أحياناً مشكلتنا طائفية وأحياناً أخرى مذهبية. فجأة المثقف الراقي، من أبناء الجامعات ومن وراءهم، يغدو آثما. تراهم في لحظة من اللحظات يتلاقون كالإخوة في مكتبة الجامعة، ينهلون العلم من منابعه، وبعد لحظة ينقلبون مجرمين، يشهرون مسدسات وبنادق ولا يتورعون عن إطلاق النار على زملاء لهم فيسقط بينهم شهداء وجرحى. والدوافع مذهبية أو طائفية رخيصة.
عجبا كيف أننا منذ أشهر قليلة لم يكن في صفوفنا ثمة تفرقة بين سني أو شيعي. فما بالنا اليوم أصبحنا شتاتا، يناصب واحدنا الآخر العداء، ولا يتورع عن ارتكاب المعاصي واستخدام العنف وسيلة للتعبير عن عصبيته وانفعاله.
أنا لست من السنة ولا من الشيعة في هذا الصدام البائس. أنا مسلم لبناني. أنا لست من المسلمين ولا من المسيحيين في أي تمايز طائفي. أنا لبناني عربي.
وما يدور من حماقات على هذا الصعيد في لبنان يبدو مثله في العراق بين العرب والأكراد، وبين السنة والشيعة من العرب. ويدور مثله بين إخوة في النضال في فلسطين، فتحتدم الصدامات المسلحة الهوجاء بين جماعات من حركة حماس وجماعات من حركة فتح، فإذا بالمناضلين يتناحرون على السلطة، وأي سلطة؟ إنها سلطة ركيكة لا تملك من أمر الحكم إلا ما يجيزه العدو الصهيوني. درجنا على القول ما أعظم الشعب الفلسطيني، فهو بعد نحو ستة عقود من الزمن انقضت على قيام الكيان “الإسرائيلي” الغاصب ما زال يقاوم في عقر دار الدولة العبرية، لا بل أحيانا على تخوم عاصمتها. فما استطاعت “إسرائيل” على جبروتها القضاء على المقاومة الفلسطينية الصامدة المناضلة. و”إسرائيل” هي أعتى قوة في الشرق الأوسط، ومن ورائها أعظم قوة في العالم، هي الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإذا بالفلسطيني يتولى اليوم القضاء على نفسه، والفلسطيني إذ يطلق النار على أخيه الفلسطيني، إنما يوفر على العدو الصهيوني عناء القتال وتكلفة الذخائر التي يدخرها لإبادة الفلسطينيين وتشريدهم وإفقارهم”.
نحن في لبنان لم نكن نعرف التفرقة المذهبية ولو أننا عانينا في الماضي من مواجهات طائفية مقيتة في أزمات وطنية متتالية كان أعنفها ما دار من اقتتال مرير عبر خمسة عشر عاما ما بين عام 1975 وعام 1990. ما عرفنا التمايز بين سني وشيعي يوما، فما بالنا اليوم نعيش هاجس الانفجار بين سنة وشيعة؟ علامَ الخلاف بين من يجمع بينهم كتاب واحد وقبلة واحدة وفرائض دينية وقيم روحية واحدة لا بل مصير واحد؟ لم يكن لنا عهد بمثل هذا الانقسام قبل وقوع لبنان مؤخرا تحت المظلة الأمريكية. فلا غرو أن هذا الانقسام هو من صنع يد الخارج الذي بات يتحكم بساحتنا الداخلية، وهو الذي يحركه ويغذيه ويؤججه.
وهو إياه كان وراء الانقسامات المدمرة في العراق الشقيق. العراق كان قبل الاحتلال الأمريكي يعتز بعروبته، وكان العراق يشكل عمقا للقوة العربية يهدد أمن “إسرائيل”، أو هكذا على الأقل ما كانت “إسرائيل” ترى في دولة العراق. ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 لم يعد العراق تلك القوة الخلفية التي ترهب “إسرائيل”. ولعل هذا هو الداعي الأمريكي لاحتلال العراق: إلغاء هذه القوة الخلفية إرضاء ل “إسرائيل”. أما الذريعتان المعلنتان، أي امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وعلاقة النظام العراقي السابق بتنظيم القاعدة فقد ثبت بطلانهما بعد التحقيقات التي أجراها الاحتلال الأمريكي نفسه. وأما نشر الحرية والديمقراطية في العراق وانطلاقا منه في المنطقة العربية جمعاء فكان من الأضاليل. إذ كيف تكون حرية وديمقراطية في بلد تحتله الدولة العظمى؟ فلقد أضحى واضحا أن الاحتلال الأمريكي للعراق ما كان إلا لتفجير الفتنة المذهبية والاثنية والعمل على تعميمها على المنطقة العربية جمعاء. والعراق اليوم مسرح لفتنة مذهبية يومية تدمي القلوب وتنذر بتفجير التناقضات الفئوية في شتى أرجاء المنطقة وخصوصا في المشرق العربي. ونحن نردد القول أن ليس من فارِق ولا حتى في التفاصيل بين ما يسمى استراتيجية أمريكية واستراتيجية “إسرائيلية” في المنطقة”.
ومشروع الفتنة المذهبية بين سني وشيعي في لبنان، ما هو إلا امتداد لمكيدة الفتنة في العراق ورافد لها. فإذا ما تفجرت الفتنة المذهبية في لبنان، معاذ الله، فلن يسلم من تداعياتها أي قطر من الأقطار العربية، فلا سوريا تسلم منها ولا مصر ولا المملكة العربية السعودية ولا أي بلد من بلدان الخليج العربي.
المشروع الأم هو الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وهو يقوم على تفتيت أقطار المشرق العربي كيانات مذهبية وطائفية وإثنية بحيث يقع المشرق العربي أجمع تحت الهيمنة الصهيونية من حيث إن الكيان الوحيد غير المرشح للتفتيت في هذه المنطقة هو الكيان “الإسرائيلي”، فتغدو “إسرائيل” هي القوة المهيمنة على المنطقة برمتها. ويندرج في هذا السياق ما نشهد من تحولات على صعيد الرأي العام اللبناني خصوصا والعربي عموما، فبتنا نسمع للمرة الأولى على لسان مواطنين في لبنان مفاضلة بين “إسرائيل” ودول عربية مجاورة، وهذا ما كان في الماضي في منزلة الكفر في المنطق القومي، وكنا عندما نشهد جريمة ترتكب أو وقيعة تفتعل في أوساطنا نشتبه أن العدو “الإسرائيلي” قابع في خلفيتها، فإذا بنا اليوم، كلما تعرضنا إلى مكروه اتهمنا فورا، وقبل أن ينجز أي تحقيق، أحد أشقائنا العرب.
وإذا كان البلاء هو في ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، فالطريق إليه أدهى وأوخم. إنه ما يسميه مسؤولون أمريكيون الفوضى البناءة أو الخلاقة. فالفوضى ما كانت يوما إلا هدامة، ولكنها أضحت بناءة وخلاقة في منظور قوى كبرى لأنها توصلهم إلى مآربهم من شرق أوسط كبير أو جديد.
نحن ندرك أن المؤامرة أكبر منا، والمتآمرون قادرون على تعطيل أي جهود تبذل لتدارك الفتن في بلادنا. لذا عقمت كل المحاولات التي بذلت وتبذل من أجل التوصل إلى حلول ناجعة لأزمة لبنان وكذلك لأزمة العراق وأزمة فلسطين. ولكن هذا الواقع ينبغي ألا يحبط عزيمتنا في البحث عن تسوية، وإن كانت دون الحل الجذري، تقينا شرور الفتن الماحقة وتمدنا بالقدر الأدنى الحيوي من المناعة التي تمكننا من التعايش مع أزمة الشرق الأوسط ريثما يتم التوصل إلى حلول جذرية عادلة لقضايا المنطقة مهما طال الزمن. ونحن نعي أن الحلول المنشودة للمنطقة لن تكون إلا بإرادة أمريكية، مرتبطة بإرادة إسرائيلية، يواكبها ما يشبه التوافق بين دول عربية أساسية ومنها مصر والمملكة العربية السعودية وسوريا، ومن الدول المجاورة إيران. ونحن نستهجن أي انفتاح مجاني على العدو “الإسرائيلي” من مثل استقبال مسؤول صهيوني كبير في بلد خليجي عربي. لقد برهن العرب في صمودهم حتى اليوم أن الإرادة الأمريكية، ومعها الإسرائيلية، ليست قضاء وقدرا وفي استطاعتنا التصدي لها”.
على هذه الخلفية كانت مبادرة رؤساء الوزراء السابقين إذ طرحوا ميثاق شرف يدعو إلى اعتماد خطاب سياسي بناء وتوجهات إعلامية واعية من الجميع تسهم في تعطيل مشاريع الفتنة المذهبية والطائفية، وكذلك التعهد بالامتناع عن اللجوء إلى السلاح أو استخدامه في وجه أي لبناني آخر في أي ظرف من الظروف.
نرجو أن تلقى هذه المبادرة من التجاوب، من جانب الأطراف اللبنانيين، ما يبدد مخاوف اللبنانيين ويعيد إلى نفوسهم الاطمئنان إلى مستقبلهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم، لا بل إلى سلامة الوحدة الوطنية وبالتالي إلى حصانة لبنان مجتمعا ووطنا ودولة.
نختم بالقول مجددا: إننا للأسف لا نتصرف كشعب، وإنما كقبائل، وقبائل العصر تسمى طوائف. فكما كان لكل قبيلة شيخ، يدعى شيخ القبيلة، فإن لكل طائفة في لبنان زعيمها أو من يدعي زعامتها. وكثيرا ما تكون زعامة الطائفة محل نزاع يتخذ أحيانا أبعادا خطيرة. أما آن لنا أن نتصرف كشعب لبناني، ونقول مع من يقول شتان بين الطائفية والدين؟ الدين رسالة والطائفية عصبية. فالأديان تجمع على قيم سامية مشتركة، بما فيها المحبة والرحمة والأخوة والانفتاح والصدق والعفو والتسامح. أما الطائفية فعصبية، والعصبيات تتصادم إذ ينبري أصحابها إلى إلغاء بعضهم البعض.
ما أعظم الدين وأحقر الطائفية، وأخطر أشكال الطائفية المذهبية. فلنقلع عنها بوعينا وإرادتنا وتصميمنا. أين هم قادة هذا الشعب يقودونه إلى سواء السبيل؟ وأين هو دور وسائل الإعلام ورجاله في إشاعة أجواء الوحدة الوطنية التي لا وجود لوطن من دونها؟ لا بل أين هو المسؤول يمارس مسؤولياته على هذا المستوى، وهو المسؤول أولا وآخرا. هذه صرخة في وادي الأزمة، فهل سيكون لها الصدى المرتجى؟”.