كانت الجملة المفضلة لدي الرئيس الراحل أنور السادات عندما يلقي خطابه السنوي في ذكري حرب أكتوبر هي أن قواتنا انتصرت علي الحاجز النفسي والخوف وحققت المعجزة. وهذه حقيقة لا مراء فيها.. لم تكن القوات المسلحة تواجه عدواً يفوقها إمكانيات وتسليحاً وخبرة قتالية فقط وإنما كانت تواجه ما هو أكثر من ذلك بكثير. كانت قواتنا المسلحة تقاتل ضد الخوف والاحتلال.. خسرنا ثلاث مرات في المعارك السابقة ضد اليهود.. هزائمنا في 48. 56. 67 حفرت علامات سوداء في ذاكرة المقاتل المصري. أصبحت أخاديد الخوف وشباك العقد النفسية من قدرة إسرائيل العسكرية الأسطورية تكبل كثيراً من المقاتلين. وزادت الرهبة نتيجة لشيء آخر وهو أن أداءنا العسكري كان يتدهور من معركة لأخري. للأسف كان تطور القوات المسلحة للأسوأ وليس للأفضل.. فقد قاتلنا في 48 بأفضل مما قاتلنا عام 1956 وكنا في أثناء العدوان الثلاثي أفضل مما كنا أثناء نكسة 67 التي صدر فيها أمر الانسحاب بعد بدء القتال بأربع ساعات. واحقاقا للتاريخ لم تحارب مصر قبل 1973. ففي عام 1956 انسحبنا من سيناء بسرعة لنحمي القاهرة وبورسعيد من اعتداء فرنسا وانجلترا.. كان الاعتداء الثلاثي معركة سياسية ومقاومة شعبية وحربا لفظية بلاغية تفوق فيها عبدالناصر. لكن انتصار مصر لم يكن لقواتها المسلحة وإنما لعوامل أخري منها المقاومة الشعبية الباسلة والإنذاران الأمريكي والروسي ضد فرنسا وانجلترا. من ثم عندما قرر السادات خوض الحرب وتحرير الأرض بعد توليه عام 1970. كان يعلم ان هناك عقدة خوف لدي أبنائه من إسرائيل الاسطورية.. كانوا يخشون الفشل كما حدث في المرات الثلاث السابقة فيستتبع فشلهم احتلال جزء آخر من الأراضي المصرية.. الجيل الذي فرض عليه محاربة إسرائيل في 73 لم يكن هو الجيل الذي انهزم أمامها في المرات الثلاث السابقة.. ولكنه كان الجيل المصاب بعقدة الانكماش والتردد من عدو ديناصوري القدرة صوروه له علي انه قادر علي فعل الأعاجيب..في الوقت ذاته كان الخوف يعتري قواتنا المسلحة من هزيمة لو حدثت لا قدر الله لانتهت مصر تماما لأنها كانت ستسفر عن احتلال القاهرة وليس سيناء فقط... ومن ثم كانت مسئولية تحرير الأرض تعادلها وتقاومها عقدة الخوف من هزيمة تزيد من الاحتلال. السبب الآخر الذي فاقم من احساس القوات المسلحة بالعجز ان الاتحاد السوفيتي السابق "كان يبيع ويشتري فينا" وظل يماطل الرئيس السادات في تزويده بأسلحة هجومية وتحولت المفاوضات بين القاهرة وموسكو الي نوع من الابتزاز.. نريد ميج 23 ويردون اعطونا قاعدة.. نريد بطاريات صواريخ يقولون لماذا لا نحصل علي تسهيلات بحرية لاسطولنا في الموانيء المصرية؟. هنا ظهرت مقدرة السادات في قراءة نفسية الأعداء والأصدقاء.. عرف ان الاسرائيليين اسكرتهم نشوة الانتصارات المتلاحقة فانتشوا. والمنتشي هو الانسان الذي يحقق ذروة المتعة وعادة لا يحفل بأي شيء آخر.. أما الصديق المبتز فكان قرار السادات بطرد الخبراء السوفيت عام 1972 وتحمل هجوم الاعلام عليه وانتقاد الصحافة له.. لكنه كان يعرف أن الروس يهمهم الا ينتصر السلاح الأمريكي والغربي عليهم مرة أخري. وتلاحقت القرارات النفسية للرئيس السادات فاستبدل القادة الذين كانوا غير مقتنعين بجدوي العبور وأهمهم الفريق صادق وزير الحربية الذي استبدله السادات وأتي بالمشير أحمد اسماعيل بدلا منه.. كان رأي الرئيس الراحل ان القائد الذي يشك في إمكانية تحقيق النصر سيعجل بالهزيمة لذلك استبدل عددا من قادة الجيش كان رأيه فيهم أن من ذاق مرارة الهزيمة لابد أن ينسحب من المسرح. وبخبرته وبصيرته أدرك السادات ايضا أن افضل من يحقق النصر هو الذي شعر بالظلم من قادة الهزيمة مثل المشير احمد اسماعيل الذي أحالوه للتقاعد واستدعاه عبد الناصر للخدمة قبل وفاته بشهور. أدرك السادات كذلك ان هناك عاملا نفسيا في صالحه وهو ان "المنتشي" بالانتصار يسهل خداعه وتضليله ودس معلومات خاطئة لديه. ومن ثم قرأ السادات المسرح جيدا علي ضفتي القناة وعرف كيف يحفز الخائف ويضلل المغرور..وكانت للقاءاته المستمرة مع الجنود في الجبهة أثر السحر عليهم. فقد أقنعهم انهم أفضل من السوفيت بمراحل وانهم تفوقوا عليهم في الطلعات الجوية والاشتباك والمناورات وكان دور الرئيس مبارك ملحوظاً في تدريب الطيارين والقوات الجوية وإعادة الاتزان النفسي لهم فدخلوا المعركة كوحوش كاسرة مصممة علي النصر.. أسرار أكتوبر كثيرة ومتشعبة لكن يظل مفتاح النصر في فهم شخصية العدو الذي نحاربه وتحفيز المقاتل الذي نجهزه للمعركة.. وبهذا نجحنا في الارتقاء من قاع الهزيمة لقمة النصر..