باحث في العلوم السياسية كشفت الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة منذ بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة عن رؤى مغايرة وتطلعات متناقضة وتصورات مغلوطة من جانب بعض القوى الإقليمية والدولية بشأن إعادة رسم المنطقة وتوزيع ميزان القوى بين دولها، وكانت الرؤية الإيرانية من ابرز الرؤى التي كشفت الأحداث عن تجاوزتها ومغالطاتها وتطلعاتها لإعادة صياغة العلاقات الإقليمية في ضوء مصالحها الخاصة ووفقا لتوجهاتها الإيديولوجية الحاكمة لسياساتها الخارجية وتنظيم علاقاتها الدولية والإقليمية. فإذا كان صحيحا أن الدول تنطلق في رسم سياساتها وعلاقاتها الخارجية من منطلق مصالحها الوطنية، إلا انه من الصحيح أيضا أن تدرك هذه الدول أنها لا تتحرك في محيطها الإقليمي ومجالها الدولي بصورة منفردة، وإنما في إطار دولي وإقليمي يفرض عليها أن تتفاعل معه وتتصالح مع أفراده وإلا أصبحت كمن يغرد خارج السرب، ويتحرك وفقا لطموحاته وتصوراته واعتقاداته بقطع النظر عن مدى ملاءمتها لأحداث الواقع وتطوراتها، ومدى تفاعلها مع منطلقات الآخرين ومصالحهم، خاصة وأنه في ظل التغيرات العالمية والتطورات التكنولوجية والانجازات العلمية في مجالي الاتصالات والمواصلات، فلابد أن يعمل الجميع في ظل محدودية الحركة وتوازنات القوى وتضارب المصالح، وهو ما تتجاهله إيران في رؤيتها وسياستها تجاه دول المنطقة، حيث تنطلق رؤيتها من واقع أحداثها التاريخية ومعطياتها الجغرافية ومنطلقاتها الإيديولوجية والفكرية، وهو ما يجعل من اليسير القول إن التحرك الإيراني في منطقة الخليج العربي ورؤيتها لأمنه وامن دوله يحكمها عوامل ثلاثة، هي: أولا، التعددية القومية التي تعانى منها الدولة، حيث تتسم البنية الاجتماعية للدولة بتعددها القومي ما بين العنصر الفارسي الشيعي (60%) , البلوش (10%) , الأكراد(10%), التركمان(10%), العرب(10%) . وقد أدى هذا التعدد القومي في بعض الفترات إلى سعي بعض هذه القوميات إلى تحقيق الحكم الذاتي والثورة على الحكم الإيراني, كما هو الحال في ثورة الأكراد للمطالبة بالحكم الذاتي في الشمال الغربي الإيراني في مارس 1979، فضلا عن صراع الأهواز والبلوش والذي دفع طهران إلى التهديد بالتوغل في باكستان لملاحقة المتمردين البلوش. ولا شك أن هذه التعددية القومية منحت الأطراف الدولية والإقليمية الفرصة لاستغلالها في صراعها مع إيران من خلال التركيز على نقاط الضعف الإستراتيجية في الجسد الإيراني.
ثانيا- الطبيعة الجغرافية للدولة الإيرانية، فعلى الرغم من أهمية الموقع الاستراتيجي الذي تشغله طهران بما يجعلها مسيطرة على حركة التجارة الدولية وخاصة النفط بسبب سيطرتها على مضيق هرمز الذي يربط الخليج بالمحيط الهندي, فضلا عن إخضاع الملاحة في شط العرب لمبدأ الإشراف المشترك بمقتضى اتفاقها مع العراق (اتفاقية الجزائر في 1975 )،إلا انه من ناحية أخرى مثل هذا الموقع تهديدا مباشرا لأمنها القومي نظرا لطبيعة حدودها الجغرافية التي يصعب السيطرة عليها والتي يُطلق عليها في علماء الجغرافيا الخواصر الرخوة، فكما هو معلوم أن ضعف قدرة الدولة على حماية امن حدودها، تجعلها عرضة لقوى أجنبية للتلاعب في دينامياتها الداخلية وزعزعة استقرارها. ثالثا- العامل الإيديولوجي المتمثل في مبدأ تصدير الثورة الذي انتهجته الثورة الإيرانية منذ اندلاعها عام 1979 م، وهدفت من ورائه إلى نشر المذهب الشيعي الإثنى عشرية في البلدان العربية الإسلامية المجاورة، ورغم ما أثير مؤخرا بتراجع الدولة الإيرانية عن هذا المبدأ إلا أن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها المسئولون الإيرانيون تعليقا على الثورات العربية بصفة عامة كما حدث في تعليق آية الله على خامنئى المرشد الأعلى على أحداث الثورة المصرية واعتبرها مستلهمة روح الثورة الإيرانية، أو بصفة خاصة فيما يتعلق بموقفها المشين من أحداث البحرين، يكشف عن سوء النيات وخبث المقاصد وإصرارها على مواقفها وسياستها القائمة على التدخل في شئون دول الجوار. مما سبق يتضح لنا أن التوجهات الإيرانية ورؤيتها تجاه امن الخليج وامن دوله تنبع من رؤية قائمة على الهيمنة والسيطرة على مقدرات المنطقة ومكتسبات دولها، بما يحقق أهدافها التوسعية ويحمى استقرارها الداخلي ويصون حدودها الخارجية، فكما هو معروف في الدراسات السياسية أن فشل بعض القادة السياسيين فى مواجهة مشكلاتهم الداخلية قد يدفعهم إلى المغامرات الخارجية بهدف توحيد الصف الداخلي والتغلب على الانقسامات القومية من ناحية، وبالتدخل فى الشئون الداخلية لدول الجوار من خلال إثارة القلاقل والاضطرابات بما يضمن لها توجيه التحركات وضبط إيقاع التفاعلات بما يتفق ومصالحها الإستراتيجية، وهو ما تسعى إليه إيران فى سياستها تجاه دول المنطقة بصفة عامة ودول الخليج العربي على وجه الخصوص. نخلص من ذلك إلى القول إن الرؤية الإيرانية لأمن الخليج تنطلق من السعي إلى السيطرة والهيمنة على المنطقة وشعوبها مستغلة الاضطرابات الشعبية التي تشهدها دول المنطقة من ناحية، وتراجع الدور الأمريكي بسبب انغماسه في المستنقعين الأفغاني والعراقي من ناحية أخرى.