عراق الجميع بالجميع: عين عربية وقلب لبناني على العراق هاني فحص كانت لي محاولة أولى لزيارة العراق مبكراً بعد التغيير الذي حصل بأيدي آخرين فرتب على العراق والعراقيين ضرائب كان يمكن تخفيفها لو أنَّ العرب دولاً ومجتمعات مالوا إلى تفهم الإشكال العراقي المعقد وأعدوا للعراق مشروعاً مساعداً لمشروعه في إعادة بناء دولته واجتماعه، بدل أن يتركوه عرضة للشد والجذب من هنا وهناك وبدل أن يتيحوا ويفرحوا بتحويل المقاومة المشروعة إلى فوضى مسلحة غير مشروعة ومن دون مشروع... هذه المحاولة أوصلتني إلى الكويت ولكن الدكتور غسان سلامة الذي كان ينتظرني نصحني بالعدول أو قلل من حماستي لأنّ ما كنا تفاهمنا عليه من عمل مشترك تحت مظلة الأممالمتحدة قد أصبح محالاً. وفي المحاولة الثانية وصلت إلى الكويت لأعبرها إلى البصرة ومن البصرة إلى النجف لأمتع العين والقلب بذكريات التكوين ومن ثم أتابع إلى بغداد.. أيضاً لم يكن حماس نائب رئيس الجمهورية وزير المال وقتها المناضل القديم والصديق العتيق الدكتور عادل عبد المهدي، لم تكن حماسته على ما كانت عليه عندما تفاتحنا بإمكانية الاستفادة من حضوري إلى بغداد. وأخيراً... وفي النصف الثاني من كانون الأوَّل من العام المنصرم اتخذت قراري بشكل مرتجل ومن دون حسابات وقرَّرت أن أرى بغدادي ونجفي وكوفتي حيث كان منزلي في السنوات الأخيرة من عمري العراقي في هذا الوقت الذي ينتظرنا فيه أو ننتظر فيه موتاً ما في لبنان، لا ندري من أين يأتي ولماذا؟ قبل ذلك في نيسان من نفس العام كنت في أربيل (هولير بالكردية) مشاركاً في مهرجان «المدى» الثقافي مع ثمانمئة من المدعوين بينهم عرب، أكثرهم لبنانيون وغالبيتهم الساحقة من العراقيين، من كلّ الأطياف الإثنية والسياسية والدينية والمذهبية، ومن كلّ المعنيين بالشأن الثقافي والأدبي والفني. وقد ارتئي أن أنضم إلى مائدة عراقية مستديرة للتباحث في موضوع الدولة المدنية في العراق، نظراً لاهتمامي بالشأن العراقي عموماً وبدولته المدنية الصعبة والمرتجاة... وبدأ المنتدون كلامهم من مسافات شاسعة تفصل كلاً منهم عن الآخر، من الإسلاميين على تعدُّد أطرهم السياسية، إلى الليبراليين القدامى، والليبراليين الجدد المتحدرين من أصول سياسية إسلامية أو قومية أو ماركسية، إلى الشيوعيين الذين كفوا عن التشدُّد العقائدي وذهبوا في مسار برنامجي فرض عليهم درجة عالية من المرونة وأكسبهم قبولاً غير مسبوق لدى خصوم الأمس، إلى الأكراد من الفصيلين الأساسيين اللذين بدآ واحداً ثم انفصلا وتقاتلا ثم تآلفا على كردستان والعراق والجدل الساخن بين الأطراف والمركز. والذي ارتئي أن يوضع على سكة الحل من خلال إتاحة الفرصة لإقليم كردستان أن يعوض ما فاته من نمو وعمران جراء التدمير الذي مارسه النظام البائد ولم تقصر فيه الأنظمة السابقة له أن يعوض ذلك بالإشباع في الإمكانيات المالية واللامركزية العالية النسبة، انتظاراً لمزيد من التكافؤ مع سائر المحافظات ومزيد من التفاهم، لتأتي رئاسة السيِّد جلال طالباني للجمهورية العراقية الجديدة، ربطاً للطرف الكردي بالمركز العراقي. وقد تبقى هذه المسألة، كردية الرئاسة، عرفاً معمولاً به إلى أن يتم بناء الدولة العراقية والإدارة المدنية بالكامل بحيث تتراجع نسبة المحاصصة الإثنية أو المذهبية أو الحزبية، وتصبح الدولة دولة أفراد على أساس المواطنة والاختيار الحر. وإن كان الرئيس طالباني، كما حدَّثني في عمان أثناء عيادتي له في مرضه، وكرَّر في أكثر من مناسبة، يرى في رئاسته والمقدار الوافي من الشراكة الكردية في مؤسَّسات الدولة، دلالة على أنَّ الكلام عن غلبة شيعية على مشروع الدولة العراقية أمرٌ مبالغ فيه كثيراً، باعتبار أنَّ الأكراد يشكلون نسبة عشرين في المئة من عديد العراق وخمسين بالمئة من عدد السنة فيه، وذلك يجعل الإنصاف في المحاصصة يمر بهم من الطريق الإثني أو القومي والطريق المذهبي. ويضيف (مام جلال) أي العم جلال وهو اللقب المحبب إليه وإلى العراقيين، بأنَّ هناك مبالغة في الكلام عن تهميش السنة في بنية السلطة في العراق مستشهداً لذلك بأنَّ رئيس الجمهورية سني وله نائب سني ونائب شيعي، ورئيس مجلس النواب سني له نائب سني ونائب شيعي، ورئيس الوزراء شيعي وله نائبان سنيان، وعليه ففي المستوى الأعلى من عمارة الدولة أو السلطة هناك ثلثان للسنة وثلث للشيعة، إلاَّ إذا اعتبر العرب أنَّ الأكراد السنة ليسوا سنة. فمن هم إذاً وما هم؟ هذا الكلام الواقعي من المام جلال يرد عليه كثير من السنة بالقول بأنَّ المسألة لا تنحصر في المقامات العليا، بل الإشكال في الحصص والأنصبة يتبلور في الوزارة لا في عدد الحقائب فقط بل في نوعيتها وكذلك في قرص الإدارة العامَّة. وهنا يحلو لبعض المسؤولين أن يردوا بالقول بأنَّ مصادرة النظام السابق للسنة وكفاءاتهم على نحو عام، أفقر سنة ما بعد سقوط النظام إلى الكفاءات وإلى القوة اللازمة التي تؤهلهم لمشاركة أعلى وأعمق، إلى ذلك فإنَّ التباس المقاومة بالإرهاب والتباس الإرهاب بالسنة، قد عقد الأمور على الجميع، وإن عاد بعض الأطراف الشيعية إلى الدخول في هذا الالتباس باستخدام السلاح عشوائياً، فقد زاد الأمور تعقيداً على الجميع. غير أن تكوين مجالس الصحوة السنية، وفي الأنبار خصوصاً، لرد غائلة إرهاب القاعدة عن السنة، قد أعاد طرح المشاركة السنية بشكل أكثر إلحاحاً وحيوية واحتمالاً للشروع في الحل بالشكل المرضي، وإن كان ذلك الأمر لن يخلو من إشكالات وتعقيدات تأتي من جهة أنَّ مجالس الصحوة هي أحلاف عشائرية التقت على سلبيتها تجاه القاعدة وممارساتها، وقد لا تحمل مشروعاً. وبينها وبين الدولة تعارضات يمكن أن تتحول إلى منافسة أو صراع في أي لحظة... وعندما تصغي إلى المجلس الأعلى وإلى نائب الرئيس الدكتور عادل عبد المهدي تسمعه يؤكِّد على ضرورة تفهم واستيعاب جميع الحساسيات السنية بما فيها السيِّد عدنان الدليمي، الذي اتهم بممارسات غير قانونية، وعندما تحاول اختبار موقف الحزب الإسلامي من هذا الكلام تجد الدكتور أياد السامرائي أقرب إلى الموافقة والطمأنينة لهذا الموقف، ويستشهد الجميع بالعناية الفائقة التي يوليها السيِّد عمَّار الحكيم للسنة بدليل زيارته الجريئة لعشائر الأنبار استمراراً للتوجه الوحدوي والاستقلالي والعراقي الصريح الذي أسَّسه جدِّه المرجع الراحل السيِّد محسن الحكيم وحمته الأسرة الحكيمية وقدَّمت ثلاثة وستين شهيداً على طريقه... إنَّ العالمين بعمق الانتماء العراقي لدى آل الحكيم كانوا وما يزالون يؤكدون أنَّ العلاقة بين المجلس الأعلى والجمهورية الإسلامية صادقة وعميقة ولكنها لا تلغي التمايز الذي قد يصل في لحظة ما إلى حدّ الاختلاف أو التعارض، وهناك من يهمس بأنَّ العلاقة بين السيِّد مقتدى الصدر وطهران تثير قلق المجلس الأعلى وأنَّ هذا القلق لم يعد خافياً كما كان. وعندما يصل الكلام إلى السيِّد محمَّد سعيد الحكيم (المرجع) في النجف يصل الكلام العراقي السيادي الاستقلالي إلى ذروته. وهنا بالذات يبدو موقع السنة في الرؤية الشيعية العراقية، يبدون على أنَّهم ضرورة سيادة واستقلال ودولة وعمران وعلاقات عربية عراقية هي من ضرورات العرب وضرورات العراق. ويبقى السيِّد السيستاني ومعه بقية المراجع في النجف مشغولين بإعادة بناء الحوزة إدارياً وعلمياً وثقافياً، بحيث تستعيد حيويتها بعد الشتات الطويل وتدخل إلى حداثتها مستندة إلى أصالة وربط منهجي بين الثابت والمتغير في المعرفة وفي الحياة... وبذلك ترسخ استقلاليتها التي هي شرط لاستقلالية الدولة ومدنيتها، التي دخلنا في النقاش عليها في ندوة أربيل متعارضين وانتهينا باحثين عن المشترك حريصين على ضبط الخلاف من أجل تأهيل العراق لمستقبل ينتظره وينتظر العرب فيه، وهو قادر على تحقيقه لأنَّه يملك كل الشروط الموضوعية لذلك، فموقعه الجغرافي المحوري. يضاف إليه موقعه التاريخي المحوري، وأهليته وموروثه الثقافي العريق والحديث معاً، إلى ثرواته الظاهرة والباطنة والتي تشكل الثروة النفطية الهائلة بعضاً منها ليس إلاَّ، إلى مساحته التي تتسع بحيث تبقى في حدود السيطرة وإمكانية الاستثمار الكامل مع خصوبتها والغطاء المائي لها إضافة إلى المياه الجوفية التي لم تستثمر حتى الآن، إلى التنوع المناخي، إلى عدد السكان الملائم وتنوعهم المناسب لتكوين تعدُّدي محفوظ بالوحدة التي لا تلغي ولا تقصي وترفعها الثقافة المشتركة والتراث المشترك إلى مستوى الأطروحة والواجب الوطني والحضاري. هل يستطيع الشيعة في العراق أن يتحرروا من الخوف من ماضيهم ليساعدوا السنّة على التحرر من خوفهم من المستقبل؟ وهل يستطيع السنّة أن يتحرروا من خوفهم من المستقبل ليساعدوا الشيعة على التحرر من الخوف من الماضي؟ وهل يستطيع العرب في العراق أن يتحدوا أو يتوحدوا ويتحرروا من الخوف المتبادل ليساعدوا الأكراد والتركمان والأشوريين والصابئة والأيزيديين والشبك على التحرر من الخوف من الماضي والمستقبل؟ وهل يستطيع الأكراد أن يتحرروا من الخوف من ماضيهم ومستقبلهم ليصبحوا مصدر أمان واستقرار للعراق؟ وهم أي الأكراد مؤهلون لذلك بما يملكون من كفاءات وحيويات لا يعرفها إلاَّ من يعاينها عن كثب. أمَّا عن الفتنة واحتمالاتها في العراق، فإنَّ قليلاً متزايداً وإن ببطء من الأمن في بغداد مثلاً قد أطلق سراح النَّاس فامتلأت شوارع بغداد وأسواقها بأهلها سنة وشيعة وصابئة وكلدان وأشوريين وشبك وتركمان مهمومين بعراقهم وحياتهم به وفيه معيدين بناء عيشهم المشترك الذي حوصر ولم يتزعزع، على نظام مصالحهم المشتركة التي تدفعهم بقوَّة إلى الشراكة في اكتشاف قيمهم المشتركة وأفكارهم المشتركة وأحلامهم المشتركة... وإذا ما كان الأمن النسبي الذي تحقَّق نتيجة من نتائج بداية التفاهم الأعمق والأوسع داخل الطبقة السياسية العراقية على مستقبل العراق، فإنَّ الحالة الشعبية تغريك بأن تجاهر بالنصح لأطراف الدولة بأن يلتحقوا بقواعدهم الشعبية في وعيها المشترك لعيشها المشترك قبل أن يفوتهم القطار ويتخلفوا أكثر عن واقع العراق وأسئلة العراقيين وهموم العراق الذي انتهى فيه شيء وإلى الأبد وأصبح مستقبله المختلف المؤتلف وعداً حقيقياً وإن كان صعباً ومكلفاً ولكنَّه آتٍ ولا ريب. ولا داعي للتأجيل والمماطلة تحت أي ذريعة مع التأكيد أنَّ العراق لا يكون إلاَّ إذا كان للجميع ولن يكون للجميع إلاَّ إذا كان بالجميع... ومخطئ ومغامر ومخاطر بمصيره أي طرف عراقي يحتمل أنَّ أمنه وازدهاره يتحقَّق من دون الآخرين أو على حسابهم. هذا العراق الآتي، ينتظر المشروع العربي الذي إن تعامل مع العراق كله، كان له العراق كله، وإلاَّ فإنَّ تجزئة العراق كياناً أو ولاء، ضارة بالتابع والمتبوع. إنَّ في العراق فرصة للعرب لتفادي الفتن في بلادهم، وليس مبالغة القول بأن جزءاً كبيراً من مستقبل العرب يأتي من العراق، الذي لا تختزله خبريات الإرهاب والمتفجرات لأنَّ فيه حيويات أهم من ذلك بكثير. في العراق شارع أبي نواس الذي أعيد افتتاحه مع الشروع في تأهيله لكي يعود كما كان ملتقى الأدباء والشعراء وفيه شارع المتنبي شارع الثقافة والحداثة والتراث الذي أحرق بما فيه ومن فيه ثم أعيد تأهيله ورصد له مبلغ مئة مليون دولار لكي يؤكد ثانية قلب المعادلة الموروثة والمبالغ فيها... وفي العراق حديث عن الفساد الفوضوي والذي قد يستظل بظل الدولة التي ما زالت مشروعاً. ولكنَّه أقل بكثير من الفساد السابق والمنظم الذي أفسد وعطل كل شيء في العراق. والكل يرى أنَّ بناء الدولة واشتغالها على أولويات الإدارة والتنمية هو الكفيل بالعودة بالفساد إلى الحدّ المحتمل دائماً حتى في أكثر الدول التزاماً بمقتضيات العدالة والنزاهة. ختاماً لقد آثرت أن أتأخر في الكتابة عن العراق الذي أحبه والذي رأيت فيه كثيراً مما أحبه... تخفيفاً للهرمونات العراقية في دمي والتي قد تدفعني إلى الخلط بين الواقع والحلم. فتوسلت بالفارق الزمني بين الرؤية والرأي لتستقيم الرؤيا. عن صحيفة السفير اللبنانية 29/1/2008