ما من مناسبة يأتي فيها كاتبنا الكبير أنيس منصور علي ذكر صنف النسا دون أن يأخذ في سكته زوجة تولستوي كتفا علي الماشي.. ما من مقال له حول وعورة مسيرة إبداع الفنان أيا كانت إلا وكانت سونيا تولستوي حجر العثرة الذي يعوق الانطلاقة. ما من قول للساخر أبدا من حرية الأزواج إلا وأطلق مدفعيته الثقيلة ضد الروسية المضطهدة سلفا.. ما من سبب للسأم من الحياة الزوجية الروتينية إلا وكانت سونيا وبنات جنسها في شرع ابن منصور محطة للتصدير والاستيراد.. ما من تفاهة وبلاهة وجهل وعدم في مفهوم الأستاذ إلا وتكون سونيا المثل.. يهجوها ويضع في ركابها ضحيته الأخري زانتيني زوجة سقراط التي ظلمها زوجها الفيلسوف الشارد بجملة شاردة قالها عن حدة مزاجها فكانت بمثابة إشارة البدء في سباق التجني الذي فاز ببطولته في العصر الحديث الأستاذ أنيس مشيدا بقول تولستوي الجارح يردده أينما كتب: لا تستطيع أن تبدي رأيك في المرأة إلا بعد أن يحكموا إغلاق القبر عليك.. هذا رغم أن تولستوي ذات نفسه ألقي برأيه القاسي في وجه سونيا علي مدي ثمانية وأربعين عاما زواجا إن لم يكن بالكلام أو بالقلم فعن طريق تحولاته الرعناء التي لا يمكن لزوجة علي وجه الأرض تحمل واحد علي مائة منها.. وأبدا ليس دفاعا عن ضحايا الأقوال المنصورية اللاذعة في صباحيات مواقف الجمعة, ولا هو من باب الشهرة علي طريقة خالف تعرف, وإنما بمناسبة ذكري مئوية رحيل الكونت ليو تولستوي أعظم روائي في التاريخ التي حق لنا فيه أن ندلي بدلونا مادامت حيثيات الدفاع دامغة, ونقاط الهجوم ظالمة متجنية, وقد آن الأوان أخيرا لإنصاف سونيا كي يضع كل معتد لسانه في فمه, وقلمه في جيبه, وهجومه في الموضع الصحيح. سونيا.. صغري ثلاث بنات للطبيب بيرس صديق تولستوي التي زاغت عينه عليها بينما جميع الشواهد كانت ترشحه للزواج من ليزا الكبري التي لجأت لأحضان أبويها باكية من خديعة الضيف الذي ظل مرابطا عندهم ليل نهار وكان معجبا بثقافتها ويلقبها بالعالمة لكنه تحول عنها لطلب يد سونيا صاحبة العينين السوداوين اللتين تمعنان النظر في الكونت الثري الملتحي دون أن تسبر أغواره.. وما أن تتم موافقة الصغيرة الغضة البيضاء حتي يحولها الخطيب في لحظة غباء من إنسانة رومانسية شفافة مسالمة إلي أنثي غيورة ضارية قد نمت لها الأظافر التي تريد بها نهش كل من غريماتها اللاتي كتب عنهن زوج المستقبل في مذكراته الخاصة التي أعطاها لها لتقرأها كنوع من الاغتسال والتحرر من حقارات الماضي وأدرانه.. وما تمشت البراءة بين السطور حتي راحت السكرة وجاءت الفكرة واستيقظ شيطان الغيرة في أوج شبابه الذي لا ينام خاصة تجاه الفلاحة العشيقة في المزرعة القريبة التي أثمرت علاقتهما طفلا غير شرعي.. وظلت سونيا تري غريمتها في كوابيس أحلامها, أما في يقظتها فأخذت تتنكر في زي عامة النساء وتسدل الخمار علي وجهها وتخطر بدلال معترضة طريق تولستوي بهدف التأكد من توبته وأن لا حسناء علي وجه الأرض قد غدت تلفت نظره غيرها كما كان يسرح بها في عباراته الأدبية النموذجية, وإذا ما كانت مخاوف سونيا قد هدأت من تلك الجهة بمضي مدة الزواج فقد ظل في داء قراءة كل منهما لمذكرات الآخر حتي من وراء ظهره نوعا من المزايدة في الحب والإخلاص ولوم الآخر. سونيا.. من كان زوجها الفحل قد ظل إلي ما بعد الخمسين في استطاعته أن يطبق حدوة الحصان الحديدية في كف يده قد أنجبت له من الأبناء سربا بلغ عدده ثلاثة عشر ابنا وبنتا تسعة أولاد وأربع بنات غير ثلاثة أجنة أجهضت فيهم آخر عنقودهم إيفان الذي حضر عندما بلغ الأب الستين والأم بدون الاستعانة بأي هرمونات الرابعة والأربعين, وكان عليها وحدها مشقة رعايتهم فزوجها كما كتبت عنه في يومياتها: لم يمنحن فرصة واحدة لالتقاط أنفاسي, أو الاستعانة بمرضعة تبعا لتعاليم أستاذه جان جاك روسو أو لإسناد عمودي الفقري للحائط للراحة طوال عمري معه الذي لم يناول فيه أحدا من الأبناء ملعقة دواء أو جرعة ماء أو مكث بجانبه دقائق في فراش المرض, ومعه يئست من استنشاق الهواء النقي خارج الأبواب ومن رؤية منظري أمام المرآة بدون بطن وارم في انتظار قادم جديد يعوي طول الليل.. ورغم رعايتها الفائقة لأكثر من دستة أطفال فقد فقدت ثلاثة منهم دفعة واحدة ما بين عامي1873 و1875.. ومن بقي منهم قد أنجب أبناء وأحفادا بلغوا هذا العام2009 حوالي230 فردا من بينهم حفيدتاه المباشرتان تاتيانا 87 سنة, وصوفيا 94 سنة. سونيا.. التي رضيت بالهم ولم يرض الهم بها حتي أن تولستوي كتب باخترال مشوه عن يومياته العائلية بمنتهي السأم قائلا: القهوة في المنزل.. الشاي علي أرض ملعب الكرات الخشبية( الكروكيه).. الدراسة.. الاستحمام.. العشاء.. قرقشة البسكويت باللوز.. جولة في القارب ساعة سقوط شمس الغروب.. شاي بسيط.. شاي أكبر.. شاي أكبر وأكبر كومبليه.. النوم إلي الصباح التالي! سونيا.. التي شدت الرحيل من بيتهما في باسنا بابوليانا إلي العاصمة بطرسبورج عام1890 عندما دعتها شهامتها إلي نصرة زوجها حين منعت الرقابة طبع روايته القصيرة سوناتا الكرويزر لتقف بين يدي القيصر الإسكندر الثالث تقنعه بحججها الدامغة للسماح بصدور مؤلف زوجها الجديد فلم يجد القيصر مناصا من إلغاء قرار المنع, وظل تولستوي لا يعصمه من تجبر القوي المعادية له وهي القيصر والكنيسة والجيش سوي التأثير العظيم لكتاباته علي الجماهير. سونيا.. التي وقع علي عاتقها مسئولية إدارة منزل ضخم مكون من عشرات الغرف ومزرعة من2000 فدان بأكواخ فلاحيها, ومن مهام يومها استضافة سيل لا ينقطع صيفا أو شتاء من أصدقاء الكاتب وتلاميذه ومعجبيه أمثال تورجنيف وتشيكوف ومكسيم جوركي وكورولينكو, والرسام ليونيد باسترناك والد بوريس مؤلف دكتور زيفاجو والموسيقار تشايكوفسكي, وغيرهم عشرات إلي جانب المتطفلين ذوي الحاجات, وجواسيس ترسلهم الحكومة أو الكنيسة بحجة الإعجاب به فيقيمون عندها أياما يراقبون زواره ويحصون عليه كلماته, وكل هؤلاء كانوا ينزلون علي قلب سونيا بردا وسلاما إلا تلميذه فلاديمير تشيرتكوف الذي أصبح بمثابة العزول لسونيا ووثق به تولستوي إلي حد العهدة إليه بيومياته بينما كانت تري فيه شيطانا دخل حياتهم ليدمرها. سونيا.. التي احتملت زوجا بلا وسامة يكبرها بكثير يصعد إلي فراشها مشعثا مغبرا بملابس مطينة قضي بها يومه عند عودته إليها, ويحمل عصاته في ثوب فلاح ليستقل قطار الدرجة الثالثة إلي حيث قري الفقراء متخذا عن المسيح نموذج الرحمة والفقر, وآخر صبرها معه يفاجئها بقراره التنازل عن حقوقه في جميع مؤلفاته, وعن جميع أراضيه لفلاحيه وعن لقب الكونت. سونيا.. التي قمت في منتصف الثمانينيات بزيارة بيتها في ضيعة باسنا بابوليانا علي بعد مائتي كيلومتر جنوب شرق موسكو وعدت بحصيلة من اللقطات لبيت تولستوي نشرتها بعدها في مجلة نصف الدنيا وذلك عندما أتيحت لنا رحلة مثمرة لزيارة شاملة للاتحاد السوفيتي قادتنا مرشدتنا الروسية خلالها عبر غابة شاسعة أشجارها تقاطع السحاب والمكان يوحي بالهدوء الشديد.. وأمام البيت التاريخي الذي أصبح متحفا طالعتنا شجرة ضخمة علق فيها جرس يطلقون عليها شجرة الفقراء كانت مقصدا لأصحاب الحاجة الذين يلجأون للكونت صديق الفقراء الذي بشر بالاشتراكية قبل وصولها إلي روسيا.. كانوا يهزون الجرس فيخرج إليهم تولستوي الكريم يلبي حاجاتهم.. و.. ودخلنا عتبة سونيا وتولستوي لنبدأ جولتنا بمكتبة صغيرة في الدور الأرضي علي جانب منها سلم خشبي يقود للدور العلوي, حيث حجرة متسعة نوعا كانت في زمانها مخصصة للطعام والاستقبال تحتلها مقاعد الخيرزان الشبيهة بمقاعد محلات الفراشة عندنا التي يحفر علي واجهتها اسم المتعهد ورقم تليفونه.. وفي ركن من القاعة بيانو جلس إليه كبار العازفين الروس أيام كانت الدار كعبة ومقصدا, وبجوار القاعة حجرة صغيرة كان كاتبنا العظيم ينعزل فيها مع بعض خاصته, وبها كنبة مريحة صورة طبق الأصل من الكنب الاستامبولي في بيوتنا المصرية القديمة.. فوق هذه الكنبة كان ليو الذي طاف بفرنسا وسويسرا وإيطاليا وألمانيا, وأتقن الفرنسية واليونانية والألمانية والإيطالية والإنجليزية يقضي أمسيات النقاش المثمر مع صديقه المقرب الأديب تورجنيف, صاحب رواية الدون الهادئ الذي كان لا يوافق تولستوي علي وجهة نظره في الهجوم علي فكرة الفن للفن, وفي رؤيته بأن الفن للمجتمع إلي درجة أن التراجيديا الإغريقية لدانتي ويوم القيامة لمايكل أنجلو ومسرحيات شكسبير, والسيمفونية التاسعة لبيتهوفن لم تسلم من لسان الفنان الكبير جدا الكونت ليو نيقولاي فتش تولستوي الذي جاء في وصفه لدانتي أنه لا يطيق قراءته, وفي شكسبير قال: إنه المسرحي السوقي, لكنه سجل إعجابه الشديد بديكنز وموزار وهيجو الروائي, وعندما توفي دوستو فيسكي قال: لم يخطر ببالي أن أقارن نفسي به أبدا.... وبالطبع كانت حجرة مكتب تولستوي هدفنا الرئيسي من جولتنا فبين أحضانها هبط وحي الأعمال الأدبية الخالدة: الحرب والسلام وأنا كارنينا والبعث والقوازق, وما الفن, وما أؤمن به وقوة الظلام, الخ.. فوجئنا ببساطة وتقشف الغرفة التي هزت الدنيا بما أخرجته من فكر وأدب, حيث تتساند مكتبة فقيرة إلي الحائط أهم كتبها دائرة معارف قمت بجرأة بتقليب صفحاتها فوجدت بعض الملاحظات بخط تولستوي علي ما كتبه فيها عن ماركس وانجلز, وهناك علي الرفوف العديد من الكتب الدينية في جميع الأديان, وآخر ما كان يقرأه كما قالت المرشدة كتاب عن البوذية, وطالع عيني كتيب لتولستوي بعنوان أحاديث مأثورة لمحمد جمعها تولستوي بنفسه وأشرف علي ترجمتها إلي الروسية مع مقدمة يعرف فيها أن مصدره كتاب صدر في الهند بالإنجليزية بعنوان أقوال محمد لمؤلفه عبدالله السودافاردي, والكتيب يقع في ثلاثة وثلاثين صفحة وصدر عام1910 عن سلسلة المفكرون الرائعون لكل العصور والشعوب, وقام بالتعريف بظروف ميلاد الرسول محمد وطفولته, كما يعرف بأحوال شبه الجزيرة العربية وقتها.. وفي شرح تولستوي لتعاليم الإسلام يتوقف عند عقيدة التوحيد والثواب والعقاب وطاعة الله, وحب الله وذوي القربي والدعوة إلي اجتناب المعصية والبعد عن الشهوات, وتجنب الخمر والسرقة والقتل.. ويبرز تولستوي الذي راسله الشاب الهندي غاندي آخذا عنه فكرة المقاومة السلبية, وأخذ عنه برنارد شو الكاتب الإنجليزي المسرحي العظيم آراءه في تمجيد السلام وضرورة الكف عن الخمر والعنف في مقدمة كتابه عن الأحاديث النبوية إيمان الرسول محمد بمن سبقوه من أنبياء فكتب يقول: لم يكن محمد يعتبر نفسه وحده نبيا لله, فقد كان يعترف بموسي وعيسي أنبياء مثله, ويشرح تولستوي المعاناة التي لاقاها الرسول وأنصاره في سبيل نشر الدعوة, ويصف المسلمين: بالتواضع والزهد وحب العمل والبساطة, وأنهم كانوا يحاولون أن يساندوا إخوانهم في الشدة وكان الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية قد راسل تولستوي في عام1904 فأتي رده عليه قائلا: إن العقائد تختلف وتكثر, ولكن ليس هناك سوي دين واحد هو دين الحق. في ركن من حجرة المكتب التاريخية كانت هناك نافذة تطل علي الغابة التي لا تستطيع العين تغلغلا في أبعادها بفضل كثافة الأشجار التي تقدمت بسيقانها لتقف علي عتبة الدار, وقيل لنا إن تولستوي كان يحلو له الوقوف حالما في تلك النافذة بينما كانت سونيا المرأة التي وراء العظيم منكبة فوق المكتب الصغير تعيد نسخ أحداث روايته العظيمة الحرب والسلام بخط يدها للمرة السابعة, فقد أضاف صاحبها سطورا وحذف مشاهد وعمق شخصيات بلغت الخمسمائة في روايته التي صور فيها ميادين المعارك وشجاعة الفرسان وآلام المذابح ومواقف البطولة وانسحاب نابليون بجيوشه عبر ثلوج روسيا التي لا ترحم علي طريق موسكو بأسلوب سهل منطلق لا قرين له استغرق منه20 ألفا و440 ساعة في صياغته أدبا خالدا ظهر علي الشاشة كأطول فيلم في تاريخ السينما العالمية ضاربا الرقم القياسي بالفيلم الأمريكي ذهب مع الريح فقد استغرق كملحمة سينمائية ست ساعات ونصف وقامت ببطولته الروسية ناتاشا روستوفا واشترك في تقديم ملابسه وأسلحته ومجوهراته40 متحفا روسيا.. ووقفت بدوري مكان تولستوي حالمة وليس مكان سونيا المرغمة فقد خلد ذلك الإطار الخشبي كلا من نجمتي الكون جريتا جاربو وفيفيان لي التي قامت كل منهما ببطولة أنا كارنينا مأساة امرأة تصارع الزيف في مجتمع النبلاء وأصحاب الضياع التي أخرجت إلي عالم السينما17 مرة, ولابد وأن سونيا قد أمدته فيها بالكثير من دقائق حياة النساء في المجتمع الروسي فقد كانت بمثابة عينه الفاحصة في عالم ماتت أمه فيه وهو في الثالثة ومن بعدها والده بست سنوات فقط.. ومن قبل التوجه خارج حجرة المكتب حرصت علي البحث في بابها عن أثر للترباس الذي كان يحكم به الكونت ليونيكو لايفيتش تولستوي عملية الغلق ليجلس طويلا إلي نفسه, لا ليؤلف فقط بل لكي يتقن صناعة أحذية برقبة طويلة لأبناء الريف الفقراء.. وهبطنا للدور الأرضي لحجرة تحتل واجهتها لوحة كبيرة علقها تولستوي في حياته لشقيقه نيكولاي الذي يكبره بأربع سنوات, وروي تولستوي عنه في اعترافاته أنهما كانا في طفولتهما يلعبان في الغابة عندما همس له نيكولاي بمكان عصا خضراء مدفونة في ممرات الغابة, من يجدها يستطيع أن يسعد الناس جميعا, وتعلق ليو بتلك العصا ليمضي زمنا طويلا في البحث عنها عبثا بغرض إسعاد الناس من حوله, وقد أوصي تولستوي بأن يدفن في المكان الذي كان يبحث فيه عن السعادة الخضراء, وتم له تنفيذ وصيته حيث وقفنا طويلا أمام قبره المتواضع الذي يعلو عن الأرض ببضعة سنتيمترات وتكسوه الحشائش الخضراء.. القبر الذي انتهك من قبل الألمان ليدفنوا حول تولستوي ثمانين من جنودهم, وعندما ارتفع صوت احتجاج فلاح روسي أخرسه القائد الألماني بقوله: إنه لشرف لتولستوي بتاعكم أن يدفن من حوله الأبطال الألمان بتوعنا, وعندما استعاد الروس المكان بعد الحرب تم نقل الدخلاء ليعود للقبر العظيم توحده الجليل, وكأنما في النهاية قد عثر تولستوي علي عصاه السحرية الخضراء التي أسعد بها كل الناس لكنها وحدها سونيا امرأته التي لم تسعد به ولا بها! وفي جولتنا المحفورة مثل كلمات تولستوي علي جدران الذاكرة سألت عن آثارها.. سونيا المرأة العادية التي تزوجت من رجل غير عادي لتنجب له ثلاثة عشر بنتا وولدا عملت عندهم أما ومرضعة وحاضنة ومربية وممرضة واكتوت بفقد بعضهم لتذوق مرارة الثكل مع علقم الصبر علي الزواج من فنان.. ذهبت أتطلع لحجرة نومها البسيطة وهي زوجة الكونت الثري وارث ال2000 فدان و330 فلاحا يعملون عبيدا عليها.. تركت الفراش المتواضع شاهد المتعة والعذاب الذي استقبل العريس والوليد ودموع العين وذهبت إلي دفتر صغير فوق منضدة صغيرة في أحد الأركان تضم صفحاته حسابات دقيقة بخط بديع لمبيعات المحاصيل ومرتبات الموظفين, فقد وقع علي عاتق سونيا وحدها الاهتمام بجميع الشئون الحياتية حتي تنوع أصناف الوجبات النباتية لفتح شهية الزوج الذي تحول نباتيا من بعدما بدأت أزمته الحقيقية عندما وضع نفسه أمام أسئلة العقل البشري الخالدة: لماذا أعيش؟ وما سبب وجودي؟ وما هدف الحياة؟ وبعدها تحول من حياة الترف إلي حياة الفلاحين الخشنة, وبدأ يعمل بيديه ومن أديب إلي مصلح اشتراكي تألبت عليه الكنيسة وحرمته من حقوقه الدينية.... وإذا ما كانت هناك صورة كبيرة لسونيا في واجهة حجرة الاستقبال في الدور الأول فإن الصورة المعلقة فوق فراش تولستوي في غرفته كانت لابنته الحبيبة الكسندرا.. الغرفة التي احتفظت بملابسه وهداياه, ومن بينها جهاز الديكتافون الذي أهداه له توماس أديسون, وفوق المائدة الصغيرة بجوار فراشه كانت هناك زجاجة ماء فيشي ممتلئة إلي نصفها, بعد أن شرب صاحبها النصف الآخر قبل هروبه منذ مائة عام تصحبه الكسندرا التي تسللت معه ليلة28 أكتوبر1910 يصحبهما فلاديمير تشيرتكوف ليقرر تولستوي الذهاب إلي أحد الأديرة في شا ماردينو حيث تنعزل شقيقته ماري لكنهما لم يمكثا عندها سوي يوما واحدا ليستأنفا رحلة الهروب الكبير باتجاه القوقاز لتوافيه المنية في محطة استابوفو ويدفن بعدها بلا طقوس دينية. سونيا.. من كانت تدلل الشيخ العجوز ذي الطلعة المخيفة باسم الدلع ليوفوتشكا ذهبت جميع تضحياتها علي مذبح البطر ونكران الجميل أدراج الرياح بفعل مصيبة جديدة أضافها الكونت العجوز لمسلسل مصائبه معها وهي ارتباط ذكرها بقرار فراره اللامنطقي بصحبة الابنة وتشيرتكوف ووفاته بعدها بأحد عشر يوما فقط في غرفة ناظر محطة استابوفو متأثرا بالالتهاب الرئوي, وخلال أيام المرض تكالب الصحفيون بأقلام كالمشارط تبحث عن فضائح تجذب بها مزيدا من القراء فكانت أشلاء سونيا بينهم كبش الفداء في قصة معاناة الأديب من تسلط الزوجة, والتصقت التهمة بسونيا حتي وفاتها من بعده بتسعة أعوام عاشتها تموت كل يوم في بيتها مائة مرة بضيعة باسنا بابوليانا في غياهب الظل لتفتح يومها وتختمه بزيارة القبر ووضع باقة جديدة من الزهور فوقه.. وكانت شهادة وفاتها الحقيقية قد صدرت بخط المدعو ليوفوتشكا في الرابعة صباح يوم28 أكتوبر1910 عندما أرسل إليها خطابه المأساة: لا تكرهيني وحاولي أن تفهمي.. محاولتك للانتحار تزيد من تشبثي باستحالة عودتي.. في استطاعتك وحدك إنقاذ كل من تحبين حولك من كل هذا الألم.. لن أخبرك عن وجهتي لأنني أعتبر الانفصال ضرورة لكلينا وبالتالي لا معني إلي أين أنا ذاهب.. لا تظني أنني رحلت لأني لا أحبك.. إنني أحبك بكل قلبي ولكن لا أستطيع إلا أن أفعل ما فعلت.. وداعا يا عزيزتي سونيا.. الحياة ليست نكتة, وليس لدينا الحق في أن نعتزلها, ولا أن نقيسها بمقياس الزمن, وعندما قرأت سطوره وما بين السطور سارعت سونيا لتلقي بنفسها في البحيرة لتنقذها ابنتها تانيا ولكنها غافلتها من جديد محاولة الانتحار من النافذة فأسرعت بجذبها من فراغها في آخر لحظة, فذهبت تضرب رأسها في الحائط مرات حتي أدمتها.. وأسقط في يد الأبناء أمام مأساة الأم ليسارع الابن سيرجي بالكتابة العاجلة لوالده قائلا: أخاطبك بصراحة وهو ما عودتني عليه.. إننا هنا لا ننتقد تصرفك, فهناك ولابد من أسباب ودوافع قوية لديك, وحتي إذا كنا نعرفها, ورغم أننا لا نعرفها, فإننا لسنا الآن في محاكمة ولا في موقع القاضي, وما علينا الآن وقبل كل شيء سوي محاولة لتهدئة أمنا.. والدي.. إنها لم تأكل شيئا منذ يومين, والمؤلم أننا لا نستطيع الكلام معها وهي غارقة وسط نهر من دموع لا تنقطع, وصدقني إن دموعها ليست تمثيلا وإنما نابعة من فرط حساسيتها وأعصابها التي غدت عارية مما يشكل خطرا بالغا علي حياتها.. إننا نخشي عودتها للانتحار أو الموت البطئ لقلب قد انكسر.. إنك الآن في سن ال82 وأمي بلغت67 سنة وحياتكما كما أري أصبحت في حكم المنتهية مع كل هذا السواد, ولكن ألا يجدر بأن يموت الإنسان بطريقة لائقة أكثر مما نري مع انهيارات أمي التي لا تود أن تحيا.. اعذرني إذا ما كنت قاسيا ورغم حبي العظيم لك لا أستطيع سؤالك أن تعود.. أعلم أنك لن تقدم علي ذلك ولكن من أجل السلام العقلي لأمي لا تتركها.. أكتب لها كثيرا, امنحها الفرصة لتمسك أعصابها وليساعدنا الله. ويعاود تولستوي الكتابة إليها: ما أفعله الآن هو ما يلجأ إليه عادة الرجال في مثل سني المتقدمة, وهو الانسحاب من حياة الدنيا وقضاء أيامهم الأخيرة في هدوء وعزلة.. أشكرك علي السنوات الثماني والأربعين التي قضيتها معك.. وفي طي الخطاب كانت هناك سطور قصيرة للابن سيرجي وابنته تانيا: أرجو ألا تشعران بالإهانة لعدم دعوتكما للحضور معي فسوف يسبب ذلك ألما لأمكما ولبقية أخوتكما.. حاولا مساعدة أمكما التي أحبها بإخلاص وعمق. ولا تسمح ابنتها الكسندرا أو تشيرتكوف لسونيا رؤية تولستوي وهو لم يزل واعيا لمن حوله, ولا يدخلوها عليه إلا عندما يكون علي حافة الانحدار الأخير, حيث توقفت ترتعش علي عتبة الغرفة التي تحلقت عيون مئات الفضوليين يطلون عليها من نوافذها في بيت ناظر محطة السكة الحديد المتواضع الذي سيصبح فيما بعد خالدا.. إليه اتجهت مباشرة لتجثو علي قدميها أمامه تقبل جبينه متوسلة إليه: سامحني.. ولو كان المحتضر في كامل وعيه في أدق لحظات شفافية المرء وهو ذاهب للقاء ربه لأجابها: بل سامحيني أنا.. وبعدها لم تخرج سونيا عن صمتها حتي وفاتها لكنها كانت تكتب يومياتها طوال حياتها لتصدر بعد وفاتها بعنوان اليوميات الخاصة لزوجة تولستوي تناولت فيها أدق تفاصيل حياتها والتي من بينها أيام كتبت فيها: في الوقت الحالي يعيش بيننا32 شخصا يأكلون ويشربون وأتولي أنا خدمتهم.. تهشم أكثر من لوح زجاجي في نوافذنا وسرق العسل.. أكره أن نعيش تحت التهديد المستمر لقطاع الطرق.. في المساء عنفني تولستوي لاختلافي معه حول مشكلة الأرض والدين وكل شيء, غير أن هذا لم يكن صحيحا, فبالنسبة للأرض لا أري سببا في التنازل عن أراضينا بينما لدينا أبناء في حاجة للحياة بما يعني من وجهة نظري تصرفا ظالما.. في المشكلة الدينية لا يمكن أن يكون بيننا فيها تباعد فكلانا يؤمن بالإله والخير وطاعة الإرادة الإلهية, وكلانا يكره الحرب والإعدام ويحب الريف ولون الخضرة حيث نحيا.. أذكر يوم ارتفعت درجة حرارة ليوفتشكا ووضعت له كمادة ساخنة فوق معدته فاقترب وجهانا ليتفحصني بإمعان ثم أجهش باكيا هامسا لي من بين دموعه: شكرا سونيا لا تظني أبدا أني لست ممتنا لك أو أنني لا أحبك وتحشرج صوته فقبلت يديه الغاليتين قائلة له: اغفرلي ما لم أستطع أن أمنحه لك.. وليلتها بتنا متعانقين. أستاذ أنيس.. من بعد وفاة تولستوي بمائة عام ألم يحن الوقت كي ترفع قلمك عن سونيا؟!!.. سيدي رفقا بالقوارير ورحمة بزوجة أوصلها الاندحار الزوجي إلي حد الاستلقاء علي بلاط الشرفة في عز الشتاء وثلجية الجو انتظارا للموت, وعندما سمع الزوج صوت نشيجها خرج إليها صارخا لأنها تمنعه من النوم!! المزيد من مقالات سناء البيسى