لم يكن يتوقع أحد ممن دعوا إلى استلهام واقتباس نموذج أمريكا اللاتينية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدم الاقتصادي، أن يحدث ما حدث بها من توترات اجتماعية وسياسية، ناهيك عن تراجع معدلات النمو الاقتصادي منذ العام الماضي إلى جانب تفشى روائح الفساد في أوساط نخب الحكم، وضعف الاهتمام بقضية حقوق الإنسان. فبعد أن ظلت نجاحات دول القارة اللاتينية، وفى مقدمتها البرازيل والأرجنتين والإكوادور حلماً يراود قطاعاً واسعاً من العرب، لا سيما وأنها تحتل مراكز متقدمة بين اقتصاديات العالم الكبرى، ناهيك عن أن معدل النمو الاقتصادي في هذه الدول يعتبر من أعلى المعدلات، ويتخطى شريحة كبيرة من الدول الأوروبية خلال السنوات العشر الماضية، بدأت حالة الخوف والتوجس في الفترة الحالية تنشب بعد عدة أحداث، وبدأت تظهر جلياً خلال تظاهرات البرازيل منذ شهور ومن قبلها التوترات التي شهدتها المكسيك والأرجنتين وفنزويلا وغيرها. وفي محاولة للتعرف على ما حدث، فنجد أن دول القارة اللاتينية قد شهدت على مدار الأشهر القليلة الماضية سلسلة من الاحتجاجات الجماهيرية على خلفية تفاقم أعمال العنف، وانتشار الفساد جنباً إلى جنب ازدياد معدلات التضخم. تغذية وتأزم وشكل سوء توزيع الدخل وغياب الأمن في دولة المكسيك، عنصرين مهمين في تغذية الاحتقانات الاجتماعية، لا سيما مع انتشار عصابات المخدرات وأوكار الجرائم التي فشلت الدولة على مواجهتها، علاوة على اتساع رقعة ظاهرة الفقر الذي يطال ما يقرب من نصف السكان البالغ عددهم 112 مليون نسمة. وحول الوضع السياسي المكسيكي، فوصل هو الآخر إلى ذروة التأزم، خاصة مع نجاح "انريكى نيتيو" ممثل الحزب الثوري الدستوري في الفوز بالمقعد الرئاسي في الانتخابات التي شاهدتها البلاد في يوليو 2012، صاحب السجل البائس في مجال حقوق الإنسان، إضافة إلى دورة غير الأخلاقي في قمع احتجاجات طلابية سابقة عندما كان متولياً مقاليد أمور ولاية مكسيكو خلال الأعوام الخمس الماضية. الاحتجاجات الشعبية ومن المكسيك إلى الأرجنتين وفنزويلا، فلم يكد شبح الاحتجاج ينحسر قليلاً في المكسيك حتى أطل برأسه مجدداً في الأرجنتين، التي تعاني منذ العام 2012 قلاقل واضطربات غير مسبوقة، حيث شهدت المكسيك طوال الشهور الماضية عدداً من الاحتجاجات الشعبية، بعضها يرجع إلى التباطؤ الاقتصادي وارتفاع أسعار السلع الأساسية، إضافة إلى حزمة الإجراءات التقشفية مثل حظر الشراء بالدولار وتقليص الواردات، والبعض الآخر يعود إلى بذخ الرئيسة كريستينا والحديث عن تدهور قدراتها الصحية. وفي سياق متصل، دخلت الأرجنتين هي الأخرى مرحلة الشحن السياسي، وذلك على خلفية قرار البرلمان نهاية أكتوبر الماضي بتخفيض سن الانتخاب إلى 16 سنة بدل 18 لتوسيع القاعدة الانتخابية المؤيدة للرئيسة "كريستينا كيرشنر" (60 عاماً)، التي تسعى إلى خلق عصا دستورية لتأمين فترة رئاسية ثالثة. خروقات وتجاوزات أما فنزويلا فلم تكن ببعيدة عن جاراتها، إذ وقف قطار الاحتجاجات الشعبية على سطح صفيح ساخن، لا سيما منذ تدهور الوضع الصحى للرئيس تشافيز وحتى وفاته، وصعود نائبه نيكولاس مادورو إلى صدارة المشهد بعد انتخابات رئاسية شابتها الكثير من التجاوزات والخروقات على حد قول البعض. وبلغت الاحتجاجات الشعبية ذروتها ضد الحكومة الفنزويلية نتيجة ارتفاع معدلات التضخم التي وصلت إلى 20%، وعجز الموازنة العامة الذي بلغ نحو 15% من الناتج المحلى الإجمالي، فضلاً عن الفساد المستشري والبنية التحية المتهالكة، واعتماد الدولة على تصدير النفط كمصدر رئيس للدخل بعد تأميم مئات الشركات الخاصة. ولذلك يتوقع المحللون أن عام 2013 سيبقى عامًا للتناحر السياسي في فنزويلا، فبدلاً من السعي إلى إقامة شراكة وطنية فى إطار مشروع تطوير البلاد، وإرساء تجربة ديمقراطية بعيدة عن التقاليد الديمقراطية الشعبوية، اتجهت العملية الانتخابية إلى توسيع الهوة بين النظام ومعارضيه، ولعل الاحتجاجات الشعبية، والطعون المنظورة أمام المحكمة الدستورية العليا ضد نتيجة الانتخابات الرئاسية مثالاً حياً على ذلك. هزة عميقة ويبدو أن العدوى قد انتشرت لتصل إلى العاصمة برازيليا، فلأول مرة منذ تظاهرات العام 1992 التي أطاحت برئيس الحكومة السابق فرناندو كولور دي ميلو بعد محاكمته أمام مجلس الشيوخ، ويتعرض حزب "العمال اليساري" الحاكم في البرازيل الذي يمسك بزمام السلطة منذ عام 2002 إلى هزة عميقة، على خلفية التظاهرات الحاشدة التي شهدتها عدد من المدن البرازيلية الرئيسة طوال الأيام التي خلت للتنديد بتخصيص أكثر من 26 بليون دولار من الأموال العامة، لإنفاقها على مونديال 2014 وأولمبياد 2016 اللذين تستضيفهما البرازيل، إضافة إلى القرار الحكومي بزيادة تعريفة سيارات النقل العام ومترو الأنفاق. علاوة على ما سبق، فقد شهدت البرازيل تباطؤاً غير مسبوق في معدلات النمو، وبدا ذلك في إعراب البنك الدولي عن قلقه إزاء تراجع النمو الاقتصادي في البرازيل الذي يرافقه تزايد في معدلات البطالة، وتقلص حركة تجارتها العالمية. ولعل ذلك يفسر ما كشفه أول استطلاع للرأي حول الأزمة، أجراه معهد "أيبوب" عن أن 75% من المواطنين يؤيدون الحركة الاحتجاجية بسبب الكلفة العالية لأسعار السلع والخدمات الرئيسة، يليه الغضب من الطبقة السياسية بنسبة 47%، ثم الفساد بنسبة 33%. تمييز عنصري وعلى الرغم من أن الرئيسة "ديلما روسيف" قد عززت من خطى التسامح العرقي، وأسرعت من وتيرة الاندماج فى المجتمع البرازيلي، إلا أن ثمة مؤشرات تؤكد تنامى معدلات التمييز ومنها ما حدث مثلاً قبل عامين، حين فرض منظمو أسبوع الموضة فى ساو باولو الذى يعتبر أبرز الفعاليات في أمريكا اللاتينية للمرة الأولى حصة تحدد نسبة مشاركة العارضات السوداوات ب 10%، وذلك إثر ضغوطات من حركات الدفاع عن حقوق السود، إلى جانب التمييز العنصري على مستوى المؤسسات، حيث يعاني النظام التعليمي في البرازيل تمييزاً عنصرياً ضد السود، وهو الأمر الذي دفع النظام الحاكم تحت ضغوط احتجاجات السود إلى اعتماد نظام الحصص فى مجال التعليم لتسهيل نفاذ السود إلى الجامعات. وخلاصة القول، تشير معظم المعطيات سالفة الذكر أن القارة اللاتينية في مأزق كارثي قد لا يسمح بتجاوز احتجاجاتها، وترسيخ تجارب التحول الديمقراطي التي بدأتها قبل ما يقرب من عقد ونصف، ومن ثم فهي بحاجة ملحة إلى سلسلة من الإجراءات الفاعلة، والتأسيس لتفاهمات جديدة يمكن على أساسها تعظيم نموها الاقتصادي، إلى جانب ضرورة معالجة التوتر الداخلي الناجم عن تنامي معدلات الفساد، وسيطرة النخب الطفيلية على مقدرات بلدانها.