفترة بين عامي 1979 و2003 أصدرت المحاكم 18724 إذنا بالمراقبة والتنصت، ولم ترفض غير 3 طلبات لا تستدعي صدور إذن.. صحيح لماذا؟! والشيء الذي يثير العجب أن الكونجرس أصدر قرارا في 14 سبتمبر 2001 بعد 72 ساعة من الضربة الصاعقة يخول فيه الرئيس بوش ضمنيا سلطة اتخاذ قرار بالتنصت.. منطوقه بالحرف: ".. يتخذ الرئيس كل الإجراءات الضرورية المناسبة، ضد الأمم والمنظمات والأفراد المتورطين في هجمات 11/9".. لكن البيت الأبيض لم يقتنع بهذا النص الضمني لأنه كان يريد نصا صريحا.. وقرر جونز اليس وزير العدل المضي في تنفيذ برنامج التنصت بقرار من الرئيس بوش، ليقينه القانوني بأن: "الرئيس عندما يفعلها.. هذا يعني أنها شرعية"!! حكومة "العصابة السرية"! لم يفاجأ جورج بوش عندما كشفت النيويورك تايمز اغتصابه لسلطة التشريع واستباحة التنصت علي خلق الله دون إذن قضائي.. بالعكس تنطع وتجبر.. واعترف جهرا بأنه مارس هذه السلطة المغتصبة أكثر من 30 مرة!.. بل إنه تطاول علي هؤلاء الذين كشفوا فعلته غير الدستورية، ووصف دفعهم الديموقراطي بأنه عمل مخز! وهو يكابر وينكر أفعاله المخالفة للمنطق والقانون.. حتي لو ضبط في حالة تلبس.. ينكر أنه تغني يوما بالعثور علي أسلحة دمار شامل في العراق.. وينفي أنه يعذب المعتقلين بلا جريمة في معتقل جوانتنامو في كوبا وسجن أبو غريب في العراق، لكنه لا يتنازل عن حقه في الأمر بالتعذيب.. إن لزم الأمر! إنه يفعل الشيء في شهيق ونقيضه في زفير! أعجبني وصف جيد لجوناثان شل في مجلة "ذانيشن" الأمريكية يجسم فيه حكومة بوش في صورة: مرحلة جنينية لدولة دكتاتورية"! ومن قبل وصفها كولن باول وزير الخارجية السابق بأنها: حكومة عصابة سرية (CABAL)! ويطلق جون دي لوليو، المسئول بالبيت الأبيض، تعليقا مركبا علي حكومة بوش.. يقول: "إنها حكومة بلا جهاز سياسي.. يديرها الحزب الجمهوري، مثلما يدير الحزب الشيوعي حكومة الصين في بكين"! هذه الحكومة الخفية قفزت إلي مقدمة الصورة عندما اعترف بوش بقرارات التنصت علي خلق الله واستباح اختصاص الكونجرس التشريعي.. ولئن استمر الرئيس في غيه، فليس أمام الكونجرس حل آخر إلا محاكمته بتهمة اغتصاب السلطة التشريعية usurpation.. وبذلك تتكرر "لعنة نيكسون" في سابقة ثانية تلحق بالحزب الجمهوري! ورؤية الوجدان عندي أن تمثال الحرية لو فتح عينيه ورأي ما تفعله حكومة بوش الخفية، لتهاوي من طوله غريقا في ميناء نيويورك!