القدس بين الذاتية والموضوعية إبراهيم شعبان دعونا نقرر ابتداء أن مدينة القدس العربية هي أهم مدن فلسطين على الإطلاق وهي حجر الرحى للقضية الفلسطينية. وهي مدينة عربية إسلامية عبر التاريخ السحيق والطويل, تخللتها غزوة صليبية واخرى عبرية. وهي مدينة محتلة حيث لا يعطي المحتل أية حقوق رغم المزاعم والأسانيد الباطلة, ولهذا قالوا في فقه القانون أن الضم باطل ولاغ، وهي عاصمة الدولة الفلسطينية الفتية القادمة. وبدون القدس العربية إلى الأبد المحتلة مؤقتا لن يكون هناك حل ولن يكون هناك سلام بين الشعبين, فهي جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية. وهي مهبط الأديان السماوية الثلاث وقد رفضت التدويل وأنكرت السيادة الإسرائيلية عليها, فهي مدينة عربية فلسطينية لا تقبل التدويل ولا تقبل التنازل. لهذا تحتاج مدينة القدس الى رعاية وعناية فائقة, فهي هدف لهجمة استيطانية شرسة لا تذر ولا ترحم. وقد رصدت اسرائيل لها مئات الملايين من الدولارات. وصرفت عليها البلايين ونحن نغط في سبات عميق. وأخيرا قرر رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت تخصيص مبلغ مليار ونصف من الدولارات لحل مشاكل القدس من وجهة نظر إسرائيلية. وبالتالي فإن المدينة المقدسة وسكانها العرب الفلسطينيون يتعرضون لضغوط هائلة على الصعد الإقتصادية والإجتماعية والمالية والبلدية والعمرانية والتخطيطية والقانونية. والكارثة أنه لا يوجد موقف فلسطيني رسمي من قضايا كثيرة صعبة فلسطينية عربية. والإنسان الفلسطيني العربي حائر أمام معضلة ليس لها جواب. والقضية ليست محصورة بالجانب الفلسطيني بل بالجانب العربي والإسلامي. فعلى الأخيرين إنشاء صندوق مالي لتمويل ألأنشطة الحيوية في المدينة المقدسة. ويكفيهم لإنشائه فرض سنت أمريكي واحد على كل برميل نفط يصدر لا أكثر ولا أقل كما اقترحت سابقا. المشكلة الكبرى أن القدس العربية تعيش في فراغ قانوني مؤسسي. فليس هناك مؤسسة فلسطينية تعنى بشئون أهل القدس وترعاهم أو تحل مشاكلهم, بل هناك أفراد يغدون ويروحون ويتغيرون ويعينون ويستبدلون. وبالتالي ليس هناك خطة سياسية أو استراتيجية للقدس وسكانها, ولكن تطفو على السطح أحيانا حلول فردية أو معالجات محلية جزئية. فالسلطة الفلسطينية ممنوعة من ممارسة أي عمل داخل تخوم القدس العربية عملا باتفاق أوسلو وتداعياته. بل قامت السلطات الإسرائيلية بحل كثير من الجمعيات والإتحادات بذريعة أنها مرتبطة بالسلطة الفلسطينية رغم أن إسرائيل عقدت اتفاقات أوسلو المتعاقبة مع منظمة التحرير الفلسطينية. ويبدو أن الفردية هي التي نقدسها ونمجدها ونحبها ونهواها وليس المؤسسية المستمرة القائمة هي التي تحكمنا, وهي التي لا نشجعها ولا نعززها, لذا نعيش حالة من التخبط في جميع القضايا المقدسية. وحتى حينما كان هناك قائد فذ كالمرحوم فيصل الحسيني, فقد كان هناك فرد ولم تكن هناك مؤسسة. والمشكلة أن الفرد يذوي وينتهي ويزول, بينما المؤسسة تبقى وتستمر حتى لو زال الفرد وانقضى. المؤسسة تعني التخطيط والتحضير والإستعداد بينما الفرد يعني الذاتية والقبلية والعشائرية والعائلية، المؤسسة تعني العلمية ورسم السياسة ووضع الخطط وعنوان ثابت ومقر, بينما الفرد يعني اللا مقر إلا مقر الهاتف النقال والفردية والذاتية والنفعية التي قد تتضارب مع الآخرين أو من هم من أمثاله. ولو اقتربنا من الموضوع أكثر ودققنا النظر في شئون القدس لوجدنا جهات عدة, وأشخاصاًكثيرون يفتون بشأنها أو يمكن أن يتخذون خطوات تنفيذية بحق سكانها أو يسيرون اتخاذ قرارات لهم, ولكن دونما وجود رابط بين هذه الجهات أو الأشخاص أو أي تنسيق سوى كونهم ينتمون لفلسطين . ولا أتجنى على الحقيقة اذا ما قلت أن كل فريق ينسب لنفسه كل الصلاحيات والقدرات. فهناك محافظة القدس, وهناك وحدة القدس في ديوان الرئاسة, وهناك مستشار رئيس السلطة الفلسطينية لشئون القدس, وهناك مستشار لرئيس الوزراء الفلسطيني لشئون القدس, وهناك أعضاء مقدسيون في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. هذا بالإضافة لتنظيمات محلية أو أشخاص محليون مقدسيون لهم اتصالات أو نفوذ هنا وهناك. وذات يوم كان هناك لجنة بروتوكولية تعنى بشئون القدس. وإلى جانب ذلك كله كانت هناك محاولات لإحياء دور بلدية القدس العربية. المشكلة في عمل تلك الجهات أن كل واحدة تعمل بمعزل عن الجهة الأخرى بل تجهل الأخرى عمل قرينتها وليس هناك جامع لها أو رابط أو مجلس أعلى. والأخطر في رأيي أنها تعمل بدون مرجعية قانونية وبدون تقسيم عمل أو صلاحيات. ببساطة شديدة كل جهة تعمل بدون وصف وظيفي. فكل جهة لا تعلم الوصف الدقيق لعملها, كما أن ليس هناك تقسيم وظيفي في العمل بين تلك الجهات والأشخاص. وهذا الأمر يخلق تقاطعات خطيرة في العمل مما يؤدي إلى واحد من أمرين: فإما أن تقوم جهة قوية بالإستيلاء على العمل بمجمله وتنسبه إلى نفسها, أو تقوم كل جهة بعدم العمل بحجة أن هناك جهة أخرى ستقوم بالعمل. وبالتالي تضيع مصالح الناس وتضيع القدس وتتسيب الأمور لأنه لا توجد مرجعية واحدة ولا سياسة واحدة ولا مؤسسة واحدة. وفي النهاية الكل يلوم الكل وتضيع المسئولية بين حانا ومانا ويفقد الفلسطيني انتماءه وعقله في ظل هذه التخبطات. الأخطر من ذلك كله وجود تنافس فردي أو ضار بين هذه الجهات والأفراد سواء رغبوا في ذلك أم لم يرغبوا, وهذا أمر غير مستبعد بل هو طبيعي وإنساني. فما الذي يمنع أن تفتي جهة أو فرد ما بأمر ويفتي آخر أو جهة أخرى بعكسه تماما؟ من الذي يقرر أن تلك الخطوة ضرورية أم العكس صحيح؟ من يقرر الإجراءات التي يجب اتخاذها ومدى صحتها وهل يجب تغطيتها ماليا أم لا ويكون مسئولا عن ذلك القرار ؟ ومن هو المرجع حينما تتضارب الآراء والإجتهادات ليحسمها أم نبقى هائمين على وجه الله؟ من يقرر الميزانيات ومن يدفعها إن كان هناك ميزانيات أصلا؟ من يقرر البعثات للطلبة المحتاجين؟ من يقرر دفع الغرامات البلدية عن الأبنية المخالفة؟ من يقرر أتعاب قضايا المحامين؟ من يقرر مواضيع سياسية بالغة الخطورة؟ من يقرر كثيرة تحتاج إلى أجوبة محددة مقننة موضوعية, وليست ذاتية أو فئوية أو حزبية. ببساطة شديدة من يحسم الأمور ويضعها في نصابها. هل من الضروري العودة لرئيس السلطة الفلسطينية في كل صغيرة وكبيرة تتصل بالقدس. لماذا هذا التشتت في الجهود المقدسية وبعثرتها بحيث يصعب ربطها وجمعها؟ هل ما ندعو إليه أمر شاذ وغريب أم هو عين العقل والصواب؟. كيف لمدينة القدس أن تتقدم وتحل مشاكل سكانها في وجه هجمة استيطانية شرسة؟ هل يكون ذلك بالحج إلى فلان أو علان أم باللجوء إلى مؤسسة تعنى بشئون القدس وتفصيلاتها المملة. لا بد من وضع أنظمة ومعايير لحل المشاكل في القدس. لا بد من جهة واحدة تتفرد بحل مشاكل القدس. لا بد من جهة تودع لديها الميزانيات بشأن القدس. لا بد من خلق نمط جديد في إدارة القدس. كفانا ذاتية وعشائرية وحزبية وقبلية فقد هرمت هذه الأنماط وبادت, فالإتحاد قوة ويد الله مع الجماعة. وحدوا الصفوف ووزعوا الوظائف واخلقوا الإطار القانونيو ارسموا السياسات افتحوا سجلاتكم لنور الشمس وابتعدوا عن المحسوبية وأنشئوا مؤسسة القدس بقانون ومولوها بموازنة مستمرة, ودعوها تعمل . وصدق الشاعر أحمد شوقي حينما قال: يا فاتح القدس خل السيف ناحية ليس الصليب حديدا كان بل خشبا إذا نظرت إلى أين انتهت يده وكيف جاوز في سلطانه القطبا علمت أن وراء الضعف مقدرة وأن للحق لا للقوة الغلبا عن صحيفة القدسالفلسطينية 15/9/2007