هل ذلك الطفل الصغير أنا؟ ماض إلي الكتاب في سنواته الخمس التي لم تكتمل, ينداح في عينيه رعب عندما يجد الكبار يقيدون ويضربون, تهوي العصي عليهمو, إن أخطأوا ونسوا كلام الله, أو زل اللسان فلم يبن. ماذا يكون مصيره لو باغتته ضربة أو قيدوه؟ لم يدر أن الشيخ في الكتاب يرعاه, ويرعي فيه جسر مودة لأبيه. بالرفق يأخذه, وينطقه, ويجعله يردد ما يقول, فينزع الرعب الذي يجتاحه, وتحل في قلب الصغير بشاشة تلد الأمان. هو ذا يقلب ناظريه فلا يري حوليه إلا من همو فقدوا البصر, والشيخ مثلهمو, ويظهر للجميع بأنه راء يتابع ما يدور: غمزا ولمزا, بينهم, رفسا ولكزا, واختطاف لقيمة أو بعض ماء. هو ذا يعيد تأمل الكلمات في دهش, يحاول أن يفكر في معانيها, فيعجز, بعد عام واحد ألف الكلام, مضي يردده, يرتله, يجوده, ويدرك بعض معناه, وشيئا مثل موسيقي تلاحق سمعه, وظلال ما التقط الخيال الطفل من صور الجحيم, ومن تهاويل العذاب, وفتنة الدنيا, وحيرته تزيد, وعبء ما في الصدر يثقل كل يوم, وهو يمعن في الشرود, وفي المخافة, والحذر. هل كان يدري وقتها, أن الكلام يشده شدا وأن نهاية المسعي ستصح في غوايات الكلام؟ وأن ظلا ماثلا بين السطور يظل يجذبه إلي أفق تشكل من فضاءات المعاني, وهو يسبح في بلاغتها, وفي سحر المجاز, وفي تلاوين الصور؟ يخطو من الكتاب, يتركه لقراء المقابر, وهو يعدو نحو مدرسة تشاغله, وتخطفه, وتغرس فيه علما بالذي يجري, وحسا بالذي يأتي, وهاجس فرحة تسع انطلاق العقل والوجدان في جزر الخيال, وفي سياحات البشر. أخطو إلي لغة يذوب السحر فيها, والبدائع تستيني إذ يصير الشعر مشغلني, أفتش عنه منكبا, وظلي لا يريم, طعام يومي صار, والعسل المصفي, في الدواوين التي صارت لدي, أضمها شغفا, وأنهل لا أفيق, أتوق دوما للمزيد, وأجتلي فردوسه المنشود, أسأله المثول لديه, يأذن يا تري أم ليس يأذن لي, وأستاذي الجليل يشد من أزري, ويرفعني إلي سقف الغواية, تتفتح الأكمام من حولي, وزهر الشعر يفعمني, وأطيار ترفرف ملء مملكتي, ودنيا من ترانيم الخيال تموج في عزف الوتر. لغتان لي, لغة من الكتاب آسرة, وأخري من رحيق الشعر ساحرة, وبعض من شراب الحب يوهم للمراهق وقتها أن الوجود معلق بخيوط نجمته التي برغت, فبددت الظلام, وأترعت رؤياه بالحلم البهيج, وهدمت جدران وحدته, فسار بذكرها والقرية الخرساء هاجعة, وليل الشعر منعقد كما انعقدت عقود الكرم, يسكب من سجاوته بدايات القصائد وهي تحمل صوته, وتفيض نجواه, وتنثر في الأزقة من حكاياها أحاديث الصبايا, عندما يسرعن نحو النيل يملأن الجرار من التلفت والتطلع والتحنن والرجاء, من اشتعال الشوق, كم يحملن: هل سيجيء يوم فيه تنخطف العيون وفيه تنخلع القلوب وهل تري تتهدج الأنفاس في لهف, ويندلع الشرر؟ الآن, أعدو نحو قريتي الحبيبة, كلما حان الوداع لمن نحب, هناك نمشي في طريق كان في وقت مضي زهو المسار, وساحة الحب الغرير, فصار درب الآخرة. أين الحقول المشرفات علي المدي؟ أين الفضاء الرحب تملؤه عطور الأرض, والأحلام, أين صدي الصدي؟ أين الكواكب في السماء؟ غبار هذي الأرض يفترش السما, وسحائب الغضب الحبيس تسد وجه الأفق, حين نراه أفقا مظلما, الآن قريتنا تمور بكل ما اكتسبت, ولا تدري بأن صفاءها المعهود غاب, وأصبحت مسخا, فلا هي قرية الزمن القديم, ولا المدينة في غرائبها ولوثتها وفورتها وشكواها التي سالت دما! يأيها الزمن القديم, تبارك العمر الجميل, فلم يعد شيء بأيدينا ونحن نبيت نشكو في صحارينا الظمأ. ماذا دهي أرض النعيم فصار طعم الخير فيها علقما؟ وارتاح صدر الناس للفوضي, وللحقد اللئيم, وبات ما نرجوه حلما, والرعايا نوما! لم لا يصاحبنا الرضي إلا اذا عدنا إلي الماضي, وكل الناس في الدنيا يرجون الغد؟ ويرون فيه تميمة الحظ السعيد, وروعة الآتي, لما؟ المزيد من مقالات فاروق شوشة