حوار: محمد القصبى قابلته قبل 20 عاما .. حاورته .. وهو نجم فى أشعاره ومقابلاته .. نزار قبانى .. سألته .. وأيضا سألنى .. وهذا نص ما دار بيننا من حوار .. قبل كل هذه السنوات .. ماذا يعني يوم الثلاثاء الماضي لرعايا جمهورية الأدب ؟ أخشى أن يمضي الكثير وقتهم مكابدين في البحث عن إجابة للسؤال اللغز ربما دون أن ينتهوا إلى شيء ..وهذا ما يثير الحزن !الثلاثاء الماضي يوافق الثامن والعشرين من إبريل ..وفي ظهيرة هذا اليوم منذ سبعة عشر عاما أتذكر- هاتفتني صديقة عمانية ..كانت حروفها الباكية تنسال عبر أسلاك الهاتف ألما ..قالت بمشقة : نزار مات !! فجيعة رحيل نزار في ذلك اليوم بدت شبيهة برحيل العندليب الأسمر قبل ذلك بواحد وعشرين عاما.. كل أبناء جيلي في الفجيعتين توحدوا حول الشعور..بأن وجدانهم ترمل ..فكلاهما -حليم ونزار- لعبا دورا مهما للغاية في تخصيب الوجدان الجمعي للأمة بمشاعر الحب .. كيف مرت ذكرى نزار دون أن نتذكره ولوبسطر واحد في زاوية منزوية بإحدى صحفنا ..؟ أهي خماسين الربيع العربي التي حجبت عنا حقائق كثيرة ترتبط جينياً بمسيرة الأمة ؟ أم أن مثل نزار هذا مصيره أن ينزوي ..ولايكتب له الخلود لأن شعره كما يدعي البعض ينتمي إلى هذا النوع من الأدب الذي يروج سريعا ..وينزوي أسرع ..وبالتالي لامكان له في الذاكرة ؟ أم هي مؤامرة من مشايخ التكفير الذين أفتوا حين لفظ أنفاسه في بريطانيا في 28 أبريل عام 1998 بعدم جواز صلاة الجنازة عليه ..فقام أصدقاؤه ومحبوه بأداء الصلاة في ساحة المسجد الخارجية !! أم أن الأمة تنتقم منه لأنه قال في قصيدة بلقيس التي قتلت في حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1982 هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب؟ هل نافقته ؟ حين قصدته في مقر اقامته بفندق انتركونتننتال مسقط خلال زيارته لسلطنة عمان في منتصف تسعينيات القرن الماضي كانت أوراقي متخمة بعشرات الأسئلة ومقصدي هو مقصد أي صحفي تتاح له فرصة لقاء مع شاعر بقامة نزار قباني ملأ بقصائده الدنيا صخبا وضجيجا على مدار نصف قرن ..كان مقصدي حوارا صحفيا بالمعنى المتعارف عليه لمجلة المنتدى الإماراتية.. أسأل و يجيب ..مدركا أن إجاباته قنابل تقض مضجع الأوساط الثقافية ..لكنه ولسبب أجهله وربما كانت تلك طريقته في التحاور مع الصحفيين خلع عني صفة الصحفي وجعل من الحوار حديثا بين صديقين وكم كانت سعادتي بالغة بما حدث ..فما أن أعود إلى أسئلتي ويبدأ هو في الإجابة حتى ينتهي بسؤال يوجهه لي ويترقب إجابتي باهتمام .. لكن البداية كانت عاصفة ..ربما لم أكن موفقا في اختيارها ..إلا أنها خشيتي كصحفي أن يداهمنا سريعا ما يشغله عن الحوار فينصرف عني ..لذا ألقيت بقنبلتي : لاأدري ..هل لديك علم بما يتردد عن الشاعرة الكويتية سعاد الصباح ؟ سألني في اهتمام : ماذا يتردد؟ انتابني شيء من التردد ..لكنني تغلبت عليه وقلت : إن أشعارها في الحقيقة هي أشعار نزار قباني ..أعني .. ؟ قاطعني بشيء من الغضب: ماذا تستكثرون أن يكون بيننا شاعرة عظيمة ؟! فاجأني بسؤاله ..إلا أن الله ألهمني إجابة بدت مرضية أو مخرجا لي من مأزقي ..قلت : -ربما لأن المرأة العربية عبر التاريخ أجادت دور الملهمة أكثر من دور المبدعة ! هز رأسه فيما يبدو أنها موافقة على ما قلت ..ولم يعلق مما منحني أن أقود الحوار بعيدا عن حقل الألغام هذا .. سألته عن قصيدة النثر.. وبالطبع كان من الطبيعي أن يتطرق الحديث الى أدونيس فسألني :هل تعجبك أشعاره ؟ قلت :هو يزف القصيد عروسا لشيخ القبيلة ولاأحد سواه ..أما أنت فتزفها في تمام بهائها لكل أفراد القبيلة ! .. بدا سعيدا بما قلت..ها أنا أنجح أخيرا في أن أمحو أي كدر سببته له بسؤالي عن علاقته بسعاد الصباح ..إلا أن احساسا بالقلق راودني من أن يكون ما سقته من إجابة نفاقا ! لكن هذا احساسي الآن ..وذكرى رحيله السابعة عشر تلفحنا برياح الألم ..واحساسي الآن كان احساسي دوما ومنذ سنى المراهقة .. وحين كنا نتبادل بلهفة دواوينه في المرحلة الثانوية والجامعة ..حتى الذين لاناقة لهم في الشعر ولاجمل كانوا يشاركوننا ذات الشعور الاحتفائي بكل جديد لنزارقباني ..وبأنه شاعر الأمة ..كل الأمة شبابها وشيوخها ..رجالها ونسائها ..صفوتها وعوامها .. فهل كان احساسنا صادقا ..أن نزاراً بالفعل يكتب شعرا جديرا بالاحتفاء ! البعض يشكك! يقينا طرح سؤال على تلك الشاكلة من وجهة نظر الكثيرين يبدو استفزازيا وربما جنونا..أبعد تلك الامبرطورية الشعرية الهائلة التي شيدها صاحب القصائد المتوحشة عبر جغرافيا الوجدان العربي من المحيط إلى الخليج نشكك في شعرية ما كتب ! بعضهم فعلها ..والمثير أنهم نقاد كبار ..فإن كان البعض قد اكتفى بالتهامس فهناك من جهر بما لديه .. مثل الناقد الدكتور ماهر شفيق فريد الذي أخرج نزاراً من زمرة الشعراء حيث قال في كتابه :الواقع والأسطورة دراسات في الشعر العربي المعاصر :حين يوضع شعر نزار في ميزان النقد العلمي الصارم سيتبين أن أغلبه متواضع القيمة.. أوله كآخره بلا نمو يذكر..ولا مكان له في ديوان الشعر الخالد باستثناء أربع أو خمس قصائد.. ويستطرد شفيق في معرض حكمه القاسي قائلا : إن نزار قباني لن يدوم دوام السياب ولا عبد الصبور ولا حجازي ولا خليل حاوي ولا حتى أمل دنقل.. فهو لا يملك العمق الفكري ولا البراعة التقنية ولا القدرة على التطور الذي يميز عمل هؤلاء الشعراء.. وراء بريق ألفاظه.. ثمة افتقار الى المعنى..او معنى بالغ السطحية ..وركاكة فكرية إن جاز التعبير. ويسوق أيضا الناقد جهاد فاضل أراء شبيهة في كتابه نزار قباني: الوجه الآخر ..بل إنه يتهم نزار بالسطو على قصائد شعراء فرنسيين وينسبها إلى نفسه مثل قصيدة إفطار الصباح.. لجاك بريفير وتكتسب آراء الناقدين الدكتور ماهر شفيق وجهاد فاضل أهميتها من أنهما يضعان النص تحت المجهر الفني وليس المجهر الأخلاقي ..فكثير من النصوص في عالمنا العربي قد لاتحول جودتها الفنية دون أن تساق إلى مقصلة التأويل الأخلاقي .. وكان نزار قباني وعبر نصف قرن ضحية التأويلات الأخلاقية ..حيث يرى نفر غير قليل من الأمة أن في شعره مروقا عن القيم الدينية .. على أية حال ليس التأويل القيمي ما يعنينا الآن ..بل ما يقوله شفيق وفاضل ..فهل شعر نزار بهذا القدر من الرداءة الفنية ..؟ لو كان الأمر كذلك ..فلم راج وشاع بما لم يحظ به شاعر معاصر ؟ يدفعني هذا إلى أن أستحضر من الذاكرة ما قاله الناقد الكبير الدكتور جابر عصفور في مقال له بصحيفة الأهرام: إن الأدب الرائج لايعني بالضرورة أنه الأجود .. الا أن عصفور يحذرنا من أن نتخذها بديهية مسلم بها.. إن كل ماهو رائج ليس الأجود فنيا .. فكثير هي الأعمال التي راجت وكانت على قدر عال من الجودة الفنية ولو لازم كل النقاد خندق ماهر شفيق وجهاد فاضل لاستسلمنا لأرائهم بأن نزاراً بنى مجده على أنغام آهات الغوغائيين ..! الا أن آخرين - أيضا نقاد كبار - يرون ما لايراه شفيق وفاضل .. فالناقد المغربي الدكتور نجيب العوفي يذهب في دراسة له إلى أن نزار كشاعر حداثي يورط الحداثة والحداثات والحداثيين ويضع الجميع في مأزق. ويقول العوفي كثرة كثيرة من الشعراء العرب على توالي العقود الزمنية الشعرية، تعاملوا مع الشعر والحداثة الشعرية بنوايا مسبقة وبمرجعيات وخلفيات مستحضرة سلفا، فكان هناك مشروع نظري وجملة مبادئ نظرية هي التي تؤهل للدخول في حمى الحداثة.. ثم يجهد الشاعر نفسه من أجل أن يصوغ نصوصا على مقاس تلك المشاريع والمبادئ الأولية الموضوعة سلفا ..ولقد أجهز هذا على كثير من النصوص الشعرية المحسوبة على الحداثة.. وخنق فيها بعض مكامن الحيوية والحرارة..وهو ما انتبه إليه نزار قباني بطريقة عفوية وتلقائية.. ولكنها طريقة معززة كذلك بثقافة أدبية ولغوية وتاريخية رفيعة.. فحرر تجربته الشعرية من كثير من المسوح الثقافية والأقماط المعرفية والطقوس الاستعارية والمجازية .. لهذا كانت نصوص نزار الشعرية عارية وتلقائية.. يتطلع نزار من خلالها نحو الحداثة الشعبية لا الحداثة النخبوية .. لأن الحداثة الشعبية يمكنها أن تخترق وتتواصل مع الناس وتصبح جزءا من الفولكلور الشعبي .. وما كنت قد قرأت هذا الذي كتبه العوفي حين التقيت بنزار في مسقط .. لذا يمنحني كلامه هذا احساسا بأنني لم أنافق شاعرنا الكبير حين قلت له إنه زف القصيد عروسا بهية للأمة كلها .. ! بل وأمنح ظهري الى ما يقوله شفيق وجهاد .. واستعين بما قاله عصفور.. فمن الأدب الرائج كثير - ماهو جيد .. بل فائق الجودة . .وأظن أن شعر نزار جدير بأن يبند تحت هذه الفئة شعر فائق الجودة !!! ومع ذلك تكاد ذكراه تذبل في وجداننا ..فهل قارئة الفنجان أنبأته بهذا ..إن الأمة التي انتشت بأشعاره عبر نصف قرن ستلفظه من ذاكرتها بعد وفاته بأسابيع !!