العراق: الحصاد المرّ وسنوات الاحتلال العجاف أحمد جابر 5 سنوات انقضت على احتلال العراق، مفتتحة مسار انهيار عربي جديد، تتأكد معانيه وتتعمق كل يوم، فيما الخطاب العربي يزداد انفصاماً، وتتسع الهوة بين لغته المنبرية وبين قدرته على مواجهة الواقع، من خارج الصيغ البلاغية. تواجه الخطباء، بعد هذه السنوات المريرة، مسؤولية التأمل في المصير الذي آلت اليه أمانيهم، واعادة النظر في الاستشرافات والاحتمالات «الثورية والقومية» التي أنيطت بإرهاصات «الشارع العربي» واحتمالاته الواعدة! لقد صدم «الشارع» المراهنين، «بالخطابة»، عليه، فهو لم يتحرك لفرض إيقاعه «الجماهيري» ولم تهتز «قصبة الأنظمة» ارتعاداً ووجلاً من غضب كتله البشرية الحاشدة، كذلك فاجأ العراق «الحالمين» بانهياره السريع، فكرر نسخة أنظمة عربية، وشابهها في تقهقرها. في العراق، اهتزت سياسة «تحسين الشروط»، لأن السياسة الأميركية، وحلفاءها الآخرين، رأوا أن لا بديل من وضع اليد مباشرة على مقدرات المنطقة، والجلوس الى طاولة اعادة تفصيل أدوارها، وحماية ممراتها وطرق «المواصلات» السياسية والمادية الموصلة اليها. هذا يقرر أن ثمة مسؤولية أولى، يجب الانطلاق منها، عند الحديث عن مسيرة الخراب العراقية، هي مسؤولية الاحتلال الأميركي، وبعد ذلك، تكرّ سبحة الادعاءات المتبادلة. للتذكير، و «حبر الذاكرة» لم يجف، جرى اقتحام العراق على خلفية تصفية احتمال التهديد بأسلحة الدمار الشامل، وما تلا ذلك، كان عملية تدمير شاملة وممنهجة للبنيان العراقي، افتتح فصولها جيش الغزو الأجنبي، ثم تولت القوى الأهلية العراقية بقية أحداث المأساة. كان الجهل الأميركي بالعراق (وما زال)، شاملاً، وعلى خلفية الجهل هذه، حيكت أكذوبة الديموقراطية الخلاصية الأميركية، للمنطقة عموماً. كان من لزوميات «الديموقراطية» الوافدة، حل الجيش العراقي، وتفكيك جهاز الدولة، وتقريب فئات عراقية واقصاء أخرى، ثم الإكثار من الكلام عن «العراق الجديد»، من دون الارتكاز الى مشروع سياسي واضح، ومن دون تحديد أهداف سياسية بارزة المعالم، تؤطرها مهل زمنية، مشروطة بإنجازات سياسية ملموسة. لقد اقتصر «الانجاز» الأميركي، المدعوم دولياً، على اطلاق فوضى مكونات البنية الأهلية العراقية، وفتح المجال أمام تعبيراتها التفكيكية، وذلك في سياق دحض واضح لكل مزاعم الوحدة السابقة المدعاة، وفي تسفيه فوري لنظرية اعادة بناء «الوحدة العراقية»، وفقاً لمعايير دفتر الشروط الاميركي العتيد! أريد للعراق، أميركياً، أن يكون نموذجاً لما يجب أن تكون عليه بلدان عربية أخرى لكنه صار البلد الأمثولة، لما يجب اجتنابه، والمصير الذي يجب أن تنجو منه المصائر العربية الأخرى. لقد سقطت في حمأة الصراع في العراق، سياسات وأوهام، ترتبت عليها أثمان، وما زالت مدعاة وسبباً لخراب متصاعد، من شأنه أن يضع مصير الوحدة الجغرافية العراقية في «انبوب اختبار» الاستعصاء على التفكيك. ازاء ذلك، لا بديل من السؤال: من المسؤول؟ واذا كان هذا معروفاً، فما السبيل الى احضاره الى محاكمة تقضي بأن يتحمل وزر أخطائه وخطاياه؟ هذا على صعيد المسؤولية الخارجية، التي يكملها صعيد المسؤوليات الداخلية العراقية. في هذا المضمار، أيضاً، سقطت مقولات، وانتكست مزاعم، فبات من حق «المتابع» أن يسأل عن الحفاوة «الفكرية» التي استقبل بها رهط من العراقيين اجتياح بلدهم! مثلما من واجبه أن يستفهم عن تسويغ سياسة التحالف مع الاحتلال، بدعاوى ازالة اجحاف تاريخي أصاب طائفة بعينها، أو استسهال «استخدام» الهراوة الخارجية، لتحطيم الديكتاتورية الداخلية، لكأنما «الدولي» يوزع خدماته السياسية على طالبيها، بالمجان، ومن دون أن تكون له مطالبه الخاصة، أو حساباته المدققة لأصول الربح ولاحتمالات الخسارة. هنا، تكراراً، لا مفر من القول: من المسؤول؟ وكيف يحاسب على ما اقترفته «مخيلته» من أفكار؟! استعراض الواقع العراقي المرير، يشكل ادانة للهواجس الأهلية الخاصة، ويحملها وزر النكوص من دون ابتكار «المشترك الوطني» الذي يعيد، بخطوطه العريضة، رسم حقيقة الأهداف الخارجية، فيتعامل معها، بصفتها «الموقت الاضطراري»، ويلتفت الى مهمات البناء الداخلية، «من الصفر» تقريباً فيحدب عليها بالعناية الفكرية والعملية، التي تطرق كل الميادين المجتمعية. يغلب على «الخطاب الشيعي» العراقي، عموماً، هاجس تأكيد «الوزن» في عملية اعادة بناء «العراق الجديد»، ونقرأ في كتاب ممارسات هذا الخطاب، هدف تحسين المواقع وانتزاع المكاسب للطائفة الأكثر عدداً. من جهته، يعيش «الخطاب السني» في العراق، هاجس عدم التهميش، ويسعى لتثقيل وزنه بانفتاح خطابه على محيطه العربي الأوسع، ويرتضي لنفسه «تهمة التواطؤ مع المقاومة» بخاصة بعد أن تتحول هذه الأخيرة عن مهمة قتال الأميركيين، الى فاجعة قتل العراقيين، الذين يخالفونها «فتاواها» التكفيرية، والذين لا يذهبون مذهبها في معركة «تحرير بلاد الرافدين». لقد عجزت «السنية السياسية» العراقية، التي تختزن تاريخ الأكثرية العروبية، عن الاستمرار بالانحياز الى شعاراتها في الوحدة، وفي الوطنية والقومية، فكررت، أو واكبت «شقيقتها الشيعية» في الفئوية، وفي الاستناد الى روافع من غير بيئتها الحقيقية. على سبيل التفصيل، لا يشكل الجار الإيراني، الشبيه مذهبياً، نجدة للعراق، بل إضافة فئوية الى أحد مكوناته، تنال من إمكانية اعادة انتقام «الفكر الجمعي الوطني» للعراقيين. كذلك، لا تشكل «القاعدة» وتيارات «الأممية الإسلامية» مؤازرة للمكون العراقي الآخر السني، بل هي اعتداء على «موروثه» وعلى تجربته التي حاول من خلالها استقلالاً بحدود، ونهضة بمقدار، واتصالاً بالعالم الحديث. على رغم ما أحاط بذلك من عثرات. أما اهتمامات الأكراد العراقيين، فتقع في مكان آخر، حيث يبدو ان الهم الرئيسي للحزبين الرئيسيين عندهم، ينصب على الفوز بالخصوصية التي كرسها الأميركيون لمناطقهم منذ التسعينات من القرن الماضي، وهكذا يبدو الأكراد، بقيادة جلال طالباني ومسعود بارزاني، هادئين اكثر في تعاملهم مع بقية ألوان الطيف العراقي، لكن هذا الهدوء، المستند الى شيء من «الاستقلال الذاتي»، لا يخفي القلق المستقبلي من احتمال انفلات «الحبل العراقي» على غاربه. اذذاك، وعلى جري حقبات سابقة، يسهل توصيف الأكراد وتصنيفهم، وطنياً وقومياً، من ضمن سهولة «التوصيفات» التي قد تصبح سمة للساحة العراقية في حال تشظيها، أو امتناع مكوناتها على الاندراج ضمن نسق الحد الوطني الأدنى المطلوب، لاستمرار الوضع العراقي القانوني والجغرافي. لقد أوصلت الحال العراقية الجميع، الى ما يشبه الخلاصات السياسية والمجتمعية الأولية، التي تتطلب ملامستها الكثير من الصبر، مثلما تفترض مقاربتها الدقة والحذر، وذلك على سبيل التمهيد لبعض من الدروس المستفادة اللاحقة التي قد تتعارض أو تتناقض مع الكثير من المقولات الشائعة والمشاعة، حول «النجدة الديموقراطية الغربية»، وحول الإفادة من موجة العولمة، ومحاسن الانضمام، من دون عناء أو تدقيق، الى حد «الأمركة» وحول نقل ثقل جسم الصراع الى قطبه الخارجي، من دون التفات الى مقدمات العامل الداخلي الذي يشكل حاضنة طبيعية لكل دعم، من خارج أطره المعروفة. في مجال إضافي، تلقي الحالة العراقية اليوم، قفاز التحدي في وجه «النظام العربي»، الذي يقف عاجزاً عن توليد مشترك جامع حيالها، يتوجه به الى «المحتل» ويخاطب به العراقيين بما مفاده: انهم غير متروكين لأقدارهم، وعلى الخط ذاته، ترمي «اليوميات العراقية» أسئلتها في وجه «الانتظام الشعبي» الذي يقف من المجريات مواقف متباينة، يبدو كل منها بديهياً ومنطقياً لدى القائلين به، في حين انه لا يفعل، أي الموقف، سوى الانضمام الى محصلات متفرقة، يقدمها الوضع العراقي، ودون كبير تدخل في نقاش منطقها. حتى الخطاب الجماهيري، فإنه يعيش في العمق انقساماً مكتوماً، عندما يحال الى إسلاميته، التي تحيله بدورها الى المذهبي. عند هذا الحد، يشترك الخطابان «القومي والإسلامي» في الافتقار الى مادة «العبور العملي» على رغم التمسك الظاهر بكل طقوس «العبور النظري». بكلام أكثر تحديداً يعود الخطاب الإسلامي في العراق ليعيش انقطاعه وتمزقه بين «أمويته» ومذهبيته، ملتقياً مع الخطاب القومي الذي انفصل منذ زمن عن قوميته، بدواعي قطريته. على هذا الصعيد العام العربي، الذي تستدعيه الخصوصية العراقية، لا تنجو مصطلحات اخرى من التدقيق والمساءلة، من مثل «الوحدة العربية، والمصير العربي المشترك»، أو من قبيل الوحدة الوطنية الناجزة لكل بلد، واستقرار العروبة كبطاقة تعريف محلية، وكجواز مرور الى المشترك العربي، والوحدة المجتمعية، وتأصيل استعصائها على الموروث وتجاوزها للماضي الكامن في بنيانها. بعد سنوات الاحتلال الخمس، ازداد الوضع في العراق تعقيداً، مثلما زاد انكشاف هذا البلد العريق امام رياح التدخلات الخارجية. هذا بمعيار قومي، يشكل تهديداً للموقع الاستراتيجي للمنطقة العربية، ويعمل سلباً ضد دورها المرتقب في صناعة القرارات الدولية. عن صحيفة الحياة 9/4/2008