الحجر الصحي بجنوب سيناء يتابع حالة الحجاج المصريين العائدين عبر ميناء نويبع    وزير العمل: 600 منحة مجانية لتدريب الشباب في مركز تدريب شركة الحفر المصرية    المشاط: 15.6 مليار دولار تمويلات ميسرة من شركاء التنمية للقطاع الخاص منذ 2020 وحتى مايو 2025    هذه القافلة خنجر فى قلب القضية الفلسطينية    محمد يوسف يعاتب تريزيجيه بسبب إصراره على تسديد ركلة الجزاء أمام إنتر ميامي    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    كشف ملابسات تعدي أشخاص بالضرب على آخر في البحيرة    محافظ القاهرة يتفقد أعمال تطوير شارع أحمد زكى بدار السلام.. صور    حزب العدل والمساواة يعقد اجتماعًا لاستطلاع الآراء بشأن الترشح الفردي لمجلس الشيوخ    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    الرئيس السيسي يؤكد لنظيره القبرصي رفض مصر توسيع دائرة الصراع بالشرق الأوسط    كاف يهنئ محمد صلاح: عيد ميلاد سعيد للملك المصري    وزير التموين يتابع مخزون السلع الأساسية ويوجه بضمان التوريد والانضباط في التوزيع    تنفيذ 25 قرار إزالة لتعديات على أراض بمنشأة القناطر وكرداسة    سعادة بين طلاب الثانوية العامة في أول أيام مارثون الامتحانات بالقليوبية    محافظ بورسعيد يتفقد غرفة عمليات الثانوية العامة لمتابعة انتظام الامتحانات في يومها الأول    وزيرة التنمية المحلية تتفقد أعمال تنفيذ المرحلة الأولى من تطوير سوق العتبة بتكلفة 38 مليون جنيه    قرار قضائي عاجل بشأن عزل وزير التربية والتعليم في أول أيام امتحانات الثانوية العامة    وصول جثمان نجل الموسيقار صلاح الشرنوبي لمسجد عمر مكرم    عضو حزب المحافظين البريطاني: إسرائيل تقترب من تحقيق أهدافها    شكوك حول مشاركة محمد فضل شاكر بحفل ختام مهرجان موازين.. أواخر يونيو    100 ألف جنيه مكافأة.. إطلاق موعد جوائز "للمبدعين الشباب" بمكتبة الإسكندرية    نظام غذائي متكامل لطلبة الثانوية العامة لتحسين التركيز.. فطار وغدا وعشاء    الداخلية تضبط 6 ملايين جنيه من تجار العملة    حسين لبيب يعود إلى نادي الزمالك لأول مرة بعد الوعكة الصحية    جامعة القاهرة تنظم أول ورشة عمل لمنسقي الذكاء الاصطناعي بكلياتها أكتوبر المقبل    رئيس النواب يفتتح الجلسة العامة لمناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة    فوز طلاب فنون جميلة حلوان بالمركز الأول في مسابقة دولية مع جامعة ممفيس الأمريكية    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    "برغوث بلا أنياب".. ميسي يفشل في فك عقدة الأهلي.. ما القصة؟    المؤتمر السنوي لمعهد البحوث الطبية يناقش الحد من تزايد الولادة القيصرية    لأول مرة عالميًا.. استخدام تقنية جديدة للكشف عن فقر الدم المنجلي بطب القاهرة    ضبط 59.8 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    وائل كفوري يشعل أجواء الصيف بحفل غنائي في عمّان 15 أغسطس    «الزناتي» يفتتح أول دورة تدريبية في الأمن السيبراني للمعلمين    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    البابا تواضروس يترأس قداس الأحد في العلمين    الأنبا إيلاريون أسقفا لإيبارشية البحيرة وتوابعها    أسعار الخضراوات اليوم الأحد 15-6-2025 بمحافظة مطروح    «أمي منعتني من الشارع وجابتلي أول جيتار».. هاني عادل يستعيد ذكريات الطفولة    الأردن يعلن إعادة فتح مجاله الجوي بعد إجراء تقييم للمخاطر    «فين بن شرقي؟».. شوبير يثير الجدل بشأن غياب نجم الأهلي أمام إنتر ميامي    أخر موعد للتقديم لرياض الأطفال بمحافظة القاهرة.. تفاصيل    تداول امتحان التربية الدينية بجروبات الغش بعد توزيعه في لجان الثانوية العامة    فيلم سيكو سيكو يحقق أكثر من ربع مليون جنيه إيرادات ليلة أمس    محافظ أسيوط يفتتح وحدتي فصل مشتقات الدم والأشعة المقطعية بمستشفى الإيمان العام    توافد طلاب الدقهلية لدخول اللجان وانطلاق ماراثون الثانوية العامة.. فيديو    حظك اليوم الأحد 15 يونيو وتوقعات الأبراج    مجدي الجلاد: الدولة المصرية واجهت كل الاختبارات والتحديات الكبيرة بحكمة شديدة    مقتل ثلاثة على الأقل في هجمات إيرانية على إسرائيل    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    اليوم.. الأزهر الشريف يفتح باب التقديم "لمسابقة السنة النبوية"    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    لافتة أبو تريكة تظهر في مدرجات ملعب مباراة الأهلي وإنتر ميامي (صورة)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    موعد مباراة الأهلي وإنتر ميامي والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سمير عبدالباقي يكتب: كليلة ودمنة المصرية
نشر في الدستور الأصلي يوم 27 - 08 - 2010


«كان يا ما كان»..
الجملة السحرية التي تفتح الطريق إلي العقل والقلب.. بوابة درب الغد حيث الفردوس المفقود، والمعقود عليه الأمل الرحب لإقامة سلطة العدالة والحب والجمال والحرية ولو في الخيال.
وهنا حكايات سمعت بعضها من طفلة في إحدي قري الشرقية أو من عجوز حكيم في إحدي عزب الدقهلية أو نورت بها قلبي الصغير خالتي الست أم يوسف، أو قرأتها في كتاب لأحد مبدعي الحكايات العظام «لقمان وأيسوب وابن المقفع وكريلوف ودافنشي والجاحظ وابن الجوزي.. وغيرهم، حاولت أن أصنع منها دراما حديثة لونتها بقليل من ألوان أحلامي.. ولأن الأطفال في بلادنا يكبرون فجأة، أو هم كبار بحكم الظروف ولأن الكبار أو معظمهم كذلك هم «صغار» بحكم السلوك، قدمت هذه الصياغة لهم جميعاً رغبة في ممارسة حلم قديم راود الحكائين عبر التاريخ في كسر شوكة الجبارين بمساعدة هذا الحشد من الشخصيات «تعاليبو، مشكاح وأبولبدة المدهش وبولينياب وبولشناب وبس بس ورماح وحشد كبير من الحمير والثعالب والأرانب والفيلة وغيرهم، في دراما تسجيلية إنسانية تكشف ألاعيب الأغبياء والأشرار والشرهين من بني الإنسان من أجل عالم أفضل ومن بني الحيوان من أجل غابة أعدل.
حكاية القط مشكاح والفأر رماح
3
في مهمة رسمية
أشرقت شمس اليوم التالي جديدة ورائعة، فأصبحت حركة القط أهدأ وأرق، بل لقد شاهدته الشمس يتمطي في الفراش طويلاً في كسل، دون أن تراوده أدني رغبة في مغادرته، كان القط بعد أكلة الأمس اللذيذة قد نسي تماماً أنه سجين ومتهم ينتظر الإعدام عقاباً علي تطاوله علي الامبراطور «أبولبدة المدهش»، وبلغ من نسيانه لواقع الأمر أن ابتسم من أعماقه وهو يسترجع كل ما حدث في الأيام القليلة الماضية وحتي عندما تذكر كل شيء، ظلت ابتسامته المطمئنة تتسع وتزداد عمقاً حتي تحولت إلي قهقهة عريضة هانئة حين وصلت به ذاكرته إلي ما حدث بالأمس..
وهي حالة نفسية يمكن أن يتولي دراستها المهتمون، بتأثير لحم الفئران المتبل إيجابياً علي القطط السجينة في السجون الامبراطورية.
وعلي ما يبدو لم يكن ذلك غائباً عن ذهن صاحبنا الفار صاحب الغليون الذي زاره بالأمس وزوّده بالطعام، وعقد معه اتفاقاً غامضاً وافق عليه القط بكل حماس جائع ينتظر الإعدام، دون أن يعرف شيئاً عن أهدافه، أو شروطه، وعواقبه!
مر الوقت عادياً كعادته في كل صباح سعيد، إلا أنه بعد فترة بدأ في التباطؤ مع صعود الشمس إلي كبد السماء.. وأخذ في المرور بتثاقل متعمد تحت أنف القط وبصره.. ونحن نعرف أن للوقت أحوالاً غريبة وطباعاً متقلبة، فأحياناً يمضي دون أن يلفت أنظار القطط أو بني الإنسان، لكنه في أحيان أخري كما تأكد «مشكاح» الآن تطول فيه الدقائق وتقف الثواني في بلادة ترفض التقدم وتمتنع عن دفع بعضها البعض كعادتها في الأيام العادية، كانت تتعمد إغاظة القط، فحاول جاهداً ألا يغتاظ شاغلاً نفسه بأشياء كثيرة سرعان ما كانت تفشل في صرف نظره عن مرور الوقت البطيء الثقيل إلي الدرجة التي وجد نفسه يكاد ينشق غيظاً.
وفي الحقيقة أن ما يضايقه لم يكن بطء الوقت، ولكن لأنه كان يتوقع زيارة ما هذا الصباح.. كان يتوقع أي شيء إشارة، أو رسالة تؤكد أن اتفاق الأمس قد حدث بالفعل، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث فازداد الوقت بطئاً وثقلاً.
وحينما ارتفعت الشمس في السماء أسقطت بضع مربعات ضوئية حادة علي أرض الزنزانة وكأنها تتحداه وتجبره علي تذكر أن الظهر قد ولي.. بدأ القلق يساوره بشدة.. خاصة أنه قد أتم هضم الطعام تماماً وأفرغت معدته أثقالها، وعاوده سعار الجوع أقسي وأشد نباحاً مما كان عليه الحال قبل أطباق الفئران المتبلة والمحمرة اللذيذة.
فقفز من فراشه غاضباً وراح يروح ويجيء حول محيط الزنزانة تارة أوفي دوائر منتظمة وغير منتظمة تارة أخري.. أوفي خطوط مستقيمة تارة ثالثة.. (وعادت ريما لعادتها القديمة) لقد فقد كل شعور استثنائي بالاطمئنان وعاد إليه الإحساس العادي لقط ينتظر الإعدام.
وفكر أن يطلب الحارس ليستفسر منه عن سبب التأخير ولكنه وجد في ذلك حماقة كبري.. لأن ما حدث بالأمس كان مخالفة لكل التعليمات واللوائح التي يفترض أن يراعيها الحراس.. فالزيارة ممنوعة، والاتصال بالسجناء محرّم، فما بالك بتناول لحم فئران متبل في عقر سجن العرين.. الذي يعتبر مجرد التفكير في صيد الفئران جريمة شنعاء.. منذ أن نالوا الحظوة الكبري لدي الامبراطور وفتحت أمامهم أبواب الوظائف والمراكز الكبري بعد أن كانوا أكثر صعاليك الغابة احتقاراً وإثارة للقشعريرة!!
هدأ «مشكاح» عندما اعترف بحماقة موافقته علي تناول طعام مكوّن من لحم الفئران في زنزانته، حتي ولو كان الذي أحضره فأر رسمي يتباهي بغليونه وردائه الرسمي.. إنها جريمة بكل المقاييس وعليه أن يبتلع غضبه وقلقه ويحمد الله علي أن كل ذلك لم ينكشف.
لكن الجوع اشتد عليه وقرص أمعاءه بشدة فخرجت أنفاسه حارة تعكس اشتداد غضبه وقلقه.. وأخذ يقسم أمام النافذة المسيجّة بالقضبان أنه سيلغي اتفاقه مع ذلك الفأر إن لم يصله خبر ما.. أو إذا لم يحدث تطور جديد في الأمر في مدة غايتها ربع ساعة.. ثم مد المهلة إلي نصف ساعة.
ولما قاربت علي الانتهاء صار أكثر تسامحاً ومد المهلة إلي ساعة لا أكثر.. ثم أقنع نفسه بمدها حتي غروب الشمس بما أنه لا يملك ساعة ليقدر المهلة المحددة تماماً.
ثم استسلم بعد قليل وألغي كل تفكير في أي مهلة وأخذ يموء في ضعف قط جائع سجين.. وهو يراقب مربعات الضوء وهي تصعد باهتة علي الجدار كلما مالت الشمس نحو المغيب ولم تبد أي إشارة من صاحب الغليون تبشر بالأمل..
غربت الشمس وحط الظلام.. وجلس «مشكاح» متعباً محبطاً جائعاً يؤكد لنفسه أن ما حدث بالأمس لم يكن سوي حلم عابر لم يحدث في الواقع.. أو أنه إذا كان قد وقع مجرد وسيلة من وسائل التعذيب النفسي.. إذ كيف نصدق أنه من الممكن أن يسمح له بأكل فئران متبلة أو غير متبلة في سجن امبراطور حرّم صيد الفئران؟! ولمن؟.. لقط جريمته كانت الاحتجاج علي إلغاء المهنة المحرمة؟!..
تلك المهنة التي تثير ذكرياتها لعاب القطط كما يحدث له الآن.. فتثير غددهم وتفيض منها العصائر فتوتر الأمعاء وتعكر المزاج وتبعث علي الغضب ثم اليأس.. وتدفع القط المحاصر للوقوف بأرجله الأربعة علي حافة البكاء!!
وقبل أن يقرر للمرة الألف إلغاء الاتفاق الغامض مع الفأر تنبه إلي الصوت الرخيم العذب الذي أحدثه حديد المفاتيح في حديد الأبواب المغلقة، فاستيقظت كل حواسه وانتعشت آماله المحبطة.. وتنمر متصنعاً الغضب في ركنه ينتظر القادم وهويرتعش وفي داخله لهفة حاول أن يخفيها تحت الستائر الثقيلة لتصنع الغضب.. ودخل القادم.. والحقيقة أنها دخلت..
لم يكن الآتي فأر الأمس الرسمي صاحب الغليون.. لكنها كانت فأرة رسمية أكثر جمالاً وأكثر سمنة فتح لها الظربان السجانان الباب وهما ينحنيان في احترام ثم أغلقا الباب وانصرفا.
جزّ القط «مشكاح» علي أسنانه وحرّك رأسه بقوة مصفقاً بأذنيه ليتأكد أنه لا يحلم، ومنع آهة اشتهاء مفترسة من الانطلاق من بين شفتيه، واستطاع بصعوبة أن يعيدها لبلعومه ويبتلعها مع لعابه الفاضح.. واستدار طالباً تفسيراً لما يحدث، ولكن الفأرة الرسمية سكنت فترة كافية بالضبط لنفاد الصبر تماماً.. ثم تنحنحت معتذرة عن إزعاجه قائلة:
- الحقيقة أنني حضرت في مهمة رسمية.. انتعشت آماله في تنفيذ اتفاق الأمس.. ولكنها لم تذكر شيئاً عن ذلك وقالت:
- لقد أرسلوني في مهمة بغيضة لا أحبها..لقد طلبوا مني أن أكشف عليك كشفاً دقيقاً لأن القانون يفرض ألا نأخذ القطط بالشبهات.. إن سلطات التحقيق قد تخطئ عادة في مثل حالتك، لكن المحكمة تريد أن تتأكد بشكل قاطع أنك لم تخالف القانون بالفعل.. كانت تتحدث بصوت رخيم عذب ولذيذ.. أوهكذا خيّل لمعدته.. فقد كان قوامها السمين يخايل جوعه وهي رائحة غادية أمامه تترجرج كقالب من حلوي الفالوذج المصنوع من چيلي لحم الفئران علي الطريقة الفرنسية أو هكذا خيّل لأمعائه الخاوية.
كان يتابعها محاولاً منع نظراته من التفكير في لحمها فأخفي عينيه تحت كفيه بعد فشله في إسدال جفنيه.. لكن خيالها كان يخترق عظامه حتي النخاع، خاصة عندما ضحكت ضحكة فئرانية رائعة دمرت مقاومته وهي تؤكد له:
- إن عدالة امبراطورنا المرعب حقيقة ولا تقبل أخذ المواطنين بالشبهات.. لابد من الإجابة بصراحة هل خالفت القانون أم لا؟..
إن تطاولك علي الإمبراطور ليس جريمة.. المهم أن نتأكد من براءتك من تهمة أكل لحم الفئران.
علينا أن نجري بعض الفحوص لدمك ولعصارات معدتك.. لنؤكد لهم أنك لم تأكل لحم الفئران منذ صدور القانون.. وسيكون في ذلك إعلاناً لبراءتك فيطلق سراحك فوراً.. والحقيقة أن القط لم يتابع جيداً الجزء الأخير من كلامها، فقد كان رأسه يدور في البداية بسبب جوعه ورغبته القاتلة في التهامها.. ثم بدأ يدور أكثر عندما ذكرت لحم الفئران وأكله وارتباط ذلك بإثبات براءته كان الأمر أكثر تعقيداً من أن يفهمه قط في مثل ظروفه الصعبة.. خاصة وقد تجسد أمامه فداحة ما ارتكبه بالأمس بتحريض من ذلك الفأر الرسمي صاحب الغليون.
فأغشي عليه وكان هذا ما توقعته الفأرة.. فأمرت بحمله إلي حيث يمكن فحصه وتحليل دمه!
4
لا تصدني ولكن كلني
عندما أفاق من إغماءته الطويلة، وجد نفسه علي سرير أبيض نظيف في حجرة بيضاء نظيفة، لها فتحة مزخرفة تطل علي شاطئ نهر الينسون النظيف.. الذي يخترق الأحراش في أكثر مناطقها جمالاً ووحشية ونظافة.
كانت الستائر فيروزية وللملاءات البيضاء شراريب أرجوانية وعلي منضدة نظيفة ذات عجلات ثلاث كانت أطباق طعام رآها من قبل تتصاعد منها أبخرة يعرف رائحتها تماماً، فانتابه فزع قاتل جعله يقفز من مكانه ثم ينكمش مرتعشاً مندهشاً لأنهم يكررون معه ذلك، وأين؟..في المستشفي حيث من المفترض أن يكشف عن تناوله طعام لحم الفئران من عدمه.
لكن صوتاً يعرفه جاءه هادئاً أليفاً من خلف صفحات جريدة الموز الاستوائي الخضراء المفرودة في فراغ الغرفة أمامه وبين سريره والكرسي الفاخر المجاور للنافذة المزخرفة قال له صاحب الصوت:
- هدئ من روعك يا صديقي.. أنت في أمان تام هنا، ولا تدع الخوف يتملكك كالسذج إلي هذه الدرجة يا عزيزي.. المفروض أنك قط ذكي لك رأي مستقل.. وما دمت جائعاً فلابد أن تأكل حتي يمكن أن نتفاهم.. كن عملياً.. أليس هذا هو طعامك المفضل؟!
سأل «مشكاح» في فزع:
- من أي لحم صنع هذا الطعام؟
ضحك الفأر صاحب الغليون وهو يزيح صفحات الجريدة عن وجهه وقال مداعباً:
- هل فقدت حاسة الشم يا صديقي.. إنه من الطعام الذي تفضله والذي يجعلك دون غيره قادراً علي التفكير السليم.. وقد ملأت معدتك منه بالأمس.. وكانت له أفضل النتائج!..
لم يعد القط قادراً علي الفهم.. فاستسلم لحالة الغباء المريحة التي يمارسها كلما اختلطت أمامه السبل وتعقدت الأمور.. بينما استمر الفأر الرسمي صاحب الغليون ضاحكاً:
- لقد مسحت الأطباق كلها لدرجة أنهم لم يحتاجوا لغسلها بعدك.
واستغرق في القهقهة معجباً بفكاهته مؤملاً أن يشاركه «مشكاح» الضحك.. لكن القط صرخ مرتعباً:
- ماذا تريد أن تفعل بي؟.. أنا لم آكل منه أمس ولن آكل منه أبداً.. لست جائعاً.. ولن أرتكب تلك الحماقة مرة أخري.. إنهم سيفحصون معدتي؟.. أليس كذلك؟.. هل ظهرت نتيجة التحاليل يا سيدي.. أرجوك ارحمني.. فأنا قط مسكين وقعت في قبضة من لا يرحم.
قهقه الفأر الرسمي مرة أخري قهقهة رسمية عريضة كأي ضبع صومالي مرح وقال:
- عظيم.. هذا تحول رائع.. من المطلوب أن تبدو حريصاً.. لقد بدأت في التفكير لمواجهة الموقف.. وهذا تقدم كبير.. كالعادة حاول «مشكاح» أن يفهم دون جدوي، وجلس يائساً فعاجله الفأر قائلاً:
- اطمئن!.. إن من واجبي أن اطمئنك.. ثم أبعد الصحيفة نهائياً واقترب منه هامساً:
- إن تقارير المعمل عنك كانت كلها سلبية لقد أثبتت الباحثة العبقرية بالدليل العلمي القاطع.. أنك لم تتناول لحم فئران منذ صدور قانون تحريم صيد الفئران.. فماذا تريد أعظم من هذا؟!
حاول «مشكاح» أن ينطق مظهراً دهشته أو فرحه فلم يستطع سوي أن يقول بصوت مبحوح:
- ولكني أكلت منه بالأمس.. كيف إذن جاءت التحاليل سلبية؟!..
قطع الفأر صاحب الغليون ضحكته.. أعني أنه ضحك ثم قطع ضحكته وقال:
- أيها الساذج المسكين، إنه مجرد تقرير مكتوب ومعتمد.. مجرد ورق.. يصبح رسمياً عندما نريد نحن ذلك.. إفهم.. أنت الآن بريء تماماً.. كقط لم يتناول أبداً إلا لبن أمه القطة.. أم أنك كنت تفضل لبن الفئران..
وانفجر ضاحكاً..
والحقيقة أنه كان في حالة معنوية عالية لا تناسب «مشكاح» الذي قال في صوت واهن:
- أيعني ذلك إنني لن أعدم؟!
صمت الفأر الرسمي صاحب الغليون.. ونظر في عينيه مباشرة نظرة صامتة.. ثم أدار رأسه عنه ومضي ناحية النافذة.. يتأمل المنظر الخارجي.. مما كاد يذهب بعقل «مشكاح».. لولا أن الفأر استدار في الوقت المناسب وقال:
- إن هذا يتوقف عليك وحدك.. ألم يكن هذا جزء من اتفاقنا.. هل نسيت؟!
لم يكن «مشكاح» قادراً علي تذكر أي شيء. ولكن الحديث بهذا الود عن اتفاق ما تم بينهما كان شيئاً كحبل النجاة لغريق لا يعرف السباحة.. المهم أن هناك اتفاقاً ما يجعلهما صديقين وهذا يكفيه الآن فهز رأسه موافقاً بينما استمر الفأر في الحديث قائلاً:
- قلت لك إن صداقتي ستكون باب السعادة الذي سيفتح أمام آفاق حياة جديدة أتذكر؟!
أم أنك مازلت تعاني آثار العلاقة الأزلية بين القط والفأر؟!
لا يا صديقي لنبدأ صفحة جديدة وأثبت لصديقك الجديد أنه جدير بثقتك.. كما وثق هو بك.. هيا.. تقدم وكل.. طعامك المفضل.. ولكن لا تأكلني أنا.. فلست مجهزاً بعد لهذه اللحظة.. هيا:
واستغرق في الضحك مرة أخري.. وكان «مشكاح» معجباً بروحه المرحة يحاول أن يجاريه في الابتسام والمرح فقال بصوت أقل ضعفاً:
- لا أريد أن أخالف القانون!..
اقترب منه الفأر صاحب الغليون وهمس بنفس طبقة صوته في ود:
- يا صديقي «مشكاح».. اسمع كلام صديقك «رمّاح».. نعم هذا هو اسمي يا صديقي.. وافهم لقد حرّمت القوانين صيد الفئران.. وألغتها كمهنة محترمة، كوسيلة للكسب والقسوة، ولكنها لم تمنع أكل الفئران.. أليس كذلك.. هل لاحظت في القانون أي بند أو فقرة تحرم أكل الفئران في قانون حماية الفئران من الصيد.
اتسعت عينا «مشكاح» دهشة وواصل «رمّاح» حديثه بصوت عميق حزين:
- ولو فهمت ذلك.. لعرفت أن هذا القانون اللعين كارثة..
فازدادت دهشة «مشكاح» وسأله:
- هل أنت وأنت فأر ضد قانون حماية الفئران.. إنك فأر ويجب أن تقف مع قانون يحمي بني جنسك.. إن ما يدهشني هو أنك تلعن هذاالقانون وتحرضني علي أكل لحم عشيرتك..
هز «رمّاح» الحزين رأسه المملوءة بالحزن وقال نافذ الصبر:
- ستظل غبياً يا صديقي حتي لو أكلت أطناناً من لحم الفئران..
رد «مشكاح» بسرعة
- لم أفهم..
فصاح به «رمّاح»:
- ولن تفهم علي الإطلاق..
سقط رأس «مشكاح» علي صدره يأساً وقال:
- ساعدني علي الفهم.. أرجوك وإلا طار عقلي..
اعتدل «رمّاح» في كرسيه وكان قد جلس عليه منذ برهة، وجره نحو السرير وأخذ في هدوء يشرح للقط أضرار قانون حماية الفئران من الصيد علي الفئران.. وأخذ ينشط ذاكرته مستعيداً تلك الأيام الخوالي عندما كانت القطط لا هم لها سوي البحث عن الفئران، وكانت الفئران تعيش علي حافة الخطر كأي مخلوقات برية رومانسية وكان إحساسها الدائم بالخطر يجعلها تتدرب باستمرار، وتكتسب مهارات فنون الحرب من كر وفر وهرب ومراوغة وقفز ونط واختفاء واحتماء وتسلق وتزحلق.
كانت الفئران تري في الظلام، وتعبر الأنهار سباحة وتتحمل الجوع والعطش ولم يفقدوا أبداً ميزة البديهة الحاضرة، وكانوا يثيرون الهلع والقشعريرة، ولا يظهرون خوفهم أبداً وكانوا يسكتون ويتجمدون لساعات إذا ما حوصروا.. كانوا يعرفون مقدار الخطر المتربص بهم عند كل ركن وفي كل زاوية، ولذا اكتسبوا حصانة طبيعية وقدرة علي تجنب الخطر واحتمال المكاره.. بل وكانت عندهم مناعة خاصة علي مقاومة الأمراض.. وقدرة خاصة علي صفاء التفكير.. ولم يعرفوا الكسل والترهل والبطنة فاكتسبوا رجاحة العقل والفطنة.. أما الآن وبعد أن حل بهم الأمان صاروا يتسكعون هنا وهناك بلا عمل، يأكلون في شراهة ففقدوا القدرة علي الفهم بل والقدرة علي الحلم والأمل.
وعندما وصل الفأر «رمّاح» إلي هذه النقطة كان الانفعال قد بلغ به مبلغاً شديداً جعل صوته يتهدج حزناً وعيناه تمتلآن بالدموع فاختنق صوته مما جعل قلب «مشكاح» يذوب عطفاً عليه وعلي بني جنسه من الفئران!
ونكمل باقي الحكاية في المره الجاية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.