انتحار الميليشيات في العراق المحتل عبد الزهرة الركابي برهنت الأحداث الأخيرة في البصرة والفرات الأوسط وكذلك في مناطق من بغداد، على أن حالة الاحتراب الميليشياوي على وهم السلطة الشكلية بلغت المستوى الذي لايمكن الرجوع عنه، لاسيما وأن هذه الميليشيات، جعلت الناس في تلك المدن والمناطق تترحم على حقبة النظام السابق بمرها وعسفها، من واقع إذا ماتمت المقارنة بين الحقبة القصيرة التي حلت منذ خمس سنوات وهي نفسها عمر احتلال العراق من جهة، وبين حقبة النظام السابق التي ناهزت تقريبا “الثلاثين عاماً" وبحروبها العبثية وممارساتها التعسفية من جهة أخرى، نرى ويرى الكثيرون أن الأخيرة بالنسبة للشعب العراقي هي أهون بكثير وأقل وطأة بشوط بعيد من حقبة الاحتلال والميليشيات الطائفية عموماً، وإن كنا نتناول موضوع الميليشيات على ضوء الأحداث الأخيرة التي ما انفكت تقوم بأدوار تخدم الاحتلال والمطامع الإقليمية المجاورة، بينما هي في نفس الوقت تعيث بالبلاد فساداً تحت مظلة الاحتلال والسلطة الشكلية التي مبناها وفحواها الفساد وتهريب النفط والتزوير.
عندما ذهب المالكي الى البصرة هرباً من المنطقة الخضراء ببغداد والتي كانت تعاني من رشقات الكاتيوشا في الأيام التي شهدت نزول ميليشيا (جيش المهدي) وسيطرتها على أحياء بغداد وخصوصاً في مناطق الثورة (مدينة الصدر) والكاظمية والشعلة، بينما ظلت مناطق الكرادة وبغداد الجديدة التي هي تحت سيطرة ميليشيا (فيلق بدر) أصلاً بمنأى عن هذا الاحتراب، وجد أن قواته كانت محاصرة في جيوب متناثرة في مركز المدينة، ما اضطره الى الاستعانة بالجيش البريطاني المتواجد في قاعدة مطار البصرة وكذلك بسلاح الجو الأمريكي الذي راح يحرق اليابس والأخضر، وكان منظر الضحايا من النساء والأطفال في مشاهد الدم المروع، لطخة عار ليس على جبين الإنسانية وحسب، وإنما على جبين المحتلين وأتباعهم الذين استساغوا لعبة القتل بحماية الأجنبي. ولا ندري هل أن المالكي أصبح بين ليلة وضحاها المخلب في قتل العراقيين الأبرياء من الذين لم ينخرطوا في لعبة الشيطان الميليشياوية وفقاً لما عرضته وكالات الأنباء من صور مأساوية ووحشية، تعكس مدى التحول الجذري في سايكولوجية الجماعات المنغمسة في العملية السياسية، مع العلم أن تسليح الميليشيات الحكومية وغير الحكومية يأتي مثلما هو معروف من الاحتلال والقوى الاقليمية، وبالتالي فإن السؤال الآخر: أليست الغاية من وراء ذلك إثارة حالة الاحتراب بين الطائفة الواحدة بل وحتى تغذية الاحتراب الطائفي عموماً على نحو معروف ومشهود؟
من الواضح ان المالكي في حربه ضد ميليشيا (جيش المهدي) أخذ الضوء الأخضر من الأمريكيين، لكن هذا الضوء لم يخل من إيماءات الخبث والازدواجية التي تقف وراء هذا الضوء، اعتماداً على ان العراق المحتل يواجه حقيقة ثلاثة مخاطر ضمن جامع الحرب الأهلية، وقد يكون الكاتب الأمريكي إنتوني كوردسمان مصيبا في كتابته في صحيفة “نيويورك تايمز" عندما ذكر بلهجة التأكيد قائلاً، “حتى لو استطاعت القوات الأمريكية والعراقية القضاء على (القاعدة) في العراق، إلا أن ثمة ثلاث إمكانيات مثيرة للقلق لأشكال جديدة من القتال التي يمكن أن تُقسم العراق وتَحول دون تحقيق الولاياتالمتحدة لأي شكل من أشكال (الانتصار)، الأولى هي إمكانية انقلاب القبائل والميليشيات في وسط العراق وغربه والتي كانت تتعاون مع الأمريكيين على الحكومة المركزية، والثانية هي إمكانية أن يؤدي الصراع بين العرب والأكراد والتركمان ومجموعات عرقية أخرى حول السيطرة على الأراضي في شمال البلاد إلى اقتتال في كركوك والموصل ومناطق أخرى، أما الثالثة وقد باتت الآن واقعية، فهي إمكانية تحول النزاع السياسي بين الأحزاب المهيمنة إلى نزاع مسلح".
ويحاول الكاتب المذكور إسداء نصيحة الى بلاده بشأن الاحتراب الشيعي، ولربما تكون نصيحته على شاكلة التحذير والتي جاءت بعد عودته من العراق، أو هي تمثل انطباعاً شخصياً تولد لديه من خلال زيارته عندما يضيف، “مما لا شك فيه أن العديد من عناصر (جيش المهدي) متورطون في عمليات التطهير العرقي، وأن الحركة الصدرية تناصب الولاياتالمتحدة العداء، وأن بعضاً من أعضائها المتطرفين يواصل أعمال العنف بالرغم من وقف إطلاق النار الذي أعلنه الصدر الصيف المنصرم، وأن لبعض هذه العناصر روابط مع إيران، وكل هذه الأمور تستوجب ألا ننظر إلى الحركة الصدرية نظرة رومانسية وغير واقعية، أو أن نقلل من شأن الأخطار التي تطرحها".
بيد أنه من المهم كذلك ألا ننظر إلى المالكي أو حزب الدعوة أو المجلس الأعلى نظرة رومانسية وغير واقعية، ذلك أن الاقتتال الحالي، الذي تقدمه الحكومة على أنه حملة ضد الإجرام، يُنظر إليه من قبل الكثير من المراقبين كوسيلة للاستيلاء على السلطة، ومحاولة من المالكي والجماعات الأخرى لبسط سيطرتهم على البصرة والأجزاء التي باتت لا تخضع لنفوذهم.
لاشك ان الأمريكيين يعون جيداً الخارطة السياسية لأتباعهم وحجومهم الحقيقية، ومع ذلك فهم يصرون على تغذية احترابهم، ونحن هنا نتساءل: إذا كان هذا هو الموقف الأمريكي من الأتباع، فكيف سيكون التعامل مع الوطنيين والأصلاء؟ عن صحيفة الخليج الاماراتية 14/4/2008