بعيدا عن صيغ الرثاء والبكاء علي التاريخ الفائت للرئيس الراحل جمال عبد الناصر سنحاول في السطور التالية استعراض جانبا هاما من الإنجازات الثقافية والإبداعية التي تحققت في عهده ودفعتنا إلي تسمية فترة حكمه "بمرحلة النهضة" المسافة تبدو شاسعة بين هموم زعيم امتلك كاريزما خاصة وتربع داخل قلوب الملايين من أقصي المشرق إلي أدناه ، حيث لا مكان في رأسه لقضايا أخري غير القضايا المصيرية كتلك المتعلقة بالإستقلال والبناء وتحرير الشعوب والأراضي المغتصبة ، هذا التصور البديهي هو الأكثر منطقية في تحديد أولويات البرنامج اليومي في أجندة الرئيس الأسبق ولكن المفارقة كانت في ذلك الإقتراب العجيب بين الهم السياسي والهم الفكري. فهو يدرك بإحساسه الوطني المرهف أن العزف المنفرد علي وتر السياسة فحسب لا يمكن أن يوحد النغمة بين كل العناصر في أوركسترا الثورة ، موقنا أن إغفال أي جانب من الجوانب الإنسانية يمكن أن يعصف بالحلم القومي ويذهب به أدراج الرياح. وعليه فقد مضي جمال عبد الناصر في مسيرته النهضوية بتواز منضبط بين مقومات العقل السياسي وتخصيب الوجدان ، وقد خط بيده خريطة الرسم البياني لتفعيل دور الفن والفكر داخل المنظومة السياسية دون إقحام فشرع في تحديد مواقيت وأعياد سنوية لتكريم العلماء والمبدعين ورصد الجوائز التقديرية والتشجيعية وعمل علي إبراز المواهب في مختلف المجالات كالنحت والتصوير والموسيقي والغناء والسينما والمسرح ، وأنشأ في هذا الإطار أكاديمية الفنون ليربط المواهب التلقائية بمناهج دراسية قائمة علي أصول علمية بحتة ليسهل توظيفها توظيفا تقنيا دقيقا، فيما كان برنامج البعثات الخارجية ينشط وفق خطة مدروسة للإنفتاح علي الثقافات العالمية دون التماهي في هوية الآخر أو الذوبان داخل ثقافته الإستعمارية مثلما حدث في عهود تالية . وكما كان ناصر يرصد عن كثب نشاط وتفوق المؤسسات الجماعية كان أيضا يدرك حركة الأفراد ويضع تجاربهم تحت مجهره الخاص ،وربما يأتي إنزعاجه لهجرة فاتن حمامة إلي بيروت في منتصف الستينيات دالا علي ذلك ، فقد قرأ في إحدي الصحف اللبنانية أن سيدة الشاشة العربية تعتزم تكريس نشاطها الفني في بيروت بادئة رحلتها بفيلم جديد مع يوسف شاهين فطلب من زكريا محي الدين رئيس الوزراء آن ذاك أن يجد في معرفة أسباب وملابسات قرار فاتن حمامة بإعتزال الفن في مصر وأن يعيدها إلي القاهرة مؤكدا أنها ثروة قومية لا يجوز التفريط فيها. وبالفعل كلف زكريا محي الدين سعد وهبة بهذه المهمة ، حيث كان يشغل منصب رئيس المؤسسة العامة للسينما والذي إتصل بدوره بالمنتج رمسيس نجيب ليستوضح منه الأمر ويدعوه لإجراء إتصال هاتفي مع فاتن حمامة يبلغها فيه برغبة الرئيس عبد الناصر بعودتها فورا إلي مصر . ولكن لأسباب تتعلق بظروف مصر السياسية بعد نكسة 67 ترك زكريا محي الدين رئاسة الوزراء وسعد وهبة رئاسة مؤسسة السينما وانشغل الرئيس عبد الناصر وبقيت فاتن حمامة في بيروت ، وظلت أشياء كثيرة معلقة ، إلي أن نهضت مصر من كبوتها إبان إنتصارات حرب الإستنزاف المتتالية فشكلت وعيا جديدا واستعاد الإبداع عافيته معلنا شعار التحدي عبر الريشة والفرشاة ودقات المسرح الثلاث وصوت الأغاني المقاتلة التي أنذرت العدو الصهيوني بالهزيمة مبكرا قبل حرب أكتوبر بسنوات . هكذا غدت الأدوات الفنية تشكل فيما بينها نموذجا هندسيا متساوي الأضلاع مثبتا فوق قمته الهرمية علم العروبة ومعززا إسم قائد يوليو،وكما تجاوبت مفردات الحياة الإبداعية مع ناصر تجاوب هو معها فأمر بدعم كل الحركات الفنية ورفض أي قيد علي كبار المبدعين فدافع عن حق توفيق الحكيم في نقد الثورة في مسرحيته ( السلطان الحائر ) ، كما دافع أيضا عن حق نجيب محفوظ في الإبداع والنقد، فضلا عن رفضه مصادرة فيلمي باب الحديد وشيئ من الخوف ، غير أنه كرم الرموز أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والعقاد وطه حسين وفريد الأطرش وفيروز معليا بذلك من شأن الثقافة ومبرهنا علي إحترامه لكل أشكال الإبداع . من هنا كان لعبد الناصر الفضل في إثراء حركة الثقافة المصرية ومن ثم كان حريا بمصر وشعبها أن يتذكروه في غيابه برغم مررو كل هذه السنوات فهو الغائب الحاضر في كل المحافل والملتقيات .