لم يكن مجرد ناشط سياسي أو مفكر إسلامي تعرض للحبس والظلم، بل هو بمثابة فكر إسلامي جديد جَمَعَ بين كافة الآراء والمعتقدات نتيجة تنقله الكثير بين الدول المختلفة التي انتهت بلندن قبل عودته لموطنه الأصلي بعد سقوط نظام بن علي. وتعرّض للاضطهاد من قِبَل الحكومة من ناحية ومن قبل الإسلاميين غير التجديديين من ناحية أخرى الذين رفضوا مناداته بالمساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن المذهب والديانة، فضلاً عن اضطهاده من قِبَل القوى العلمانية التي ترى أنه أحد فروع الإخوان المسلمين وأنه لا يخرج عن نظرية الحكم الإسلامي الأحادي، ولكن يبقي السؤال: هل ما تعرّض له الغنوشي في الفترة الماضية تسلسل طبيعي لمسلسل الاضطهاد؟ أم أنه ارتكب بالفعل خطأً فادحاً في حق الشعب التونسي؟
إسلامي منذ الصغر
وُلِدَ راشد الغنوشي في 22 يونيو 1941 بقرية الحامة في ولاية قابس بالجنوب التونسي، تلقى تعليمه الأولي بولاية قابس، ثم انتقل للدراسة في جامع الزيتونة، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية قرّر دراسة الفلسفة فانتقل إلى دمشق، وبعد إتمام الدراسة عاد إلى بلاده في فترة الستينات ليعمل كمدرس للفكر الإسلامي، مما فتح له فرصة السفر للخارج، وبالفعل واصل دراسته في مجال الفلسفة بجامعة السوريون بفرنسا.
كان الغنوشي مهتماً بالنشاط الإسلامي منذ الصغر، فقد بدأ نشاطه خلال دراسته بجامعة السوريون وسط الطلبة العرب والمسلمين، وتعرّف على جماعة الدعوة والتبليغ، ونشط معها في أوساط العمال المغاربة، مما جعله يفكر في إنشاء جماعة مماثلة في بلده تونس، لذا عاد إلى بلده في نهاية الستينات وبدأ نشاطه الدعوي وسط الطلاب وتلاميذ المعاهد الثانوية الذين تشكّلت منهم حركة الاتجاه الإسلامي المعروفة بالنهضة، وقام بتأسيس حزب النهضة الإسلامي التونسي، وفي عام 2007 أعيد انتخابه كأمين عام لحركة النهضة وبهذا يكون زعيم هذه الحركة منذ 25 عاماً.
اعتقالات متكررة
تعرّض الغنوشي إلى الاعتقال عدة مرات بسبب نشاطه الدعوي والسياسي، فكانت المرة الأولى في عام 1981 لمدة 11 عاماً، ولكن أُخلي سبيله مع وصول الرئيس زين العابدين للحكم عام 1987، وكانت هذه السياسة المتبعة في أغلب الدول العربية لكي يبين الرئيس الجديد مقدار ما يتمتع به من ديمقراطية.
ولم يستمر المفكر الإسلامي كثيراً بعيداً عن الحبس، ففي العام ذاته حُكم عليه مجدداً بالسجن المؤبد، ولكنه هرب إلى الجزائر ومنها إلى السودان ومكث فيها بضعة أيام، وبعد ذلك طلب اللجوء للمملكة المتحدة وذهب إليها، وصدر بشأنه أحكام غيابية بالسجن مدى الحياة في الأعوام 1991، و1998.
كان مؤمناً بأهمية الكتابة كوسيلة أساسية لتوصيل الفكر المنشود، مما دفعه إلى الكتابة الصحفية في العديد من المجلات كمجلة الجسور ومجلة المجتمع، فضلاً عن قيامه بتأليف العديد من الكتب، لعل من أبرزها (طريقنا إلى الحضارة، نحن والغرب، حق الاختلاف واجب وحدة الصف، القضية الفلسطينية في مفترق الطرق، المرأة بين القرآن وواقع المسلمين، حقوق المواطنة في الدولة الإسلامية، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، القدر عند ابن تيمية، مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني، الحركة الإسلامية ومسألة التغيير، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس) وتمرد على الصمت من كتبه إلى عدة لغات أجنبية، كالإنجليزية، والفرنسية، والتركية، والإسبانية والفارسية.
تهديد وتراجع
شارك الغنوشي منذ عودته الأخيرة إلى تونس في الحراك السياسي بحكم الشعبية التي تملكها حركة النهضة وبحكم الرغبة التونسية في فتح صفحة جديدة من الديمقراطية، وقبل الانتخابات التشريعية التي أُجريت في تونس منذ يومين تداولت العديد من الوسائل الإعلامية إعلان الغنوشي عزمه النزول إلى الشوارع.
والقيام بثورة في حال عدم فوز حركته وحصولها على أغلبية الأصوات بالانتخابات، مما أدى إلى انتشار الغضب والسخط على المستويين الشعبي والرسمي، وأبدوا رفضهم أن يحكمهم أحد بالقوة دون رغبتهم، وطالبوه بالرحيل عن البلاد والعودة للندن مرة أخرى، ولكنه نفى أن يكون صدر منه مثل هذا القول وأعلن أن حركته ستحترم نتيجة الانتخابات أياً كان الفائز بها.
ردود أفعال وظهرت العديد من ردود الأفعال عقب تلك الأحداث التي اجتمعت على رفضها وسخطها لما حدث، فقد أعلن الوزير الأول الباجي قائد السبسي للتونسيين أنه لا يوجد تزييف للانتخابات، مستنكراً ما أدلى به الغنوشي ورافضاً محاولات التشكيك التي ترفض الانتقال بالبلاد إلى مراحل الديمقراطية.
ودعت أحزاب القطب الحداثي بمحاربة الرجعية والتخلف والتأسيس "لمرحلة تتصالح فيها تونس مع هويتها التاريخية المعتدلة والمؤمنة بالوسطية والاعتدال"، منددةً بالسلوك السياسي لحركة النهضة عقب التصريحات الأخيرة لرئيسها، معتبرةً ذلك تهديداً للمسار الديمقراطي في تونس.
وفسر المحللون السياسيون تراجع الغنوشي عن تهديداته، بأنه مجرد تكتيك سياسي استخدمه للخروج من المأزق الذي كشف الوجه الآخر لحزب النهضة، وانتقلت حالة الغضب والسخط إلى أفراد حركة النهضة لما وجدوه في التصريح من تهديد للتونسيين في مرحلة يعمل فيها الجميع على تهدئة الأوضاع من أجل إنجاح الانتخابات.