يرسم الفيلم البريطاني الروسي الألماني المشترك (The last statin ) أو (المحطة الأخيرة) بذكاء تفاصيل الأيام الأخيرة للروائي والمفكر الروسي الفذ (ليو تولستوي) الذي تمر هذا العام الذكري المئوية لوفاته، ولكنه لا يكتفي بهذه التفصيلات الإنسانية الآسرة حيث يدير صراعاً أوسع بين عالمين: عالم واقعي وعالم آخر مثالي عالم يتعامل مع الإنسان كما هو، وعالم نتمني أن يكون الإنسان فيه مختلفاً، عالم الشخص العادي الذي تمثله زوجة «تولستوي»، وعالم الأديب والمفكر الذي يحلم ويتخيل، وقد نجح الفيلم الذي كتبه وإخراجه «ميكائيل هوفمان» عن رواية كتبها «جاي برنيني» في التعبير عن زاويتي الرؤية ببراعة، وجعلنا نتأرجح بين موقف الطرفين من البداية حتي النهاية. وبالإضافة إلي هذه الزاوية الواسعة في النظر إلي أيام «تولستوي» الأخيرة، يتمتع الفيلم بأداء رفيع المستوي في فن التشخيص خاصة من الممثلة البريطانية الراسخة «هيلين ميرين» التي لعبت باقتدار دور الزوجة تولستوي وعن هذا الدور رشحت الأوسكار أفضل ممثلة، ولاشك أنها أفضل بكثير من الممثلة التي فازت بالجائزة لعام 2010 وهي «ساندرا بولوك» ورشح أيضاً «كريستوفر بلامر» عن دور تولستوي لأوسكار أحسن ممثل في دور مساعد، ولاشك أنه اجتهد كثيراً في دوره، وبداية حيث الشكل كما لو كان نسخة من الأديب الكبير في أيامه الأخيرة، ولكني مازلت أري أن «كريستوف والتز» في أوغاد مغمورين» استحق الجائزة عن جدارة وتفوق عن الآخرين. سيناريو الفيلم يترجم فكرته من خلال بناء شبه هندسي يقوم علي شخصيتين علي طرفي نقيض: ليوتولستوي الذي بين في عام 1910 أيامه الأخيرة منعزلاً في مزرعته التي حولها إلي تجربة لأفكاره في حياة تعاونية مع الفلاحين. الأديب الثري الذي ينحدر من أسرة من النبلاء تحول إلي مزارع، كما أصبح ناشطاً (بتعبير هذه الأيام) في حركة تحمل اسمه تنشر مبادئه في المقاومة السلمية، وفي العمل من أجل خير المجتمع وليس الفرد، وفي نوع من الزهد والتقشف ورفض مباهج الجسد، بل إنه فكر في أن يتنازل في وصيته عن حقوق نشر أعماله العظيمة التي جعلته في أعظم كتاب ومفكري القرن العشرين بحيث تذهب إلي الشعب الروسي. علي الطرف الآخر، تبدو زوجته ورفيقة دربه خلال 48 عاماً كاملة واسمها صوفيا اندريفينا. (هيلين ميرن) نموذجاً للمرأة العاشقة والمحبة لزوجها الذي لم تعرف غيره، والذي أنجبت منه 13 ابناً وابنة، ولكنها أيضاً تخاف علي بيتها وأسرتها، وتجد لنفسها حقاً في حقوق كتبه لأنها شهدت مولدها، بل إنها تقول في أحد المشاهد: «لقد كتبت رواية الحرب والسلام ست مرات» إنها «لذلك» تحاول أن تحافظ علي حقوق أسرتها المالية في هذه المؤلفات، وتحاول منع زوجها من تغيير وصيته بحيث لا تؤول الحقوق إلي الشعب الروسي. بين الشخصيتين المتصارعتين اللتين تشيران إلي تأرجح الإنسان نفسه بين الواقع والمثال، توجد شخصيات أخري تغذي الصراع وتستكمل رسم ملامح الصورة أهمها شخصية «فالنتين بولجاكوف» التي لعبها ببراعة «جيمس ماكفوس» إنه شاب في الثالثة والعشرين من عمره انبهر بالأديب العظيم ولذلك لم يتردد عندما عرض عليه (فلاديمير «تشيركوف» «بدل جياميتي في دور رائع ومؤثر» - وهو صديق «تولستوي» - أن يكون سكرتيرًا لأشهر أدباء روسيا والعالم. الشاب قليل التجربة ونقي وبسيط يذهله تواضع «تولستوي» فيكاد يبكي. هو أيضًا مؤمن بأفكار «تولستوي» في التقشف والزهد، ولذلك يحاول أن يبتعد عن المدرسة الحسناء الجرئية «ماشا» التي تعمل بيديها في مزرعة «تولستوي»، ولكنها تأسره بجسدها، وتعيده من جديد إلي الأرض. وطوال الفيلم يبدو «فالنتين» حائرًا بين التعاطف مع الأديب الكبير في التنازل عن حقوقه الأدبية، وبين التعاطف مع الزوجة العجوز التي تحاول استمالته للتأثير علي «تولستوي» حتي لا يستجيب «لوسوسة» «تشييركوف» في أذن زوجها بتغيير وصيته. الحقيقة أن «فالنتين» يعبر أيضا عن الحيرة بين الواقع والمثال، ويعبر أيضًا عن موقفنا أيضًا كمتفرجين علي هذا الصراع المتكافئ الذي يملك كل طرف مبرراته القوية: الزوجة تكاد تعتبر المال أقرب من مكافأة نهاية الخدمة، وهي تحب زوجها بقوة رغم الخلاف، كما أنها ترفع شعار «من أجل أولادي وأسرتي وليس من أجلي»، و«تولستوي» أصبح شيخًا محطمًا، ومن حقه أن يشعر بالسلام في أيامه الأخيرة، ومن حق الآخرين مساعدته علي تحقيق ذلك وأولهم زوجته، وهو لن يشعر بذلك ما لم يتخلص من تلك الأموال لتعود إلي الشعب الذي استلهم منه رواياته. السيناريو جعلنا نميل أكثر إلي الزوجة العجوز في النصف الأول منه خاصة وهي تعبر عن نفسها بلمسات «هيلين ميرين» التي كانت تنتقل بسلاسة بين الغضب والحب والحنان والخبث والمكر، بل إنها كانت تتحول إلي مراهقة عاشقة لزوجها في مشاهد لا تنسي، كما بدت مثل طفلة تتلصص علي زوجها أحيانًا، ولكن في الجزء الأخير أخذت الكفة تميل لصالح «تولستوي» الذي ترك لزوجته المنزل إثر محاولتها الانتحار، وبمساعدة ابنته «ماشا» المتعاطفة مع أفكاره اتجه جنوبا حتي أقعده المرض في محطة القطار لمدينة «استابوفا».. هناك سيمنع «فلاديمير تشييركوف» الزوجة «صوفيا» من لقاء زوجها، ولكنها ستنجح في وداعه والاعتذار له في مشهد مؤثر ومهم أدته «هيلين ميرين» باقتدار معهود.. وعندما يموت الأديب العظيم يعود اللقاء بين «فالنتين» و«ماشا» الجميلة في محطة القطار وكأن الحب الذي بشرّ به «تولستوي» ما زال حيًّا وكأن عبارته التي انتج به الفيلم (كل شيء أعرفه.. أعرفه فقط لأني أحب) هي دستور الحياة كلها، أو كأن المثالي (فالنتين) يجب أن يتحلي ببعض الواقعية التي تمثلها «ماشا»، وهكذا يتصالح الإنسان مع نفسه ليظهر نموذجاً أكثر نجاحا من النموذج المتصارع: «تولستوي» في مثاليته.. وصوفيا في واقعيتها.. والمعروف أن «صوفيا» استردت الحقوق المادية التي منحها «تولستوي» للشعب في عام 1914، وماتت بعدها «بنسية». نجح المخرج في إعادة بناء عالم «تولستوي» في أيامه الأخيرة، كما أعاد بعث هذا العصر الذي كان يتغير بشدة، الحقيقة أن الأديب الكبير بدا قادما من مجتمع زراعي آفل وسط تلك الأجهزة التي تحاصره والسيارة والجرامافون وكاميرات السينما، وبدا في أفكار مثل نبي كما يقول له «دوفان» أخذ مرافقيه، استطاع المخرج أن يرسم العالمية: المثالي والواقعي ببراعه، ورسمت الإضاءة هالات من النور حول بورتريه «تولستوي» لتأكيد روحانيته، وأبدع المشخصاتية في التعبير عن العواطف الإنسانية المعقدة خاصة «هيلين ميريه»، ربما لم يعبر «تولستوي» عن أفكاره بالوضوح والإقناع الكافي، وربما زادت مساحة الحوار في بعض المشاهد، ولكن فيلم «المحطة الأخيرة» ليس فقط فيلما مهما عن «تولستوي» العظيم، لكنه أيضا فيلم عن الإنسان عموما الحائر بين الواقع والمثال، والحالم أبدا بالحب والحرية.