بوسى

استيقظت «بوسى» قبل «بوسى» بكثير. لا يوجد هنا خطأ مطبعى فهناك اثنتان «بوسى» فى هذا البيت. «بوسى» الفتاة الجميلة التى غادرت مرحلة الطفولة لتوها ودلفت إلى مرحلة المراهقة. وهناك «بوسى» الأخرى. «بوسى» الشريرة. القطة البيضاء المدللة والمترفة والتى اعتقدت بشكل ما أن اشتراكها فى الاسم يعطيها صفة شبه بشرية. والحق أن استغلت أجواء الدلال فى هذا البيت الطيب أسوأ استغلال! تستيقظ متأخرة، تقريبا آخر فرد فى هذا البيت. تتجاهل نداءات الأم الرؤوم التى تدعوها إلى طبق الحليب الصباحى!
أخبار متعلقة
د. أيمن الجندى يكتب : رسالة عن أحوال أهل الأرض
كانت «بوسى» المراهقة قد دارت عدة مرات فى البيت وفعلت كل ما يمكن أن تفعله فتاة فى الثالثة عشرة من عمرها لا تدرى ماذا تفعل بنفسها. تبكى أحيانا بلا سبب. وتفرح أحيانا بلا سبب! وتشعر بأنها يمكن أن تطوى الكون بأسره فى صدرها. فتحاول أن تسكب فيض حنانها الذى لا تدرى له مصرفا تجاه «بوسى». لكن القطة الشريرة فى أغلب أحوالها لا تستجيب للمداعبات وترفض اللعب ما لم يكن مزاجها رائقا.
فى النهاية نهضت بوسى وشرعت تتهادى حتى وصلت إلى المكان المعتاد لطبق «الحليب». نظرت إليه نظرة محايدة. نظرة من شربته مئات المرات. ثم بدأت تلعقه فى هدوء ودون استعجال وكأنها تتفضل على العالم بشربه.
على أن الحماس دب فى نفس «بوسى» فجأة. ارتفع ذيلها وانتصبت شواربها. وبدا على وجهها تعبير شرير يوحى بالمؤامرة. وفى صمت انسلت من الباب المفتوح لتهبط الدرج فى رشاقة. هناك حيث ينتظرها قطط الحى والشوارع المجاورة التى نصبت نفسها- لسبب مجهول- زعيمة عليها.
راحت بوسى تتأمل القطط فى صمت. كلها يبدو عليها الهزال ومعارك الشوارع والصراع الدامى حول القوت. قالت بوسى وهى تتظاهر بالرثاء عليها: «إلى متى ستقبلون هذه الحياة المتدنية؟». قال قط اقتلع أحد الصبية الأشقياء عينه اليمنى: «المشكلة فى الجوع. كلما وجدنا طعاما وأسكتنا هذا الوحش الذى يمزق أحشاءنا، حتى يعود الجوع ليقرصنا مرة أخرى».
تذكرت بوسى طبق الحليب فى رضا، ثم قالت فى لهجة العارف بكل شىء: «الطعام ضرورى لإمدادكم بالطاقة». والتمعت نظرة ساخرة فى عينيها وهى تقول: «يمكنكم التقليل من احتياجكم الطعام لو جلستم فى أماكنكم بلا حراك». قالت قطة مراهقة فى ضيق: «وهل هذه حياة؟».
التقطت بوسى الخيط وقالت: «مشكلة القطط أنهم ينتظرون الطعام من غيرهم. بقايا الطعام التى تتعفن فى القمامة». تحسست القطط بطونها وهى تتأوه. استطردت بوسى: «البشر يحتاجون الطعام مثلكم ولكنهم لا ينتظرونه من غيرهم. بل يوفرونه لأنفسهم. بالنسبة لنا لا تصلح لنا الزراعة فنحن نأكل اللحم».
وافقتها القطط فى حماسة، قالت بوسى مؤنبة: «ولكنكم لا تخططون للمستقبل! حينما تشاهدون طعاما لذيذا كالفأر أو الصرصار مثلا، ماذا تفعلون؟». قال قط جائع فى حماس: «نأكله طبعا».
غضبت بوسى ونونوت بصوت عالٍ قائلة: «هذه هى المشكلة. أنتم تأكلون ما أمامكم ولا تفكرون فى المستقبل! لماذا لا تقيمون مزارع لتربية الفئران والصراصير لتأكلوا طعاما طازجا كل يوم مثلما يفعل البشر مع الدجاج والبقر؟».
قالت القطط فى حماس: «والله فكرة ولكن كيف؟». حينئذ استدارت بوسى وقد اطمأنت أن اللهفة بلغت ذروتها. وقالت فى هدوء: «غدا سأخبركم. سلام دلوقت».
وتهادت بوسى تصعد الدرج فى هدوء واستمتاع. فقد حان وقت وجبة الغذاء وتناول وجبة السمك اللذيذ الذى تعشقه بجنون.
نقلا عن " المصرى اليوم "