بدء التقديم الإلكتروني المباشر لطلاب المدارس التطبيقية للقبول بالجامعات التكنولوجية (الشروط والرابط)    رابط نتيجة تنسيق جامعة الأزهر 2025 وخطوات الاستعلام فور ظهورها    تزامنًا مع عودة المدارس.. «الطفولة والأمومة» يطلق حملة توعوية لحماية الأطفال من العنف والإساءة    تحالف الأحزاب المصرية يدشن «الاتحاد الاقتصادي» لدعم خطط التنمية وحلقة وصل بين الحكومة والمواطن    وزير الري يلتقي الرئيس التنفيذي لوكالة الفضاء المصرية لبحث مجالات التعاون المشترك    سعر الدينار الكويتي اليوم الخميس 18سبتمبر 2025 بمنتصف التعاملات    أسعار الخضار والفاكهة اليوم الخميس 18-9-2025 بمنافذ المجمعات الاستهلاكية    بينها بروتوكول اتفاق لتجنب الازدواج الضريبي مع الإمارات.. الجريدة الرسمية تنشر 3 قرارات للرئيس السيسي    رئيس الاتحاد الإسبانى لمنظمات الأعمال: الشباب المصري طاقة كامنة نحتاجها ببلادنا    توقيع بروتوكول تعاون لرعاية المسنين المحالين للتقاعد من وزارة الصناعة    وزير الاستثمار يبحث تعزيز توجه الدولة نحو الاقتصاد الأخضر والاستدامة البيئية    ملك إسبانيا: 60 شركة إسبانية مستقرة في مصر وتشارك بمشروعات كبرى    12 شهيدا بينهم 9 فى مدينة غزة بنيران وقصف الاحتلال منذ فجر اليوم    الصحة بغزة تكشف عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة منذ أكتوبر 2023    الاحتلال الاسرائيلى يقتحم عدة مناطق فى محافظة بيت لحم    مقتل 3 عناصر شرطة وإصابة 2 في إطلاق نار بالولايات المتحدة الأمريكية (تفاصيل)    محمد صلاح يواصل العزف على أوتار المجد في دوري أبطال أوروبا.. الملك المصري يصنع التاريخ بثنائية قاسية لسيميوني فى 6 دقائق ويدخل قائمة العشرة الكبار.. ونجم ليفربول وصيف كريستيانو رونالدو بمواجهات أتلتيكو مدريد    من هو معلق مباراة الزمالك والإسماعيلي والقنوات الناقلة في الدوري المصري؟    خسارة منتخب الطائرة أمام تونس فى بطولة العالم بالفلبين    موعد مباراة الزمالك والإسماعيلى والقنوات الناقلة    الليلة.. انطلاق مواجهات الدور نصف النهائي من بطولة CIB المفتوحة للإسكواش الماسية 2025    «بعد أنباء التفاوض مع فيتوريا».. شوبير يكشف 3 مرشحين أقوياء لتدريب الأهلي    وزارة التعليم تعلن تفاصيل تقييم طلاب المرحلة الثانوية فى التربية الرياضية    الداخلية تضبط 431 متهما في قضايا مخدرات وتنفذ 84 ألف حكم قضائي    التحفظ على أكثر من 1400 كتاب دراسى خارجى مقلد داخل مكتبتين    إصابة 9 أشخاص إثر تصادم 3 سيارات على طريق «السادات – كفر داود» بالمنوفية    بعد ساعات من هروبه.. القبض على قاتل زوجته طعنا بمساكن الأمل في بورسعيد    ل«تهديد الثقة بالاقتصاد».. ضبط متهم بترويج وتزوير عملات أجنبية مقلدة في الدقي    أيمن بهجت قمر ناعيا يمنى شرى: كانت إنسانة رائعة وجميلة    رئيس اتحاد الصناعات: العمالة المصرية المعتمدة تجذب الشركات الأجنبية    مبنى «تمارا» بالقاهرة الخديوية يفوز بجائزة «أفضل ممارسات الحفاظ على التراث العمراني والمعماري لعام 2025»    مهرجان VS-FILM للأفلام القصيرة جدًا يكرم أشرف عبد الباقي في حفل الافتتاح    الإمام الأكبر يكرم الأوائل في حفظ الخريدة البهية.. ويؤكد اعتزاز الأزهر برسالته    التأمين الصحي الشامل تعلن إجمالي شبكة مقدمي الخدمة الصحية للمتعاقدين مع المنظومة    القرفة العيدان أفضل ولا الأكياس الجاهزة؟.. استشاري مناعة توضح الفوائد والأضرار    رئيس هيئة الرعاية الصحية ونائب وزير صحة روسيا يبحثان سبل التعاون في التعليم الطبي    نيللي كريم توضح سبب غيابها المحتمل في رمضان 2026    القبض على المتهمين بقتل أب ونجله في خصومة ثأرية بقنا    وزير الصحة يفتتح المؤتمر الدولي الثاني لكلية طب الأسنان بجامعة الجلالة    تكريم الإعلامي سمير عمر في ختام المؤتمر السنوي الأول للإعلام العربي ببنغازي    حقوق العامل في قانون العمل الجديد.. هل يحقق الأمان الوظيفي؟    حكم تعديل صور المتوفين باستخدام الذكاء الاصطناعي.. دار الإفتاء توضح    مصروفات المدارس الخاصة صداع في رأس أولياء الأمور.. والتعليم تحذر وتحدد نسبة الزيادة    أسعار الفراخ فى البورصة اليوم الخميس 18 سبتمبر    خواكين فينيكس وخافير بارديم وإيليش يدعمون الحفل الخيرى لدعم فلسطين    عاجل- الرئيس السيسي يوافق على بروتوكول لتجنب الازدواج الضريبي مع الإمارات    «متحدث الصحة»: نقص الكوادر الطبية مشكلة عالمية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 18سبتمبر2025 في المنيا    شديد الحرارة.. حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 18 سبتمبر 2025    إطلاق فعاليات مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة في مؤتمر صحفي بالقاهرة    بيان ناري من غزل المحلة ضد حكم مباراة المصري    هنيئًا لقلوب سجدت لربها فجرًا    وزير الخارجية يتوجه إلى السعودية لإجراء لقاءات مع كبار المسؤولين في المملكة    "معندهمش دم".. هجوم حاد من هاني رمزي ضد لاعبي الأهلي    "أكسيوس": المباحثات الإسرائيلية السورية بشأن اتفاقية أمنية بين البلدين تحرز تقدما    "سندي وأمان أولادي".. أول تعليق من زوجة إمام عاشور بعد إصابته بفيروس A    ترامب: زيارتي للمملكة المتحدة أحد أسمى التكريمات في حياتي    احتفظ بانجازاتك لنفسك.. حظ برج الدلو اليوم 18 سبتمبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة تولستوي .. زهد الثراء وتفرغ لما رآه أهم
نشر في محيط يوم 11 - 12 - 2007


زهد الثراء وتفرغ لما رآه أهم
محيط - شيرين صبحي
يقترب من غرفة ابنته التي أعدت كل شىء فتبادره بقولها: - أبتي.. ألا زلت مصراً على ضرورة ما أنت مقدمٌ عليه؟!.
- ساشا، لن نناقش هذا من جديد، يجب أن نسرع قبل أن تشعر أمك بما يحدث، تعالي ساعديني في حزم الأمتعة.
هذا الموقف ليس مشهدا من مسرحية عبثية ولا دراما روائية.. ولكنها اللحظات الأخيرة للكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي في بيته حيث قرر الرحيل بلا عودة هائما علي وجهه لا يعرف إلي أين سيذهب ولا كيف سينتهي به المقام.
وكتب تولستوي لزوجته صوفيا رسالة يخبرها فيها عن قراره بالرحيل قال فيها: "حبيبتي صوفيا. أعلم أنك ستتألمين كثيراً لرحيلي، وأنه ليحزنني ذلك أشد الحزن، ولكنني آمل من كل قلبي أن تدركي الأسباب التي تدفعني إلى ذلك الرحيل، ولم تكن أمامي وسيلة سواه لتلافي مأساةٍ قد تكون مفجعة! لقد غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفي! لم أعد قادراً على ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي، وبات الثراء يخنقني! وقد طال صبري على هذا! حتى انقطع رجائي في مزيد من الصبر. يقيني شر اليأس من عالمٍ تشهيّته كثيراً، كما يتشهاه كل عجوزٍ بلغ السن التي بلغت! وما أنشده هو عالمٌ من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك! أريد أن أقضي الأيام المتبقية لي من العمر في سلام".
"أرجوك يا صوفيا، لا تحاولي البحث عن مكاني الذي سأذهب إليه، من أجل إعادتي إلى إيزيانا/ بوليانا، فإن هذا لن يفيد
يكتب رسالة
أحداً شيئاً، بل سيزيد تعاستنا جميعاً، كما أنه لن يغيّر من عزمي على الرحيل، وإني لأشكرك كل الشكر على الثمانية والأربعين عاماً من الحياة الأمينة الكريمة التي أسعدِتني بها! وأتوسل إليك أن تغفري لي كل ما ارتكبت من أخطاء في حقك! مثلما أغفر لك عن طيب خاطر غضبك ومعارضاتك الشديدة المتعلّقة بقراري في التنازل عن أملاكي الشخصية للفلاحين! وأنصحك يا حبيبتي بإخلاص بأن تحاولي التعايش في سماحة مع الموقف الجديد الذي سينشأ برحيلي! وألا تحملي لي بسببه في قلبك أية ضغينة، أو كراهية، وإذا أردت أن تعرفي شيئاً عن أنبائي بعد أن أستقرّ في المكان الذي سأرحل إليه، والذي لا أعرفه إلا بعد أن أصل إليه، فستجدين بغيتك عند ابنتنا العزيزة ساشا، فهي وحدها التي سأخصها بذكر مكان حياتي الجديدة، وقد وعدتني بألا تذكر لك أو لسواك مكاني".
في عام 1862، تزوج تولستوى من صوفيا أندريفينا وعاشا حياة سعيدة حيث تزوجا بعد قصة حب وكانت سونيا في السابعة عشرة من عمرها، وتولستوي في الرابعة والثلاثين، وقد انجبا ثلاثة عشر طفلاً، مات منهم ثلاثة.
كانت صوفيا متعلمة ومثقفة، إذ تخرجت في جامعة مرموقة، إضافة إلى إجادتها عدة لغات غير الروسية، شأنها في ذلك شأن بنات الطبقات الأرستقراطية، فقد كانت تجيد الفرنسية والألمانية والإيطالية والإنجليزية، وكان يقول عنها تولستوي أنها "زوجة مثالية".
وقبل زواجها نشرت بعض الكتب الأدبية من تأليفها، وبعد زواجها استخدمت إمكاناتها الثقافية في مساعدة زوجها، الذي قال عنها إنها "الزوجة المناسبة تماماً للكاتب". فقد كان يملي عليها مؤلفاته، وكانت تبذل الكثير من الجهد لنسخ مسوداته وإعدادها للنشر، وكان تولستوي يستشيرها في تصويره لبعض شخصياته النسائية، فكانت تقدم له ملاحظاتها الدقيقة التي استفاد منها في رواياته المختلفة.
وعندما بلغ تولستوي السبعين من عمره بدأ يسئم من حياته، فتنازل عن ضيعته لأقاربه، وعن أرباح كتبه لزوجته، وارتدى ثياب الفقراء وعاش في الحقول المحيطة ببلدته يكسب مما تعمل يداه.
وذاع صيت تولستوى باعتباره فيلسوفاً ذا مبادئ جديدة، وبدأ الناس يبحثون عنه لمعرفة مزيد عن رؤيته في الحياة
مع الفلاحين
والأحياء. ولم تقبل الكنيسة آراءه، فكفرته وأبعدته عنها.
وبدأت صوفيا تكتب مذكراتها الخاصة، تشكو فيها من هذا الزوج المجنون، وأخذت الزوجة تقاتل بكل قوتها لحماية ممتلكات الأسرة، وانتزاع زوجها مما أصبح عليه ومن إصراره على العمل بيديه ولبس الملابس الخشنة، والنوم في أكواخ الفلاحين، ومحاولاته لإعطاء كل ما يملكه للآخرين.
واشتدت الخلافات بين تولستوي وزوجته فكتب لها ذات يوم: "اني لأصارحك هنا بأن حبك العاصف الغيور المخبول أرهقني وأضجرني ولفني في شبكة مروعة من البلادة والكسل والخمول والظلام .. والحق أني بت أبحث عن نفسي فلا أجدها, وأفتقد عقلي فيفر مني, وأهيب بإرادتي فلا أقع إلا على أعصابي الخائرة, وقواي المحطمة, وعزمي المسلوب!.‏
نعم.. إن عدواك سرت إلي.. فأنا اليوم خائف منك وخائف من نفسي.. خائف منك على شخصيتي وعبقريتي وعملي, وخائف من نفسي أن أطاوعك فأجهز بيدي على أحلامي ومستقبلي!.. وهذا الخوف المزدوج هو الذي دفعني إلى الرحيل.. إذ كيف يمكن أن أعيش مع زوجة تأبى إلا أن تمثل طوال حياتها دور العاشقة المفتونة الغيور?..‏ إن الحب يا عزيزتي جميل, ولكنه ليس كل شيء في الحياة.. وأروع ما في الحب هو التضحية!.. فإذا لم تضحي ببعض حبك من أجل أسرتك وأولادك وزوجك, فأية قيمة لهذا الحب وأي نفع منه?.. إنه ليتحول إذن إلى أنانية جنائية لابد أن تقتل الأسرة, وتقضي على الحب نفسه شر قضاء!‏
وأنا أحس أن حبي لك سيموت من فرط عنف حبك وغيرته وجبروته المتسلط الأعمى..‏ فثوبي إلى رشدك وفكري..‏ إنك إن أطلقت الرجل كسبته, وإن حررته أنقذته, وإن تعففت عنه ولو فترات, سموت به وقويته وشجعته وأغريته بعظائم الأعمال!.‏
وخلال المعركة الطاحنة التي دارت بين صوفيا وتلاميذه قرر تولستوي الرحيل وقد تجاوز الثمانين من عمره فأستقل
مع عائلته وتمسك بالزهور زوجته
قطارا يركب في عربة الدرجة الثالثة المزدحمة.
ولكن سرعان ما عرفت صوفيا مكانه وأرسلت له تقول: " عد إليّ إذا لم يكن ذلك إلا لتسمعني كلمة وداع قبل افتراقنا الذي لا محيص عنه".
ورد عليها " لا تظني أني فررت لأني لا أحبك .. إني أحبك وأرثي لك من أعماق قلبي ، ولكني لا أملك غير ما فعلت ، و لقد كتبت ِ كتابك مخلصة كما أحس ولكنك غير خليقة بأن تفعلي ما تقولين .. وداعا يا صوفيا ، يا عزيزتي كان الله لك ... ليست الحياة مزحة ، وليس لنا من حق أن نلقي بها حسب أهوائنا ... ومن الخطأ أن نقيسها بعدد الأيام ، وربما كان ما بقي لنا من أشهر أعظم أهمية من جميع ما عشنا من سنين ، ويجب أن نحيا كما ينبغي".
و حضرت صوفيا إلي المحطة التي اكتظت بعدد كبير من رجال الصحافة والمصورين ورجال السينما ، وظلت بالقطار تبكي وتحاول أن تقترب من نافذة الحجرة تارة وتدعو المصورين ليصوروها كما لوكانت خارجة من الحجرة تارة أخرى كي لا يعلم الناس أنها لم تدخل على زوجها الذي لم يعلم بمجيئها حيث منعها الجميع بما فيهم ابنتها من رؤيته.
على فراش المرض
وأصيب تولستوي بالتهاب رئوي حاد ونقله تلميذه الذي كان يرافقه، وطبيبه الذي أصر على البقاء معه، إلى مكان متواضع في إحدى محطات السكك الحديدية.
وفي مكان متواضع بمحطة قطار "آستابوفو" رحل تولستوي في العشرين من نوفمبر عام 1910م متأثراً بالالتهاب الرئوي الذي أصابه وهو في طريقه إلي بلغاريا.
وقد عاشت زوجته بعده لسنوات طوال، تدافع عن نفسها ضد اتهامات الناس لها، بأنها كانت مصدراً لعذاب تولستوي الكبير الذي تعرض له في آخر حياته.
وقد رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي بقوله:
تولُستويُ تُجري آيَةُ العِلمِ دَمعَها **** عَلَيكَ وَيَبكي بائِسٌ وَفَقيرُ
وَشَعبٌ ضَعيفُ الرُكنِ زالَ نَصيرُهُ **** وَما كُلُّ يَومٍ لِلضَعيفِ نَصيرُ
وَيَندُبُ فَلّاحونَ أَنتَ مَنارُهُم **** وَأَنتَ سِراجٌ غَيَّبوهُ مُنيرُ
يُعانونَ في الأَكواخِ ظُلماً وَظُلمَةً **** وَلا يَملُكونَ البَثَّ وَهوَ يَسيرُ
تَطوفُ كَعيسى بِالحَنانِ وَبِالرِضى **** عَلَيهِم وَتَغشى دورَهُم وَتَزورُ
وَيَأسى عَلَيكَ الدينُ إِذ لَكَ لُبُّهُ **** وَلِلخادِمينَ الناقِمينَ قُشورُ
ولكن كيف كانت بداياته ؟
"على المرء إذا أراد أن يعيش بشرف وكرامة أن يتمزق بقوة، وأن يصارع كل المثبطات، فإذا أخطأ بدأ من جديد، وكلما خسر عاود الكفاح من جديد، موقناً أن الإخلاد إلى الراحة إنما هو دناءة روحية وسقوط!"
في أسرة روسية من كبار النبلاء الإقطاعيين ذات ثراء هائل، ولد أديب روسيا الأول ليو تولستوي عام 1828، رحلت والدته وهو لا يزال في الثانية من عمره ، ثم تبعها والده الذي كان مدمناً للكحول، بعد عدة أعوام فتكفل به أقاربه.
وفي السادسة عشرة من عمره التحق بجامعة "كازان" لكنه ضاق بمناهجها الدراسية فقرر أن يكمل دراسته في بيته، معتمداً على نفسه، وخلال سنوات قليلة أتقن عدة لغات، واستوعب العلوم الطبيعية والاجتماعية والرياضيات والموسيقى والفن التشكيلي والطب والزراعة.
نشأ في بيئة مسيحية متدينة وعندما بلغ سن 18 عاما بدأ يشعر بأن إشارات الصليب والصلوات ال
كره هذا الرغد
تي يؤديها ليس لها أي مدلول عنده وأنه غير قادر على الاستمرار فيما أطلق عليه "الكذب" فتوقف عن أدائها.
وكان يقول "كان داخلي شعور ما بأني أؤمن بشئ ما، أؤمن بإله أو بمعنى آخر لا أنكر وجوده، ولكن أي إله؟ لم أكن أدرك على وجه التحديد. أذكر أيضا أني لم أكن أنكر تعاليم المسيح؟ لكن ماذا كانت تعني لي هذه التعاليم وقتها؟ لا أستطيع أن أعرف تماما‏".‏
تعرف من صغره على الأدب العربي، حيث كان يجلس مع أطفال العائلة على فراش جدتهم يستمعون إلى ما يقصه الفلاح العجوز الأعمي ستيبان من قصص ألف ليلة وليلة. وقد انطبعت هذه الحكايات في ذهنه ولازمه الإعجاب بها.
بدأ حياته الأدبية بثلاثة كتب متتابعات: (الطفولة) ثم (الصبا) ثم (الشباب).. واتبع قواعد صارمة لإصلاح عيوبه أولاً، ثم لإصلاح الآخرين .
وكان دائما يفكر عن الهدف من حياة الانسان وفي رسالة لأحد أصدقائه قال "على المرء إذا أراد أن يعيش بشرف وكرامة أن يتمزق بقوة، وأن يصارع كل المثبطات، فإذا أخطأ بدأ من جديد، وكلما خسر عاود الكفاح من جديد، موقناً أن الإخلاد إلى الراحة إنما هو دناءة روحية وسقوط!". وكان يبكت نفسه بشدة إذا أحس منها تهاوناً أو تراجعاً.. فكتب بمذكراته وهو لا يزال في العشرين من عمره: "لم أفعل شيئاً. كم يعذبني ويرعبني إدراكي لكسلي! إن الحياة، مع الندم، محض عذاب! سأقتل نفسي إذا مرت علي ثلاثة أيام أخرى دون أن أقوم بفعل شيء ينفع الناس!".
انتقلت إليه ملكية أراض شاسعة وفيرة الإنتاج، وتزوج من "صوفيا" الفتاة الأرستقراطية المرفهة، وعاشا معا حياة هادئة سعيدة لمدة تقارب أربعين عاماً.
دعوته للمساواة
"كن طيباً، واحرص على أن لا يعرف أحد أنك طيب لئلا يعتريك العجب، وابحث عن الجانب الطيب في كل من تعامل من الناس، وإياك أن تفتش عن الجانب السيىء فيهم، وقل الحق دائماً ولا سيما على نفسك!".
أخذ تولستوي ينشر مقالاته الداعية للمساواة بين الناس وبلغ عدد ما كتب عشرة آلاف رسالة، حتى لقب ب "محامي مائة مليون من الفلاحين الروس" . وخشيت زوجته أن يوزع ممتلكاته على العاملين بها كما يدعو في مقالاته، فقالت له مهددة : "يبدو أن حياتنا تسير إلى قطيعة مؤكدة. ليكن.. فأنا وأنت على تنافر دائم منذ التقينا.. أتريد أن تقتلني وتقتل أولادك بمقالاتك هذه؟ لن أسمح لك بذلك!".
ولكن تولستوي مضي فيما يفعل ووضع أفكاره موضع التطبيق ووزَّع جزءًا كبيرًا من أرضه على المزارعين الذين يعملون لديه، وافتتح لأبنائهم مدارس كان يدرس لهم فيها بنفسه، وأنفق معظم ثروته على الفقراء .
وتعمق تولستوي كثيرا في القراءات الدينية، وقاوم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، ودعا للسلام وعدم الاستغلال، وعارض القوة والعنف في شتى صورهما. ولم تقبل الكنيسة آراء تولستوي فكفرته وأبعدته عنها.
وفي السنوات الأخيرة عاش في الحقول مرتديا الملابس الخشنة يكسب مما يعمل بيديه.
في يناير 1869 كتب بمذكراته: "شيئان هما إكسير حياتي! حبي التعبير عن أفكاري بالكتابة الروائية، وحبي زوجتي الحبيبة صوفيا أندريفنا! ماذا يريد المرء من حياته أكثر من ذلك؟! لقد سعدت بحبي لصوفيا! وسعدت بأبنائي، وسعدت بهذه المزرعة الكبيرة، والشهرة، والثراء، والصحة، والسلامة البدنية والعقلية، ولكنني أحس بأن حياتي قد توقّفت فجأة!
لم تعد لدي رغبة في شيء. والحقيقة أن الرجل العاقل، يجب ألا يرغب في شيء!
إن الحياة نفسها وهم! وقد بلغت الحافة التي لا أجد بعدها إلا الموت! أجل. هذا صحيح. الحياة وهمٌ كبير! وهأنذا المحسود على الثراء، وعلى السعادة والشهرة. وعلى حبي لزوجتي! بتُّ أشعر بأنه لم يعد من حقي أن أعيش أكثر مما عشت!"
وقد رفض تولستوي قبول جائزة نوبل الأدبية مرتين لأنه كان يرى أن النقد الأدبي المجامل، مثله مثل الجوائز والمكافآت الكبيرة، تؤدي إلى فساد الخلق الفني والأدبي للمبدع وابتذاله.
ويقول أحد النقاد عن دور تولستوي في أحداث روسيا ذاك العصر "لو اعتبرنا البلاشفة بداية لانتحار أوروبا، س
يرتدي ثوب الفقراء
يكون تولستوي شروع هذا الانتحار، وسيكون لينين نهاية الانتحار".
روائع الأديب
أنجز تولستوي العديد من الروائع الأدبية التي لا زالت تحتل مكانه مرموقة في المكتبة العالمية وأهمها:
"الحرب والسلام"
يري الروائي أي أم فورستر أن بالرواية "جمالا يشبه جمال الموسيقى"، مثلما يراها دليلا على اكتمال العمل الروائي الخال من العيوب.
تشتمل الرواية علي أكثر من 600 شخصية، كل شخصية قائمة بذاتها، متفردة بمعالمها، بتاريخها.
ويُعد كتاب الحرب والسلام (1869م) من أشهر أعمال الكاتب الكبير، ويتناول فيه مراحل الحياة المختلفة، كما يصف الحوادث السياسية والعسكرية التي حدثت في أوروبا في الفترة مابين 1805 و1820م، وتناول غزو نابليون لروسيا عام 1812م.
"أنا كارنينا"
"كل الأسر السعيدة متشابهة، أما الأسر التعيسة فلكل منها قصتها المختلفة، وتعاستها الخاصة المميزة"
نشرت "أنا كارنينا" كسلسلة في الفترة من عام 1773إلي 1877 م وقد أثارت جدلا واسعا في الأوساط الثقافية، وعنها يقول دستويفسكي "ليس ثمة عمل أدبي أوروبي يمكن مقارنته بأنا كارنينا". وتدور الرواية حول امرأة أرستقراطية تدعي " آنا" تفشل في حياتها الزوجية وتنشأ علاقة رومانسية بينها وبين الكونت فيرونسكي حيث يبدي كل منهما ازدرائهما التام، لأفكار الطبقة الأرستقراطية الراقية، التي ينتميان إليها، وتنتهي الرواية بانتحار البطلة، نتيجة الصعوبات التي واجهت ارتباطهما.
ويري النقاد أن روعة آنا كارنينا ليست من طبيعة الحكاية ولكنها تنبع من براعة تولوستوي في التداخل مع الحدث في جريانه... فأحداث الرواية ساحة تتحرك في رحابها طبقة من النبلاء الروس الذين ودعوا نظام القنانة وانتقلوا من الإقطاع القديم إلى ارستقراطية جديدة.
وكتب تولستوي العديد من الأعمال الأخري شملت كتاب "ما هو الفن"؟ في عام 1898 وفيه يضع نظرية "الفن
مكتب تولستوي
للحياة"، التي تضفي على الفن بعداً دينياً أو أخلاقياً أو اجتماعياً.
في عام 1886، نشر قصة بعنوان "وفاة إيفان أليش" تحكى قصة فلاح فقير، سقط فريسة لمرض مميت، وبينما هو في سكرات الموت، بدأ يستعرض حياته، وكم كانت فارغة من الأعمال الجيدة.
وتأتي رواية "البعث" عام 1899 كأعظم أعمال الفترة الأخيرة من حياته، وهي قصة امرأة أُخذت بجريمة لم ترتكبها، ورجل نبيل ينشد التكفير عن خطاياه.
وفي عام 1898م نشر رواية رواية "الشيطان" وفيها يركز على الحب والغيرة والجانب المدمر للغريزة الجنسية. ورواية "الحاج مراد" التي نشرت بعد موت تولستوي، وهي تحكي قصة زعيم إحدى القبائل في جبال القوقاز.
"بحثت عن إجابة لأسئلتي في كل فروع المعرفة التي اكتشفها البشر. بحثت لفترة طويلة وبكد عظيم. لم أبحث بقلب فاتر أو لمجرد حب الاستطلاع ولكن كنت أبحث وأنا يشملني العذاب ولايفارقني الإصرار ليل نهار كإنسان يحتضر ويبحث عن أي مخرج للنجاة. لكني لم أجد شيئا"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.