ليس لدى زيت قليل أو كثير أصبه على النار المشتعلة فى قلوب وصدور المصريين لتزداد اشتعالا بعد الترويع الذى تعرض له سعبة آلاف من مشجعى الكرة المصريين ليلة الخميس الماضى.. ما كادوا يغادرون استاد نادى المريخ ب أم درمان مساء اِلأربعاء الماضى بعد انتهاء مباراة التأهيل لكأس العالم بين مصر والجزائر، ويستقلونا لحافلات فى طريقهم إلى المطار ليعودوا إلى بلدهم وأطفالهم، حتى طاردتهم جحافل من البلطجية الجزائريين، يقذفونا لحافلات بالطوب فيحطمون زجاجها، ويجبرون سائقيها ورجال الأمن السودانيين الذين يصاحبون ركابها على مغادرتها ويتخذون من ركابها المتحصنين داخلها هدفا لقذائهم، ومرمى لسكاكينهم وسيوفهم ويسمعونهم نماذج منتقاه من سفالة القول والفعل، وفيهم أطفال وسيدات فضليات وعدد من ألمع الشخصيات الإعلامية والصحفية والفكرية والفنية والسياسية. وليس لدى- بعد هذا- ماء قليل أو كثير لكى أحاول به إطفاء هذه النيران المشتعلة فى قلوب وصدور المصريين، ليس فقط لأن ما لدى منه لا يكاد يكفى لكى أطفئ النيران التى اشتعلت فى قلبى وفى عقلى، ولكن كذلك لأن ما اشتعل منها سيظل- على الأقل فى المدى المنظور- أعصى من كل محاولة للإطفاء. ولا استطيع- فى هذه اللحظة تحديدا- أن أقول كل ما لدى حتى لا اضطر لأن أعبر عن مشاعرى قبل أن أفقدها، وأن أسوقها قبل أن أسوسها وبعض ما يمكننى قوله هو : ارفع رأسك أيها المصرى؟. أجل ارفع رأيك أيها المصرى وأنف عن نفسك كل إحساس بأنك قد تلقيت إهانة متعمدة، حالت الظروف بينك وبين التصدى لها، لأن الذين فعلوا ذلك إنما أهانوا أنفسهم، وكشفوا عن معدنهم، ودللوا على مدى ما يتمتعون به من تهذيب وتربية وتحضر، وأبانوا عن جنبهم لا عن شجاعتهم، لأن الشجعان لا يشهرون أسلحتهم فى وجوه الذين يعملون أنهم جاءوا ليشاهدوا مباراة فى كرة القحم، لا لكى يخوضوا حربا وليس فى جيب أحدهم مدية أو سيف أو طوبة فاستغلوا ذلك، ليتوهموا أنهم يخوضون حربا من النوع الذى يتقنه البلطجية لا المحاربوم.. والصيع لا الفرسان.. وهؤلاء هم جزائريين ولا هم عربا ولا هم بشرا أصلا.. إنهم فقط بلطجية وصيّع. ارفع رأسك أيها المصرى.. فليست هذه أول مرة يسلقك السفهاء بألسنتهم الحداد، ولا يجد الأقزام وسيلة لإطالة قامتهم إلا بمحاولة التطاول عليك والحط من شأنك وتمزيقك لكى تطول قامتهم قامتك، ولن تكون آخر مرة لكن العقلاء منهم وهم الأغلبية كانوا يدركون بعد فترة أنهم أخطأوا فيعود الميزان لاعتداله. ارفع رأسك أيها المصرى.. فقد شاءت الأقدار أن تكون وارث حضارة وصفها المؤرخ البريطانى أرنولد توينبى بأنها لم تولد ولم تلد.. ولا تزال شواهد عبقريتها قائمة إلى لايوم فى الأهرامات والمعابد والمومياوات والتوحيد الذى كانت أول من توصل إليه وكان أجدادك هم الذين أحالوا هذه المنطقة من العالم من مستنقعات وأحراش تسكنها الوحوش والهوام إلى أرض زراعية يسكنه البشر وينتشر الأخضرار على شاطئيها لذلك اكتشفت المؤرخون المحدثون أن المؤخ اليونانى القديم هيرودوت أخطأ عن قال إن (مصر هبة النيل) إذا الصحيح أن النيل ومصر.. هما هبة المصريين. ارفع رأسك أيها المصرى.. فقد شاءت الأقدار أن تكون مركزا لأمة، كان بلدك أعرق أقطارها حضارة وأولها تقدما، وأسبقها للتوحد القومى ولبناء الدولة الحديثة، وللتعليم العصرى والاستنارة وشاءت الأقدار أن تقود شعوبها-باختيارها-إلى شىء من ذلك كله، يشدون إليها الرحال ليتعلموا أو يتثقفوا ثم يعودون إلى بلادهم فيضيفون إلى الأمة كلها رصيدا من الحداثة والتقدم والاستنارة. ارفع رأسك أيها المصرى.. فقد شاءت المقادير أن هذه الدول ما كادت تستقل وتشرع فى بناء دلوتها الوطنية، حتى احتاجت خبرتك فقدمتها غير باخل تشق الطرق وتبنى العمائر وتصوغ الدساتير والقوانين وتؤسس المحاكم.. وتدرب قوات الشرطة والجيوش وتفتح المعاهد والمدارس والجامعات والمستشفيات وتترك فى كل أرض عربية بصمة تدل على طبيعتك كشعب عاش طوال التاريخ يبنى ويعمر ويخضر ويصنع الخير والجمال والفرحة حيثما حل. ارفع رأسك أيها المصرى.. فلا أحد يستطيع أن يهينك أو يمس كرامتك.. أو ينقص من قدر بلدك.. لمجرد خطأ بسيط لا ذنب لك فيه، هو أنك ذهبت إلى أم درمان لتحضر مباراة التأهيل لكأس العالم فى كرة القدم.. بينما ذهب آخرون وفى ظنهم أنها مباراة للتأهيل لكأس العالم فى الصياعة والبلطجة.