مرة أخري.. الهجرة غير الشرعية.. لماذا؟ د. رفعت السعيد قال لي زميلي بمجلس الشوري: نحن بلديات, ولأنني ابن المدينة, سألته من أي قرية؟ فأجاب بمرارة مغلفة بالكآبة: احنا اللي ناسبنا إسرائيل, وبدأت حكاياته تتدفق حول من تزوجوا من إسرائيليات فوضعوا أنفسهم ووضعوا الجميع في مأزق ديني وقومي.. سألته: ما السبب؟ وأجاب: البطالة والتعليم الفني. وكنت لم أزل أحاول استيعاب مرارة زميلي عضو الشوري التي امتزجت بمرارتي حتي قرأت ما زاد الأمر مرارة.. شبان مصريون قبض عليهم بعد أن دخلوا ناميبيا بتأشيرات مزورة. ولكي لا يختلط الأمر علي القارئ ويتصور أن ثمة خطأ مطبعيا, أكرر اسم البلد ناميبيا.. نعم ذلك البلد الإفريقي الأشد فقرا تسلل إليه فقراؤنا بحثا عن عمل ولقمة خبز. وفرض الأمر نفسه مرة أخري, وبدأت بالبطالة كسبب رئيسي لهذه الهجرة إلي الضياع أو إلي الموت سيان. حفظت ضمن أوراقي التي أعددتها لكتابة هذا المقال تصريحا للدكتور رشيد محمد رشيد, يقول إن نسبة البطالة9%.. وفيما أقلب مزيدا من الأوراق وجدت رقما رسميا آخر9,7%( الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء يناير2004). لكنني تعثرت في أرقام أخري وردت في وثيقة يفترض أنها رسمية وأنها أكثر دقة.. ونتأمل الأرقام. نسبة البطالة إلي قوة العالم عام2001 كانت9,2%. نسبة البطالة إلي قوة العمل عام2002 ارتفعت إلي10,2%. ثم عاودت الارتفاع في عام2003 لتصل إلي11%( مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار وصف مصر بالمعلومات يوليو2005). ونعود إلي الأرقام الرسمية من مصدر آخر, فالجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء( يناير2004) يؤكد الرقم11%, ويقول إن عدد المتعطلين2,240,000 متعطل, من قوة عمل قدرها20,358,000 فرد, وأن نسبة البطالة في الحضر ترتفع إلي14,4%. وبطيعة الحال يتفق الجميع علي أن كل عام جديد يشهد إضافة جديدة يختلفون حول مقدارها إلي أرقام المتعطلين.. فتتراكم البطالة لتتراكم همومنا معها. ثم توجهت بالبحث إلي موضوع المدارس الفنية المتوسطة, فوجدت أنها تضم قرابة مليوني طالب( بالتحديد1,96 مليون) وتتمثل في1810 مدارس( زراعية صناعية تجارية), وأن كثافة الفصل تصل في المتوسط إلي38,2 طالب( الخطة الاستراتيجية القومية لإصلاح التعليم قبل الجامعي الملاحق ص85 عام2007). والمشكلة ليست في الأرقام, وإنما في نوعية التعليم. وأقرأ تصريحا لرئيس مجلس أمناء مدينة العبور يقول: إن منظومة التعليم عندنا تحتاج إلي إعادة نظر, لأنها لا تتناسب مع احتياجات سوق العمل, أقول ذلك لأنني علي علم كامل بأن منظومة التدريب العملي في المدارس الثانوية الفنية الصناعية غير جيدة( نهضة مصر 2007/11/19), ثم يتعزز هذا الوصف المهذب بوصف آخر تورده وزارة التربية والتعليم في خطتها الاستراتيجية المشار إليها سابقا, إذ تعزو سبب التدني في المستوي المعرفي والعملي لخريجي المدارس الثانوية الفنية بمختلف أنواعها إلي عمل بعض القيادات بطريقة روتينية متخلفة وجامدة, ولا تحاول التطور والتحديث والتكيف مع المتغيرات, وعدم وضوح رسالة وأهداف التعليم الفني في أذهان بعض المسئولين عن إدارة المدارس الفنية( المرجع السابق). لكن وزارة التعليم إذ تلقي اللوم علي قيادات التعليم الفني وتتهمهم بالروتينية والتخلف والجمود تنسي شيئا مهما, وهو أن هذه المدارس تشبه المعدات الهيكلية التي تستخدم لتضليل العدو في الحروب. إذ تصنع هياكل من الخشب تشبه الدبابات وغيرها من المعدات, فهي يمكن أن تسمي مدارس تجاوزا, لكن الواقع الحقيقي يقول إنها ليست مدارس ولا فنية. ففي أماكن عديدة الفصول لا تكفي الطلاب فيتجمع الباقون في حوش المدرسة ويتسللون خارجه دون رقابة ولا حساب, كما أنها ليست مؤهلة لتعليم أو تدريب, فمدارس الزراعة بلا أي مساحة منزرعة, ومدارس التجارة أقصي ماتمتلكه من معدات للتدريب آلات كاتبة متهالكة ولم يعد أحد يستعملها, أما المدارس الصناعية فهي بلا آلات ولا معدات. وهكذا يتخرج الطالب وقد تعلم الزراعة شفوي, هذا إن تعلم أصلا, وخريج التجارة سمع عن الكتابة علي جهاز كمبيوتر دون أن يراه, بل دون تعليم حقيقي, بل لعله نسي حتي ما تعلمه في مدارس التعليم الأساسي من قراءة وكتابه. وبعد هذا أود أن أشير إلي أن80% من العائدين من رحلات الموت هم الذين لم يعودوا هم من خريجي المدارس الفنية, وأن إحصاءات زمن الإرهاب البغيض كانت تقول إن70% من الإرهابيين من خريجي هذه المدارس. ويكمل زميلي عضو الشوري الصورة قائلا: الطالب امتلأ بأحلام تقول إنه لم يعد فلاحا وأصبح أفنديا, ولم يعد يصلح أو حتي يقبل أن يعمل عاملا زراعيا.. والأفضل له أن يرحل إلي أوروبا أو ناميبيا يبحث عن لقمة خبز. ثم نأتي إلي قصة التدريب المهني التي تحاول أن تسد هذه الثغرة, وابتداء أسأل: هل مصر غنية إلي درجة أنها تنفق علي تعليم الطالب سواء كان خريجا جامعيا أو خريج المدارس الثانوية الفنية ثم تعود لتكتشف أنه غير صالح للاندماج في سوق العمل, فتعود لتنفق عليه كي يتدرب؟ وتقول أرقام وزارة القوي العاملة إن هناك945 مركزا قامت بتدريب123,000 متدرب, وتضم هذه المراكز مجموعتين: مجموعة تابعة لوزارة القوي العاملة وأخري تابعة لمجلس التدريب الصناعي ويرفض الكثير من رجال الأعمال الإسهام في تكاليف عملية التدريب قائلين إنهم يسددون الضرائب والجمارك وليس مطلوبا منهم غير ذلك, بل إن بعضهم يقول: إن الجهات المسئولة عن التدريب لم تقدم خدماتها سوي لعدد ضئيل جدا من المتدربين. ومن بين عقبات التدريب نقص الإمكانات والمعدات, وأن المتدرب يحصل علي200 جنيه شهريا, ينفق أكثر منها بكثير علي المواصلات فلا يواصل. ولأن هناك أجورا متدنية ومعاملة تتسم في كثير من الحالات بعدم ضمان الاستقرار مثل إجبار العامل علي التوقيع علي استقالته قبل تشغيله, فإن العمالة الماهرة حقا تهاجر إلي دول الخليج, حيث المرتب هناك خمسة أضعاف المرتب في مصر, وتبلغ نسبة هؤلاء وفق إحصاء شعبة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية50% من إجمالي العمال المهرة في مصر. ويصرخ رجال الأعمال قائلين إن هناك120 ألف فرصة عمل تبحث عن عمال مهرة, ويصرخ إعلان التليفزيون مطالبا الشبان باللحاق بالقطار قبل أن يفوتهم. وينسي الجميع جوهر المشكلة وهو أن نظامنا التعليمي عاجز تماما عن مواكبة روح العصر ومتطلبات سوق العمل وهو في بعض الأحيان تعليم وهمي لا يفيد الطالب شيئا. والحل في اعتقادي ليس في تخريج من لا يعرفون, ثم نعيد تأهيل عدد منهم فيبقي الآخرون بلا عمل ومن ثم بلا أمل. وليس في مطاردة أصحاب مراكب الموت ولا شركات تسفير العمالة ولا في تحذيرات الخارجية التي بلغت كما تقول مصادر الوزارة 25 تحذيرا. ولا في صراخ يطالب الشباب باللحاق بقطار هو نفسه لا يعرف لنفسه طريقا.. وإنما في إعادة بناء منظومة تعليمية متكاملة وعصرية سواء عبر وزارة التعليم أو التعليم العالي. باختصار.. الحل في تعليم حقيقي يلبي احتياجات العصر, وليس قرارات التنسيق, ويقدم ما يريده سوق العمل.. وببناء منظومة اقتصادية واجتماعية مختلفة, وتصنيعا جادا يعطي فيه الدعم للصناعات كثيفة العمالة.. وإلا فإن الشاب المتعطل سيلقي بنفسه بين أيدي المغامرة القاتلة ويبقي المسئولون هم المسئولون عن ذلك كله. عن صحيفة الاهرام المصرية 1/12/2007