بعد مصر، 3 دول عربية شعرت بزلزال تكريت واليونان    الجيش الأردنى يعلن سقوط صاروخ مجهول المصدر في منطقة صحراوية بمحافظة معان    مواعيد أهم مباريات اليوم في جميع البطولات والقنوات الناقلة    هزة أرضية قوية توقظ سكان الإسكندرية    بريطانيا تحث إسرائيل على رفع الحظر عن المساعدات الإنسانية لغزة    معهد الفلك: زلزال كريت كان باتجاه شمال رشيد.. ولا يرد خسائر في الممتلكات أو الأرواح    خلال أيام.. امتحانات الصف الثالث الابتدائي الترم الثاني 2025 بجنوب سيناء (توزيع الدرجات)    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الأربعاء 14-5-2025    بعد زلزال الآن.. أدعية مستحبة في وقت الزلازل    دعاء الزلزال.. ماذا نقول عند حدوث هزة أرضية؟    دعاء الزلازل.. "الإفتاء" توضح وتدعو للتضرع والاستغفار    اليوم.. انطلاق امتحانات الشهادة الابتدائية الأزهرية 2025 الترم الثاني (الجدول كاملًا)    سعر البطيخ والموز والفاكهة في الأسواق اليوم الأربعاء 14 مايو 2025    عيار 21 يسجل مفاجأة.. أسعار الذهب اليوم الأربعاء 14 مايو بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    مندوب فلسطينن لدى الأمم المتحدة: 93% من أطفال غزة معرضون لخطر المجاعة    بينهم طفلتان.. 4 شهداء ومصابون إثر استهداف خيمة نازحين في خان يونس    الخارجية الروسية تنتقد رفض "ناتو" منح اعتماد صحفى لوكالة "تاس" لحضور اجتماع فى تركيا    «البيئة» تفحص شكوى تضرر سكان منطقة زهراء المعادي من بعض الحرائق وتحدد مصدر التلوث    الأهلي بطل السوبر الإفريقي بعد الفوز على الترجي التونسي في كرة اليد    ملف يلا كورة.. فوز الأهلي.. عودة بيراميدز.. والزمالك يغيب عن دوري أبطال أفريقيا    مدرب الزمالك: الفوز على الأهلي نتيجة مجهود كبير..وسنقاتل للوصول للنهائي    أول قرار من أيمن الرمادي بعد خسارة الزمالك أمام بيراميدز    «إنذار خطر».. رسالة نارية من مصطفى عبده ل عماد النحاس بسبب أداء الأهلي    د.حماد عبدالله يكتب: الأمن القومى المصرى !!    التخطيط: 100 مليار جنيه لتنفيذ 1284 مشروعًا بالقاهرة ضمن خطة عام 2024/2025    زلزال قوي يشعر به سكان محافظتي القاهرة والجيزة    أول رد رسمي من محامي رمضان صبحي بشأن أداء شاب واقعة «الامتحان»    فتحي عبدالوهاب يكشف كواليس «الحشاشين»: تمنيت ألا يكون دوري مجرد ضيف شرف    هل تنتمي لبرج العذراء؟ إليك أكثر ما يخيفك    استعدادًا لموسم حج 1446.. لقطات من عملية رفع كسوة الكعبة المشرفة    الخميس.. انطلاق مؤتمر التمكين الثقافي لذوي الهمم في المحلة الكبرى تحت شعار «الإبداع حق للجميع»    وفاة جورج وسوف شائعة وحالته الصحية بخير ويستعد لجولته الغنائية فى أوروبا    الذهب قرب أدنى مستوى أسبوعي وسط انحسار التوتر التجاري    تعليم سوهاج يعلن جدول امتحانات الشهادة الإعدادية للفصل الدراسي الثاني 2024-2025    لماذا تذكر الكنيسة البابا والأسقف بأسمائهما الأولى فقط؟    فى بيان حاسم.. الأوقاف: امتهان حرمة المساجد جريمة ومخالفة شرعية    الكشف على 5800 مواطن في قافلة طبية بأسوان    إصابة 9 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة برصيف فى التجمع    تعليم سوهاج تواصل تقديم المحاضرات المجانية لطلاب الثانوية العامة.. صور    نجم الأهلي: حزين على الزمالك ويجب التفاف أبناء النادي حول الرمادي    سامبدوريا الإيطالي إلى الدرجة الثالثة لأول مرة في التاريخ    محافظ الإسماعيلية يشيد بالمنظومة الصحية ويؤكد السعى إلى تطوير الأداء    محافظ الدقهلية يهنئ وكيل الصحة لتكريمه من نقابة الأطباء كطبيب مثالي    بحضور يسرا وأمينة خليل.. 20 صورة لنجمات الفن في مهرجان كان السينمائي    حدث بالفن | افتتاح مهرجان كان السينمائي وحقيقة منع هيفاء وهبي من المشاركة في فيلم والقبض على فنان    أرعبها وحملت منه.. المؤبد لعامل اعتدى جنسيًا على طفلته في القليوبية    نشرة التوك شو| استعدادات الحكومة لافتتاح المتحف المصري الكبير.. وتعديلات مشروع قانون الإيجار القديم    أحمد موسى: قانون الإيجار القديم "خطير".. ويجب التوازن بين حقوق الملاك وظروف المستأجرين    رئيس جامعة المنيا يستقبل أعضاء لجنة المشاركة السياسية بالمجلس القومي للمرأة    هل أضحيتك شرعية؟.. الأزهر يجيب ويوجه 12 نصيحة مهمة    "قومي المرأة" و"النيابة العامة" ينظمان ورشة عمل حول جرائم تقنية المعلومات المرتبطة بالعنف ضد المرأة    «بيطري دمياط»: مستعدون لتطبيق قرارات حيازة الحيوانات الخطرة.. والتنفيذ خلال أيام    فرصة لخوض تجربة جديدة.. توقعات برج الحمل اليوم 14 مايو    مهمة للرجال .. 4 فيتامينات أساسية بعد الأربعين    لتفادي الإجهاد الحراري واضطرابات المعدة.. ابتعد عن هذه الأطعمة في الصيف    فتح باب التقديم للمشاركة في مسابقة "ابتكر من أجل التأثير" بجامعة عين شمس    جدول امتحانات الصف الثالث الإعدادي 2025 الفصل الدراسي الثاني محافظة قنا    وزير الدفاع يلتقي نظيره بدولة مدغشقر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"محاكمة زعيم" .. قصة حب أنقذت عرابي ورفاقه من السجن (39)
نشر في محيط يوم 27 - 02 - 2013

ربما لم يشهد تاريخ القضاء المصري مثل قضية محاكمة أحمد عرابي زعيم الثورة العرابية، هذا الضابط الفلاح الذي جاء من أعماق الريف المصري ورغم أنه تبوأ أكبر المناصب العسكرية حتى أصبح ناظرًا للجهادية إلا أن المنصب الكبير والرتب والنياشين لم تمنعه من أن يعلن الثورة على الخديوي من أجل كل المصريين. وأن يتصدى بكل جسارة وشجاعة لأساطيل وجيوش المحتل البريطاني.

إن وقائع محاكمة عرابي وأسرار القضية التي لم تذع من قبل. هي أشرف وسام للمواطن المصري.

ومن ناحية أخرى فإن تفاصيل القضية ومحضر استجواب أحمد عرابي، وحكم إعدامه الذي استبدل به النفي إلى الأبد من الأقطار المصرية، ستظل بكل ما فيها من أسرار وتناقضات شاهدًا على تاريخ مصر العظيمة وشجاعة رجالاتها الأوفياء، وكيف حاول – ويحاول – اللصوص والمنافقون تزييف هذا التاريخ برذاذ أسود وزبد الفقاعات الهشة. لكن الثوب يبقى ناصعًا رغم الرذاذ، والزبد دائمًا يذهب هباء.

ويكفي أن تهمة أحمد عرابي كانت الخيانة العظمى لأنه أبى الاستسلام وأصر على الدفاع عن مصر ضد الإنجليز.

عندما تناولت التحقيقات مع أحمد عرابي واقعة القبض عليه أول مرة لمحاكمته أمام مجلس عسكري وحضور قوات من الجيش قامت بإطلاق سراحه ورفاقه المعتقلين، لم تتطرق هذه التحقيقات إلى ملابسات الواقعة وظروفها. ولم تتضمن الأوراق الرسمية لاستجواب أحمد عرابي هذه الملابسات. ولا كيف كانت قصة حب شريفة طاهرة، بين فتاة من أسرة كريمة وأحد زعماء الثورة العرابية هو علي بك فهمي، وراء إنقاذ عرابي ورفاقه من السجن أول مرة!

وبطلة القصة المثيرة كان اسمها "بهيجة هانم" وكانت ابنه ضابط تركي كبير في الجيش المصري آنذاك هو الفريق إسماعيل باشا الجركسي:

كانت "بهيجة هانم" فتاة في حوالي العشرين من عمرها. رشيقة القوام رائعة الجمال ذات شعر أصفر كالذهب وعيون خضراء تبدو في نظرتها حقول مترامية الأطراف لا نهاية لها.

وقد شاء القدر "لبهيجة هانم" أن تقع في حب "علي بك فهمي" لكنه كان حبا عذريا ومن طرف واحد.. هو طرفها.

كانت "بهيجة هانم" وقريبتها "إقبال هانم" قد سمعتا من الجيران أن ضابط الجيش الكبير "علي بك فهمي" تعود أداء صلاة فريضة العصر في مسجد السيدة زينب. الذي تترددان عليه بين الحين والحين لزيارة مقامها الشريف. وقررت الاثنتان أن تذهبا إلى مسجد السيدة زينب في أحد الأيام قبل صلاة العصر، لعل الفرصة تتاح لهما لإلقاء نظرة على ذلك الضابط الجسور الذي يتحدث عنه الناس بالإعجاب والفخر.

وفي مقاله "الرسالة التي أنقذت عرابي ورفاقه" يروي أحمد عبد المجيد الفقي تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم قائلاً: "أمام مسجد السيدة زينب وقفت ثلاث نساء إحداهن شابة رائعة الجمال هي بهيجة هانم، والثانية أكبر منها وهي قريبتها إقبال هانم التي هي من ذوات الحسن الكامل. ومعهن جارية سوداء شابة. نشيطة الحركات في المحافظة على سيدتيها من الزحام. مع حسن الذوق والأدب في معاملة من حولها وخاصة سيدتيها. وهي بهذه الصفات تسترعي حب كل من يراها ونظره، وكان اسمها سعيدة.

ودارت بين النسوة الثلاث مناقشة موجزة فهم منها أنهن في غاية الخوف والحرج، لأنهن جئن لمشاهدة الضابط علي بك فهمي. فهمن مرتبكات أشد الارتباك بين كونهن يزرن مقام السيدة زينب. أو يفضلن الانتظار خوفًا من حضوره في أثناء وجودهن بالمسجد.

ودارت بينهن المناقشة حول المكان المناسب ودرجة قربه أو بعده من الباب. ثم خرجن من المناقشة كلها فجأة. حين تشير "سعيدة" في سرعة إلى قادم من بعيد قائلة:

ها هو ذا.. سيدي علي بك فهمي.. قربوا شوية عند الباب قربوا.

فقالت السيدة إقبال هانم: ليس في الإمكان أن نقترب أكثر من ذلك.

ويصل الضابط الرزين المهيب علي بك فهمي أحد أبطال الثورة العرابية بخطوات ثابتة ويخلع حذاءه في تأن وهدوء.

وتكون فرصة سانحة لبهيجة هانم لكي تملأ عينيها من محياه وحسن هيئته. ويدخل هو.

ويعدن إلى المناقشة حول مكان الانتظار في أثناء خروجه، وتمر عليهن دقائق الصلاة القليلة، وكأنها ساعات من فرط الخوف والارتباك ويأخذن مكانهن. وإذا بزحام الخارجين من الصلاة يجرفهن جرفا. فيكدن يقعن لولا قوة شباب "سعيدة" البدينة وتمسكها وشدة محافظتها على سيدتيها.

وتعود "بهيجة هانم" وقريبتها "إقبال هانم" وجاريتهما "سعيدة" إلى المنزل الذي هو في أحد الشوارع القريبة من باب اللوق، تلك المنازل القديمة الفخمة ذات الأثاث المرتب النظيف والخدم والجواري والأغوات.

وهذه السراي على النظام التركي القديم، حيث يجد الداخل على يمينه "السلاملك" وهو المكان المعد لاستقبال الرجال. وإلى اليسار "الحرملك" وهو المكان المعد للحريم. ومن المعروف في ذلك الحين احترام المصريين لتقاليد الحجاب احتراما كاملاً. فالنساء في عزلة تامة عن الرجال.

وهذه السراي هي سراي الفريق إسماعيل باشا الجركسي وتتجه ثلاثتهن نحو الحرملك فتستقبلهن سيدة جركسية ذات جمال ووقار وهيبة. وهي والدة "بهيجة هانم" وتبادرهن بالسؤال عن زيارتهن لمسجد السيدة زينب وكيف كانت الزيارة وهل قرأن الفاتحة. وهل دعون لوالدي بهيجة؟

فتجيب "إقبال هانم" عن كل الأسئلة بصفتها أكبر من بهيجة ابنة خالتها وصديقتها الحميمة. كما هو معروف في وسطهن العائلي منذ طفولتهما المبكرة.

ثم تنفرد بهيجة وإقبال..

وتدور بينها المناقشات ويظهر من تلك المناقشات أن "بهيجة هانم" أحبت "علي فهمي" منذ أول نظرة شاهدته فيها وهو متجه إلى السلاملك.. وكان هي في إحدى النوافذ المطلة. ثم رأته بعد شهور في حفل زواج دعيت إليه والدتها فاستصحبتها ورأت في تلك الليلة علي فهمي داخلا مع بعض المدعوين.

وتمضي الأيام وراء الأيام.

والأسابيع تلو الأسابيع.. والشهور بعد الشهور. وتلك الفتاة الجركسية الجميلة "بهيجة هانم" تعاني من حب علي فهمي ما تعانيه. سجينة في التقاليد وراء الحجب الكثيفة التي تحول بين الفتيات بوجه خاص وبين الرجال، في عصر الحجاب المعروف. على أمل أن تحدث مصادفة سعيدة بل تقع معجزة ويرسل علي فهمي من يخطب بهيجة من والدتها.

ولكن القدر كان يخبئ الشقاء للعاشقة الصغيرة!

يكمل أحمد عبد المجيد الفقي القصة قائلاً: ولكن بدل أن يأتي ذلك اليوم بوجهه المشرق. أتي يوم عبوس بشقائه وويله. فقد وقفت الجارية السوداء سعيدة عند أعلى سلم الحرملك ترتكن على أحد الأعمدة في نحيب وحزن وأمل عميق من أجل سيدتها.

وهذه هي "إقبال هانم" قد وصلت.

ونزلت إليها "سعيدة" مسرعة وأخبرتها أنها علمت أن "علي بك فهمي" قد تزوج منذ أمد بعيد. وأنها ترجو "إقبال هانم" أن تنقذ سيدتها "بهيجة هانم" من هذا الحب الذي أصبح ليس وراءه أمل. وليس من الاستمرار فيه أية فائدة.

فأجابتها "إقبال هانم" بأنها لا تستطيع أن تخبر "بهيجة هانم" بهذا الخبر الذي سيكون من غير شك صدمة قاتلة لها.

فتتوسل إليها الجارية "سعيدة" بكل أنواع التوسل..

لكن إقبال هانم تصر على الرفض!

وصعدت الاثنتان معا، تحملان حزنهما وتكتمان دموعهما.. إلى أن وصلتا عند "بهيجة هانم" التي لاحظت عليهما لأول وهلة ما تخفيان من دموع وحزن.. فسألتهما في إلحاح وأصرت على أن تعرف ما تخفيان.. وأصرت الاثنتان على الإنكار والتهرب ومحاولة إبعاد ذهنها عن هذه الأسئلة. إلى أن استطردت "إقبال هانم" وبعبارات سلسلة ذكرت أنها مرت بالفترة التي تمر بها "بهيجة هانم" الآن.

وقالت لها : لقد أحببت مثلك ضابطا وسيما شجاعا شريفا، ولكن القدر والقسمة ساقا إليّ زوجي الحالي الذي تعرفين أنت شرفه وكرم أصله. كما تعرفين أيضًا أن زواجنا كان موفقًا من جميع الوجوه ولله الحمد. حيث رزقنا ولدا وبنتا.. كل قلبي وكل حبي لهما الآن.

وأخيرا.. يصل الحديث إلى نهايته المفجعة.

وتشترك الجارية "سعيدة" مع "إقبال هانم" في إخبار "بهيجة هانم" أن "علي بك فهمي" قد تزوج منذ أمد بعيد.

ولا حاجة لكاتب أن يصف وقع هذا الحديث من نفس بهيجة، فإن وقوع الصاعقة أهون من وقوع مثل هذا النبأ عليها.. ومن المؤسف أنه لم يصل إلى النتيجة التي كانت تريدها "إقبال هانم" والجارية "سعيدة" وإنما وصل ببهيجة إلى نتيجة معكوسة تماما.

لقد زاد وجد الفتاة وزاد حبها "لعلي بك فهمي".

إنه الحب

الحب الذي لا أمل لصاحبه من ورائه.. الحب المجرد عن الغرض.

لكن.. كيف دخلت قصة الحب اليائسة هذه تاريخ الثورة العرابية؟.

يكمل أحمد عبد المجيد الفقي قائلاً: دبر عثمان رفقي مكيدة لإيقاع أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي في الفخ.. فحرر إلى كل منهم خطابا رسميا بالحضور إلى نظارة الحربية لترتيب الاحتفالات لزفاف الأميرة "جميلة هانم" شقيقة الخديوي توفيق.

وبالطبع عرف بالمؤامرة إسماعيل باشا الجركسي وعندما عاد إلى منزله دخل على زوجته واجما مضطربًا في تفكير عميق.. ولاحظت ابنته "بهيجة هانم" هذه الحال السيئة. ولكنها لم تجرؤ على توجيه أي سؤال إليه.

وانتظرت حتى دخل عند والدتها التي أخذت تسأله في دهشة عن سبب ما هو فيه. وهو يداور ويحاور إلى أن تغلبت عليه. فأفضى إليها بكل ما حدث وبهيجة واقفة وراء أحد الأبواب القريبة تسمع. وهي ترتعد غيظًا واضطرابًا وخوفًا على الرجل الذي أعجبت به "علي بك فهمي".

ثم عادت إلى غرفتها.

وظلت في قلق وحيرة مدة طويلة.

وأخيرًا عندما طلع النهار كتبت رسالة وسلمتها إلى جاريتها "سعيدة".

استيقظ "علي بك فهمي" من نومه وتوضأ وأدى فريضة الصلاة. وارتدى ملابسه وقدمت إليه زوجته الإفطار وطلب بعض أطفاله الصغار وداعبهم.

ولم يكد يغادر منزله حتى فاجأته الجارية السوداء "سعيدة" بتحية الصباح.. وتقدمت إليه مسرعة وقبلت يده.. وسلمته ورقة صغيرة.. كانت رسالة "بهيجة هانم" إليه.

وكانت سطور الرسالة تقول "نحيط علم سيادتك أنه تقرر محاكمة سيادتك وأحمد بك عرابي وسعادة عبد العال حلمي. أمام مجلس عسكري بنظارة الحربية. ستصلكم دعوة بزفاف البرنسيسة. الدعوة كاذبة وهي للمحاكمات".

وما كاد "علي فهمي" ينتهي من قراءة الرسالة. ويلتفت حوله. حتى كانت الجارية "سعيدة" قد اختفت تماما!

ابتسم "علي فهمي" استهزاء وفرك الرسالة، وكاد أن يلقيها على الأرض لكنه فكر قليلاً ثم استبقاها في أحد جيوبه.. ومضي في طريقه.

عندما وصل "علي فهمي" إلى مكتبه بديوان الحرس. حيث كان حكمدارا لهذا الحرس في ذلك الحين.. وما كاد يجلس إلى مكتبه حتى استأذن في الدخول عليه أحد ضباطه.. وسلمه خطابا من نظارة الحربية ولما خرج الضابط فض الخطاب وإذا به تذكرة الدعوة لزفاف البرنسيسة أخت الخديوي!.

هب "علي فهمي" واقفا في انفعال شديد...

وأخرج الرسالة التي سلمتها إليه الجارية "سعيدة" ثم عاد وقرأ الدعوة التي وصلته من نظارة الحربية. بالحضور لترتيب إجراءات حفلات زفاف الأميرة.

وأخذ يتمشى في غرفة مكتبه ذهابا وإيابا في تفكير وغيظ.. ثم عاد وجلس إلى مكتبه يفكر. وهكذا ظل في قيام وجلوس ومقارنة بين الخطابين.

وأخيرا دق جرسا..

فدخل عليه أحد الجاويشية فطلب إليه استدعاء البكباشي محمد عبيد.. فذهب الجاويش وبعد برهة وجيزة دخل البكباشي محمد عبيد.. وأدى التحية العسكرية وألقى تحية الصباح ثم سأل في أدب شديد عما تم في شأن العريضة التي تسلمها رياض باشا ليرفعها إلى الخديوي.

فأمره علي فهمي بالجلوس.

وبعد أن جمع شتات أفكاره.

قال للبكباشي محمد عبيد: يخيل إليّ يا بكباشي عبيد أن الأمور تسير في الطريق الذي توقعناه.. الطريق السيئ!.

رد البكباشي محمد عبيد: فليكن.. ولكن كيف يا سعادة الأميرالاي؟

أخرج علي بك فهمي خطاب "بهيجة هانم" وناوله إياه، وما كاد عبيد يقرؤه حتى هب واقفًا.

ثم جلس وقال: أظن أن هذا تدبير جرئ لا يقوى عليه إلا مجرم جريء. وهؤلاء الجراكسة أخبث من ذلك.

أشار عليه علي فهمي بالهدوء.. ثم ناوله خطاب وزارة الحربية. فما كاد يقرؤه حتى وقف كالمجنون، وهو يقول:

مستحيل.. مستحيل لا يمكن أن يتم هذا الإجرام أبدا يا سعادة الأميرالاي.

رد عليه علي فهمي: يريدون أن يذبحونا كما ذبح محمد علي المماليك حينما دعاهم إلى الوليمة.

عاد محمد عبيد يرد: مستحيل.. مستحيل ولن يتمكن هؤلاء القتلة المجرمون من تنفيذ مأربهم.

أمره علي فهمي بالجلوس والهدوء والتفكير لأنه لم يبق على تنفيذ هذه المكيدة إلا دقائق. فجلس وأخذ يجمع شتات نفسه. ويحاول السيطرة على أعصابه بجهد شديد.

واعتمد علي بك فهمي برأسه على يده.

وأخذ يفكر طويلاً.. ثم رفع رأسه.

وقال : طبعا لن أذهب إلى نظارة الحربية. ولكن فات الوقت الذي كنا نستطيع فيه تحذير عرابي وعبد العال بك.

وقف البكباشي محمد عبيد وقال: بل ستذهب يا سعادة الأميرالاي وستجد زميليك هناك. وسألحق بكم بعد دقائق!

دهش علي فهمي من كلام محمد عبيد، الذي تابع حديثة قائلاً: تفضل يا سعادة الأميرالاي تفضل وسألحق بكم.

سأله علي فهمي في غضب: وماذا تفعل بنا.. أو نفعل بك؟.

قال البكباشي محمد عبيد: سيذهب معك غير حرسك الخاص الضابط نجم أفندي فإذا وجد أن الأمر صحيح يعود إلي فورا ومن نظارة الحربية وثبة واحدة بجواد سريع وعليّ أنا ترتيبات إنقاذكم من هؤلاء القتلة الأوغاد.

لم يقتنع علي بك فهمي بسهولة في أول الأمر.

لكنه استطاع تحت تأثير شجاعته وحماسة البكباشي عبيد.. الاطمئنان بعض الشيء إلى حسن هذه الترتيبات ووجاهتها.

لكن من المحقق أنه يسير إلى الموت.

ومن المشكوك فيه أن تحدث النجاة.. وما كاد يصل إلى نظارة الحربية. حتى قوبل أسوأ مقابلة وأحقرها من صغار الضباط الجراكسة وجنودهم الذين أحاطوا به بمسدساتهم.. فرحين بأن الشخص الثالث وصل، عاملوه بمعاملتهم نفسها لزميليه من السب والشتم والاحتقار. إلي أن دخل القاعة التي انعقد فيها المجلس العسكري المزيف لمحاكمتهم محاكمة صورية يحكم عليهم بعدها بالإعدام!.

وجد علي فهمي أن أحمد عرابي وعبد العال حلمي قد وصلا من دقائق قليلة.

ورأى أحمد عرابي قد صدر إليه الأمر من رئيس المجلس بأن يسلم سيفه وشارات رتبه. لكن عرابي يأبى فيأمر رئيس المجلس باستعمال القوة.

وهنا يشير علي فهمي بعينيه إلى أحمد عرابي بألا يقاوم وأن يسلم السيف والشارات. ويسلم هو سيفه وشاراته وفعل كذلك عبد العال حلمي.

ثم تلي أمر المحاكمة بسرعة.

وسيق الثوار الثلاثة بيد حقير من الجراكسة إلي السجن وذهب إليهم كبار الجراكسة يشتمونهم وعلى رأسهم خسرو باشا.

وبينما كان ذلك يدور بقاعة الجلسة.

كان الضباط نجم أفندي قد عاد إلى البكباشي محمد عبيد وهو يركض بجواده في دقيقة واحدة. وأخبره بما كان من اعتقال عرابي وعبد العال وعلي فهمي.

فأمر عبيد بضرب البروجي لخروج الأورطتين بالحرس الخديوي في حالة خطر سريع. فخرجتا في الحال، فجاء القائمقام خورشيد بك الذي كان يعلم بالمؤامرة فيما يظهر. وهو الوكيل الرسمي لعلي بك فهمي.

ونهى خورشيد بك البكباشي عبيد وأمر برجوع الأورطتين. لكن محمد عبيد بكل شجاعة وجرأة يتطلبهما الموقف أصدر أمرا بوثاق خورشيد بك وحبسه.

ونفذ الضابط والجنود الأمر في ثوان!

وسار محمد عبيد بقواته إلى نظارة الحربية بثكنات قصر النيل بالخطوة السريعة في اصطلاح الجيش.

وفاجأ المجلس العسكري والضباط والجنود الجراكسة الذين كانوا يهينون أمراء الجيش الثلاثة.. مفاجأة تاريخية مثيرة لا يتخيلها كاتب روائي.

فأسرع كثير من الجراكسة وأخبروا رئيس المجلس. وسمع الأعضاء أيضًا ففروا إلى الأبواب الخلفية المطلة على النيل وركبوا الزوارق بل ألقى بعضهم بنفسه في النيل.. سواء أكان يعرف العوم أم يتعلق في أحد الزوارق.

وذهب محمد عبيد يتبعه الضباط الشبان وأخرجوا الأمراء الثلاثة. فسارع عرابي في حزم وثقة إلى الضباط والجنود وطلب منهم ألا يصيبوا أحدًا بسوء.

ويلمح أحمد عرابي في هذا الموقف الرهيب إسماعيل باشا الجركسي. فيبادر إليه ويعانقه أمام الضباط والجنود ويقول:

هذا الباشا جركسي.. ولكن أنا أعانقه وأقبله أمامكم. لكي تعلموا أن هؤلاء الضباط إخواننا ولا ذنب لهم. إنهم كانوا منفذين لأوامر من هم أعلى منهم فقط. ونحن لا نريد الانتقام إنما نريد العدل والإنصاف والمساواة.. إن هذا الباشا أخي وأخوكم، حرام علينا دمه وماله وعرضه.

ثم التفت أحمد عرابي ناحية البكباشي محمد عبيد.

وقال له : يا بكباشي عبيد.. "اجمع".

وهو اصطلاح عسكري معناه صدور الأوامر من الضابط الأعلى إلى الجنود بالتجمع في النقطة التي يحددها.

فصدع عبيد للأمر.. وأصدر أوامره للأورطتين فانصرفتا وضباط وجنود الجراكسة لا يصدقون أعينهم من أن الثورة عفت عنهم.

وهكذا لم تنقذ رسالة "بهيجة هانم" زعماء الثورة العرابية الثلاثة فقط من السجن. بل أنقذت دون أن تدري حياة والدها إسماعيل باشا الجركسي.

اقرأ ايضا

الجزء الاول : 12 شاهد إثبات يحاولون إحكام التهمة علي عرابي

الحزء الثانى : الجيش يحضر إلي السجن ويطلق سراح زعيمه!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.