لبنان.. البحث عن الاستقلال مجدي الدقاق لم ينجح اللبنانيون في الامساك بالفرصة الاخيرة, ويتوصلون لاتفاق علي اسم رئيسهم الجديد, قبل حلول منتصف ليل بيروت من يوم الجمعة وفقا للموعد الرابع والاخير لانتخاب خليفه للرئيس إميل لحود, الذي انتهت ولايته في24 نوفمبر أمس السبت. وسواء اضطر اللبنانيون للاتفاق علي تسمية رئيسهم, أو اضطروا للتأجيل, فلبنان مرشح لازمات جديدة, هي في جوهرها تنويعات علي الأزمة الكبري التي يعيشها هذا البلد الجميل الذي نحبه. أزمة لبنان لايمكن اختصارها في دائرة واحدة هي البحث عن رئيس, فدائما ما كان يشكل اختيار الرئيس اللبناني الجديد مشكلة للقوي اللبنانية, والعواصم الاقليمية والدولية ولايأتي إلا بعد تفاهمات داخلية وتوازنات تخضع لرضا أطراف خارجية. والرئيس القادم للبنان, والذي سيحمل رقم الرئيس الحادي عشر للجمهورية اللبنانية, لن يكون استثناء من هذه القاعدة اللبنانية التي عرفناها منذ استقلال البلاد عن فرنسا, مع انتهاء الانتداب عام1943, فالشيخ بشارة الخوري, أول رئيس لبناني, كان تعبيرا عن مرحلة الاستقلال والتوافق الوطني اللبناني العام, مع قبول دولة الانتذاب الفرنسي به. وكميل شمعون, الرئيس الثاني كان ترجمة للصراع الدولي بين الشرق والغرب وبداية للتدخل الامريكي المباشر في المنطقة, والذي انتهي بأحداث عام1958, وتولي العماد فؤاد شهاب قائد الجيش, رئاسة البلاد مع صعود التيار القومي العربي, الذي أعتبر بدوره الرئيس الرابع شارل حلو قريبا منه, إلي ان انفردت عاصمة إقليمية اثناء وبعد الحرب الاهلية في منتصف السبعينيات, وحتي عام2005 بصناعة الرئيس, إما بإيصاله لقصر الرئاسة في بعبدا كما حدث مع سليمان فرنجية, وإلياس سركيس, وإلياس الهراوي وإميل لحود, أو بمنعه من الوصول إلي المنصب بالاغتيال, كما حدث مع رينيه معوض, وبشير الجميل. لقد كانت جريمة اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري أحد أهم أسباب إعادة تشكيل خريطة التحالفات بين الأحزاب والقوي السياسية اللبنانية, هذا التحالف الذي حرم عاصمة بعينها من دور صناعة الرئيس, وتجاوز الحلفاء الجدد هذا الأمر, وأصبح البحث عن لبنان, الوطن والسيادة والقرار المستقل هو الهدف. ومن المفارقات أن يعاني لبنان وشعبه من هذه الأزمات, وهو يحتفل بمرور64 عاما علي الاستقلال, الذي يصفه أغلب اللبنانيين بالاستقلال الضائع, أو المنقوص فبقدر بحث اللبنانيين عن رئيس, يبحثون عن معني الاستقلال, ويبحثون أكثر عن السيادة الوطنية. يتساءل اللبنانيون بعد64 عاما ما الذي جمع بين رياض الصلح, وفرج الله الحلو, وسليم اللوزي, وحسن خالد, وكمال جنبلاط, ورشيد كرامي, وداني شمعون, وبشير الجميل, ورينيه معوض, وجورج حاوي وإيلي حبيقه وسمير قصير, ورفيق الحريري, وبيار الجميل في لائحة موت واحدة علي مدي سنوات عمر استقلال لبنان, رغم اختلاف آرائهم ومواقفهم السياسية. لقد عرف اللبنانيون أنهم أخطأوا عندما حولوا وطنهم الجميل سوقا للأيدلوجيات ومركزا للميليشيات, وساحة حرب بالوكالة, واستقوي بعض أبنائه بعواصم ومرجعيات وأوهام خارجية. وعلي امتداد تاريخه دفع لبنان وحده ثمن الصراع الدولي بين القوي الكبري, وسدد فاتورة زمن الصراخ القومي, وكانت فواتير حساباته أكثر الفواتير العربية ارتفاعا. ودفع لبنان غاليا ثمن تصدير الأزمات العربية إليه, بقوات تدخل ثم حركات مقاومة أضاعت هيبة وسيادة الدولة. وبيروت هي العاصمة العربية الوحيدة, التي تم حصارها واحتلالها, تحت سمع وبصر آليات الاشقاء التاريخيين, ولبنان هو البلد العربي الوحيد الذي ظل مسرحا يؤدي فيه اللاعبون أدوارا ليست لبنانية تارة باسم القضية القومية وأخري باسم الدين. لقد دفع لبنان ثمن هذه المواقف غاليا من دم أبنائه, ورغم صراخ الثوريين والمستضعفين لم يتقدم أحد منهم, ولو لمرة واحدة, ليحمل صليب الشهادة بدلا منه, وفي كل مرة يدفعه الاشقاء ليحمل صليبهم بدلا عنهم, وكأنه قدره يحمل لبنان دائما صليبه ليفتدي الآخرين وبات عليه في السنوات الماضية ان يتحمل جرائم التاريخ في كربلاء!! ثمة أمل كبير في مواصلة اللبنانيين جهودهم لاسترداد وطنهم وسيادته, وهم يفعلون ذلك بحكمة, لاتخل بالتوازن الدقيق للوضع في بلادهم, وأمامهم دروس حرب أهلية, استمرت15 عاما, ويهدد البعض باشعالها كل يوم. أتصور أن اللبناني قادر علي تفويت الفرصة علي الذين يريدون اشعال وطنهم لحساب صراعات إقليمية ودولية, فلايزال اللبناني يعشق الحياة, ويصنعها كل يوم, ولايزال يحمل وطنه في داخله, ويضيق بقادة الأحزاب, ورموز الطبقة السياسية وباشوات وشيوخ وعقلاء الطوائف والمذاهب. يدرك اللبنانيون أن وطنهم وطن صغير في حجمه, ولكنه كبير بشعبه وحضارته وبعطائه الانساني والحضاري, وان سرقوا لبنان في ضعفه. ودائما ما أقول ان لبنان ليس مجرد بلد علي خريطة العالم, بل هو نموذج ورسالة, هذا النموذج الذي أعطي معني مختلفا للتعايش المشترك بين الأديان والطوائف والمذاهب. يبدو لبنان مع بساطة شعبه, بلد شديد التعقيد فهذا البلد الصغير, يضم12 طائفة دينية, ونحو40 حزبا يرتكز معظمها رغم التسميات السياسية علي قواعد طائفية, ويخصص منصب رئيس الجمهورية للمسيحيين الموارنة ومنصب رئيس الوزراء للمسلمين السنة, في حين يترك منصب رئيس مجلس النواب للمسلمين الشيعة, ويعود منصب قائد الجيش للموارنة, ويشكو كثير من اللبنانيين, من هذا التقسيم الطائفي, ويقولون, أن علمانية لبنان يدخل في صلبها الطائفية. لقد حاول كثير من السياسيين والمفكرين إلغاء التركيبة الطائفية في توزيع مناصب الدولة, ولكنهم فشلوا, في الوقت الذي يري البعض أن طوائف لبنان هي التي حمته وأعطت معني للعيش المشترك بين أبنائه. لايعيش لبنان أزمة بحث عن الرئيس, والحقيقة أن أزمته تكمن في بعض أبنائه, الذين رهنوا إرادتهم بارادات قوي خارجية, وسمحوا تحت دعاوي وشعارات مختلفة, بأن يخرج القرار اللبناني من عواصم أخري, فضاعت سلطات الدولة اللبنانية, وقرارها المستقل. وأتصور ان لبنان بشعبه الجميل يمكنه ان يستعيد استقلاله الحقيقي وقيامته وهذا لن يتحقق إلا بجعل لبنان الوطن هو المرجعية الاساسية في كل شيء وطن يسبق المذهب والطائفة والعشيرة, ويتمسك بقيم التسامح والتعددية والعيش المشترك ولايراهن علي أوهام امبراطوريات مذهبية زائلة, ولا شعارات كونية أو اقليمية أثبتت فشلها. ان استعادة روح لبنان بتنوعه وبناء قوة الدولة وبسط سيادتها علي ترابطها الوطني هو المفتاح الحقيقي لاستعادة الاستقلال, فلبنان بلد جدير بالحياة وشعبها الذي نحبه وتعلمنا منه حب الحياة وكيفية صناعتها, يستحق ان يكون سيد نفسه, ويحتفل بعيد استقلال كامل وحقيقي وغير منقوص. عن صحيفة الاهرام المصرية 25/11/2007