ليس فقط لاعتبارات التاريخ والجغرافيا – وهي اعتبارات حاكمة – وإنما أيضا لاعتبارات المصلحة الوطنية العليا لا تملك الدولة المصرية فكاكا من واقعها الإقليمي الذي يفرض عليها التعامل مع عدة دوائر خارجية، وهو تعامل ينبني على أمرين: الأول: إدراك الدولة المصرية لذاتها بمعنى: - فهم أبعاد الدور الإقليمي ومقتضياته - فهم حدود القدرات والإمكانات الذاتية الحالية والمتوقعة - إدراك حيوية الموقع والمكان - تصور تشابكات العلاقات الدولية والإقليمية - كيفية التعامل مع العداوات والصدقات الموروثة - معرفة دوائر التحرك المتوقعة (سلبا أو إيجابا) داخل دوائر السياسة الخارجية. ثانيا: إدراك الدولة المصرية للآخرين بمعنى: - فهم مصالح الدول الكبرى خاصة الولاياتالمتحدة - فهم المعادلات الإقليمية الحاكمة لشبكات التحالف والصراع - كيفية إدارة المشكلات الإقليمية لقد رفع ستار الدولة المصرية بعد الثورة والتحرر من نظام مبارك الاستبدادي عن "تركة مزدوجة مثقلة بالمنافع والمضار: فمن ناحية المنافع: هي تركة غنية بالبشر والموارد والقدرات وشبكة العلاقات الإيجابية. ومن ناحية المضار: هي تركة مثقلة بالتهديدات الداخلية والخارجية، والمطامع ومنازعة الدور من القرناء (ومن بعض الدول الصغرى) ومحاولة توجيه ذلك الدور من قِبَل الأطراف الكبرى. ومن ثم تجد الدولة المصرية نفسها في مأزق توازن علاقات مع طرف مهيمن في مواجهة متطلبات وطنية وهو ما نطلق عليه "الأبعاد الوطنية للعلاقات غير المتكافئة"، فهي لكي ينجح مشروعها خاصة في مراحله الأولى لابد من إبداء قدر كبير من المرونة أو حتى البراجماتية وإعلان التزامها بالمعاهدات الدولية والاتفاقات السابقة (وهو ما تم) وإعلانها الحفاظ على المصالح والأوضاع القائمة، وخاصة الحفاظ على مصالح الآخرين الذين يستطيعون حماية مصالحهم بأنفسهم. لكن يظل التساؤل المحوري الذي يطرحه الجماهير والشباب الذين قاموا بالثورة: إذا كان جوهر مشروع التحرر من نظام استبدادي هو انعتاق من أسر علاقات ظالمة غير متكافئة هي أقرب إلى اتفاقات الإملاء والإذعان فكيف يكرس مشروع التحرر نفس القواعد السابقة في علاقاته الخارجية؟ وفي نفس الوقت لا يقوى مشروع الدولة الوليد على مواجهة طرف يستطيع إجهاض تجربته لو أراد، في حال إذا ما شكل تهديدا جديا لمصالحه الحيوية؟ وإذا كان كل إدراك للذات وللآخرين يترتب عليه "مواقف للذات" و"مواقف من الآخرين" فإن العمل السياسي كله وبالنسبة إلى جميع الأطراف – بغض النظر عن طبيعة كل طرف وأهدافه وموقعه في الصراع – يتلخّص في التقدير الدقيق للموقف، وهذا يشمل التقدير لموازين القوى الراهنة ولاتجاهات تطورها اللاحقة ولعمل مختلف الأطراف من خلاله، ومن ثم كيفية إدارة الصراع تبعا لهذا التقدير. ثم إن هذه المواقف قد يتم التعبير عنها بصورة حدية (راديكالية) أو بصورة تدريجية واقعية تتواءم مع مقتضيات توازن القوى الراهن والمحتمل وعلاقات المصالح الآنية والمستقبلية. وهذه المواقف تتجلّى في شكل علاقات مع أطراف، ربما تكون في شكل تعاوني (اتفاقات – معاهدات – أحلاف) أو في شكل صراعي (تهديدات – احتواء- حروب) أو في شكل هو مزيج بين التعاون والصراع تحدد وجهته بوصلة المصلحة ودرجتها أو منافعها الحديّة (ما إذا كانت مصالح يمكن التفاوض بشأنها أم لا يمكن التفاوض بشأنها) وفي هذا تنقسم العلاقات الخارجية للدولة المصرية إلى: - علاقات مع أطراف دولية (الولاياتالمتحدة – الاتحاد الأوروبي – المنظمات الدولية). - علاقات مع أطراف إقليمية بحكم الجغرافيا والتاريخ، كدول الجوار الجغرافي: " إيران وتركيا وأثيوبيا، أو بحكم الأمر الواقع: إسرائيل. - هذه العلاقات تترتب عليها سياسات مثل سياسات الدولة المصرية تجاه عملية التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي وما قد يتتبعها من محاولات قيام أسواق اقتصادية على أساس إقليمي أو سياساتها تجاه الأمن في الخليج أو تجاه التدخل الإيراني أو الأطماع الإيرانية في المنطقة سواء عن طريق التدخل بشكل مباشر أو إثارة القلاقل عن طريق بعض الأقليات المذهبية. - وإذا كانت دراسة تفاعلات الأطراف ممثلة في: الإدراك والمواقف والعلاقات والسياسات تتم في شكل مسارات ثنائية أو متعددة يقوم الباحث بتحريك طرف (إدراك – مواقف – علاقات – سياسات) وتثبيت بقية المسارات سواء الثنائية أو المتعددة إلا أن هذا لا يحدث –بالضبط – في عالم الواقع المركب الحي المتفاعل إذ نجد أن كلا الطرفين من أطراف الدراسة أو العلاقة في حالة حركة دائمة وتبدل في الرؤى والاختيارات والمواقف والعلاقات والسياسات بشكل مستمر حيث تعبّر تلك الحركة الدائمة عن نفسها في نوعين من الشبكات: - شبكة العلاقات التعاونية الدائمة والمؤقتة (تحالفات) - شبكة العلاقات العدائية الدائمة والمؤقتة (صراعات) وكلا الشبكتان تتمايزان في عالم الواقع لكن لا تنفصلان حيث تتبدى في مواقف وتنزوي في أخرى، لذلك من الأفضل صياغة نموذج لحركة الدولة المصرية الجديدة على شكل لقطة مجمعة متحركة وبانورامية وهي لقطة حية في رؤاها وأفكارها، في حركاتها وسياستها، في علاقاتها وتفاعلات أطرافها. ومن باب الأمانة العلمية أصارح القراء بأن قناعتي الفكرية مبنية أن علاقات الدولة المصرية الجديدة مع الولاياتالمتحدة هي "علاقات أُمّ" أو "علاقات منظومة" لكلا الطرفين وربما يكون عدم التوفيق في إدارتها سبب رئيس في عرقلة مشروع مصر الإقليمي وهي تحاول إعادة منظومة علاقاتها الإقليمية والدولية بما يتناسب مع مكانتها المركزية في المنطقة، ويعود ذلك في جوهره إلى عاملين: الأول: الهيمنة الأمريكية على معظم أركان العالم وخاصة على منطقتنا المسماة "الشرق الأوسط". الثاني: الدور الإقليمي لمصر والذي تقوم به بحكم الغريزة والموقع والتاريخ والجغرافيا. حيث تتركز أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة في منطقتنا على: - تأمين تدفق البترول - حماية الحلفاء واستقرار المنطقة وتأمين طرق المواصلات - أمن إسرائيل ووجودها المطلق - فرض نجاح عملية التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي - فرض منظومة القيم والأفكار الأمريكية والخاصة بطرائق الحياة وأنماط العيش. ويترتب على عامل الهيمنة الأمريكية في هذه الدائرة أمور تحدد موقف الولاياتالمتحدة من الدولة المصرية وهي: - تعاطي الدولة المصرية مع مصالح الولاياتالمتحدة بداية من مصر وعموم المنطقة - موقفها من إسرائيل (الأمن – الوجود – التهديد) - موقفها من عملية التسوية السلمية وما يستتبعها في التصور الأمريكي والإسرائيلي من قيام منظومة إقليمية يندمج فيها الكيان الصهيوني. إن تصور الولاياتالمتحدة لدور مصر باعتبارها أحد الدول المحورية Pivotal States في منظومة العلاقات الأمريكية (إسرائيل – السعودية – تركيا – باكستان) مبني أساسا على اعتبار محدد لمنطقة ما يسمى "الشرق الأوسط" (بما في ذلك الخليج)، أنها جزء من مسرح سياسي واستراتيجي كبير حيث تصل حدود تلك المنطقة إلى تركيا وباكستان والقرن الأفريقي وهي تعتبرها وحدة إستراتيجية واحدة تتطلب معالجة شاملة لضمان توازن قوى يتفق ومصالحها. فإذا قامت الدولة المصرية وهددت المصالح الأمريكية تهديدا جديا لا يٌحتمل، أتصور أن يكون رد الفعل الأمريكي (وذلك من تجارب الولاياتالمتحدة مع المناوئين أو ما تسميهم "الدول المارقة") هي: - سياسة الاحتواء الخارجي (إيران) - اسلوب إثارة القلاقل الداخلية من النخب غربية التوجه (الجزائر) - إثارة المشاكل الإقليمية من دول الجوار الجغرافي (السودان). في المقابل نجد أن نجاح الدولة المصرية الجديدة في تجاوز هذه "الدولة العقبة" واقتحامها أو إبطال مفعول دورها السلبي يتمثل في: 1- القراءة الصحيحة من جانب أجهزة صنع السياسة الخارجية للبيئة التي تعمل أو تنشط في إطارها وهذه البيئة ثلاثية التكوين وهي: - بيئة دولية - بيئة إقليمية - بيئة محلية داخلية. 2- واقعية ترتيب الأولويات والاختيارات النابعة من التعامل مع هذه البيئة ومن تفاعل العناصر الثلاثة المكونة للبيئة مع بعضها البعض. 3- التوازن الدقيق للمصالح والتهديدات نتيجة للإدراك الصحيح والقرارات الواقعية. 4- منع تسرب الاتجاهات السلبية داخل القطاعات المؤثرة في الرأي العام المحلي. لذلك نؤكد أن نجاح الدولة المصرية الجديدة مرهونا بحسن تعامل النخبة الحاكمة مع دوائر علاقات ثلاث ترتيبهم حسب الأهمية كما يلي: الدائرة المحلية: فعلى الدولة المصرية أن تدرك: 1- الظروف المحيطة بالمجتمع من حيث قدراته والتركة المثقلة بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية واتجاهات الأفكار والمصالح فيه. 2- تركيبة المجتمع وتعدديته الحضارية وتنوع المشارب الفكرية والثقافية. 3- حرص الاتجاهات المعارضة على فرض أنماطها الفكرية والحياتية. أما الدائرة الدولية: خاصة العلاقات مع الولاياتالمتحدة وكسب موقفها لصالح الدولة المصرية باعتبارها لن تكون تجربة إيرانية ثانية. أما الدائرة الثالثة وهي الدائرة الإقليمية فموعدنا معها في الأسبوع القادم إن كان في العمر بقية.