الأهرام:31/01/08 يخطئ من يظن أن الديمقراطية توفر الحق في الافتراء باسم حرية التعبير أو ترديد روايات لا أساس لها من الصحة, لأن الديمقراطية هي الحقيقة, وليست الأكاذيب, وهي الاستقرار وليست الفوضي.. وليس أخطر علي الديمقراطية في أي وطن من أن يجري توظيفها لتسميم الضمائر وإفساد العقول وزرع بذور الشك في النفوس وهز إيمان الناس بقوتهم وقدرتهم. والحقيقة أن بعض ما يكتب ويقال هذه الأيام أبعد ما يكون عن الديمقراطية, فلم يقل أحد إن الديمقراطية هي المدخل لتجريد الشعب من انجازاته التي أصبحت حقيقة ثابتة من حقائق العصر مع التسليم بأنه ليس هناك انجازات تخلو من سلبيات! لقد تجاوز البعض كل حدود النقد المباح ولم تعد المسألة مجرد نقد لنظام الحكم وإنما هي تصب بقصد أو بغير قصد في خانة دفع الناس إلي أزمة عدم تصديق لما عاشوه, وبالتالي افراز إحساس بالنقص والعجز واليأس والاحباط.. فليس أسوأ ولا أخطر من أن يتصور الناس أنهم كانوا يعيشون كذبة كبري! إن بعض ما يكتب ويقال هذه الأيام شئ لامثيل له من قبل عندنا أو عند غيرنا لأن أغلب ما يكتب ويقال يستهدف ضرب كل شئ إيجابي وإيجاد أجواء من الحيرة والبلبلة لدي المواطن الذي لايدري ما الذي يصدقه والذي لايصدقه, نتيجة هذه الفجوة العميقة والمخيفة من عدم الثقة ومن الشك في كل شيء وفي كل عصر! إن بعض الذين يعطون الناس الآن دروسا في الوطنية والديمقراطية لايشهد لهم سجلهم بأنهم كانوا ديمقراطيين في مؤسساتهم وهم في مواقع المسئولية.. وبعض الذين يدقون علي وتر الفساد وضرورة ضربه وملاحقته توجد علامات استفهام كثيرة حول نزاهتهم وشفافيتهم! إن من يقرأ العديد من الصحف ويتابع بعض ما يقال علي شاشات بعض الفضائيات المتخصصة في التهجم علي مصر يحار في فهم ما يقرأه وما يشاهده, حيث تبدو المسألة وكأنها عمليات رجم بالحجارة وهذه أمور تضر بأكثر مما تفيد لأنها تؤدي إلي فقدان المجتمع لتوازنه, وبالتالي افقاده القدرة علي الرؤية السليمة. إن أحدا لايمكن أن يجادل في حق الشعب في استجلاء الحقيقة بالطرق الشرعية ذات الأسلوب الهادئ وعبر الحوار الموضوعي وليس من خلال حملات مكثفة تحمل في طياتها كل مفردات التطاول والتشكيك وتفتح الباب أمام تأويلات وتفسيرات ضبابية غائمة! أريد أن أقول بصراحة إن الوطن بحاجه إلي من يحملون له المشاعل لا من يريدون ضرب وإطفاء المشاعل ثم يدفعون بنا تحت جنح الظلام إلي طريق مجهول تتوه فيه أقدامنا وربما تغوص في أوحاله, وكان الأولي بهم أن يشاركوا في المهمة الضرورية لرسم خريطة طريق تدعم أجواء الحوار الموضوعي ولاتسمح بتحول الخلاف في الرأي إلي صدام, لأن استمرار الحوار مهما تباعدت المواقف يضمن الابقاء علي درجة معقولة من الثقة المتبادلة التي هي ركيزة أساسية من ركائز الوحدة الوطنية في العمل السياسي. إن البعض يتحدث مثلا عما يسمونه يتراجع الدور المصري مع أن واقع الحال وهو شاهد لايكذب لايشير إلي شيء مما يتحدثون عنه اللهم إذا كان المقصود هو ممارسة الدور في عالم جديد بنفس أدوات ومفاهيم الماضي ودون تقدير لأن الدنيا تغيرت وتغيرت معها كل الحسابات وكل المعادلات التي تجعل من محاولة استنساخ الدور القديم دفعا إلي المجهول بكل مخاطره! وعلي سبيل المثال فإن من يتابع سلسلة الاتصالات واللقاءات العربية التي أجراها الرئيس مبارك في الفترة الأخيرة, يدرك علي الفور أن مصر معنية بالسعي لبلورة موقف عربي مشترك من أجل توفير القدرة علي التعامل الصحيح مع تحديات اللحظة الراهنة التي تعكس وجود حزمة من المصاعب والمشكلات التي لاتحتمل أي تأجيل! ومع أن هذا ليس بالأمر الجديد علي مصر التي اعتادت القيام بمثل هذه المهام في إطار التزامها بدورها ومسئولياتها القومية, لكن ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن مستجدات ومتغيرات المرحلة علي المستويين الإقليمي والعربي لم يسبق لها مثيل في حدتها وخطورتها! وإذا كان التاريخ يشهد في الماضي بدورين أساسيين لمصر في العالم العربي, هما: دور التحديث ودور التوحيد, فإن الحاضر يشهد لها اليوم بدورين أساسيين هما: حماية العقد العربي من الانفراط.. وصد واحتواء المخاطر التي دهمت العالم ودهمت الأمة العربية علي وجه الخصوص بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001. وهذا الذي تقوم به مصر يعكس مدي عمق إيمانها بمصلحتها وبالمصالح العليا لأمتها التي تتغذي وتتقوي بحقائق الإحساس بالهوية والانتماء وحسن التوظيف الصحيح لحقائق التاريخ والجغرافيا.. وقد كان للرئيس مبارك فضل إعادة البوصلة المصرية لمسارها الصحيح برغم الظروف والأجواء الصعبة التي واكبت تسلمه المسئولية عام1981, بينما كانت علاقات مصر العربية مقطوعة وممزقة لكنه أدرك حتمية الارتفاع فوق أي صغائر وفوق أي مزايدات, وطرح بوضوح خطوط فكره السياسي المرتبط بحقائق التاريخ والجغرافيا! وربما يكون ضروريا أن نتذكر أنه عقب قمة بغداد المشئومة عام1979 التي قررت تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية تعالت في مصر أصوات عديدة تطالب مصر بنزع رداء العروبة والالتفات إلي الداخل, ولكن بعد مجئ الرئيس مبارك إلي الحكم صارح الجميع بأنه لايمكن لمصر أن تنهض داخليا بعيدا عن تطورها السياسي والاجتماعي والاقتصادي من ناحية, وأيضا فإنه لايمكن لها أن تحمي نهضتها الداخلية خارج موازين القوي التي تصنعها حقائق التاريخ والجغرافيا وأهمها حقيقة الانتماء العربي لمصر من ناحية أخري! ولاشك في أن ما فعله الرئيس مبارك في هذا الاتجاه, لم يكن بعيدا عن مشاعر الغالبية العظمي من شعب مصر التي كانت تتوق إلي إمكان ترجمة هذا الانتماء القومي والانتقال به من درجة الأحاسيس والمشاعر الفكرية والتاريخية والثقافية والنفسية إلي مرتبة الإرادة السياسية المستندة إلي قاعدة اقتصادية تحمي هذه الإرادة. وربما من أرضية هذا الفهم الصحيح لضرورة ترجمة مفردات الانتماء والتوحد القومي إلي إرادة سياسية تستند إلي قاعدة اقتصادية تحمي العقد العربي من الانفراط وتبقي الشعوب العربية في دوائر الأمل والرجاء كان هذا الحيز الواسع للشأن العربي في كراسة الدبلوماسية المصرية, خصوصا علي مستوي القمة والدعوة المتكررة لإصلاح البيت العربي من الداخل عن طريق تعديل ميثاق الجامعة العربية, وتأكيد أهمية الإسراع بإنجاز حلم السوق الاقتصادية العربية المشتركة. ولعلي أستدرك منعا لأي التباس وأقول إنني لا أقصد أن أبالغ في ضخامة وأهمية الدور المصري, لأن هذه حقيقة لم تعد تخفي علي أحد, ولكنني أود فقط أن أنعش الذاكرة لدي بعض من تدهشني أقوالهم غير الدقيقة عن تراجع الدور المصري, وبما يوحي بأن مصر هي السبب في حالة العجز العربي الراهن! أريد أن أقول بصراحة ان مصر هي المحور الذي تدور من حوله حركة العمل العربي المشترك فلماذا لايقول الناقدون عن غير حق إن مصر لم يتراجع دورها, وإنما الآخرون هم الذين توقفوا بإرادتهم أو رغما عنهم عن الحركة حول المحور الذي مازال ثابتا في مكانه متمسكا بثوابته واعيا لدوره! وأظن أن الوقائع والأفعال والتطورات والتحديات التي تتراكم في الساحة العربية الآن تشهد علي صحة الرؤية المصرية التي كانت تلح علي طلب السلام في ظل أوضاع القوة العربية بعد نصر أكتوبر المجيد بدلا من الانتظار غير المبرر الذي أضاع أغلب أوراق الضغط التفاوضية, خصوصا بالنسبة للطرف الفلسطيني الذي خسر كثيرا بما طرأ من تغيرات جذرية في موازين القوي العربية والإقليمية والدولية. ولست هنا في معرض العتاب لأحد, أو إلقاء اللوم علي أحد عندما أقول إن بعض ما نشكو منه الآن من انحسار عربي لحساب المد الديني, الذي لم يعد مدا إسلاميا فقط يمثل شهادة لصحة الرؤية المصرية التي طالما حذرت ونبهت مبكرا من مخاطر الانجرار لسياسة المحاور في العالم العربي بعد دوران عملية السلام عام1979, حيث جاءت النتيجة مخيبة لآمال الأمة التي جلست تضرب كفا علي كف بعد أحداث الحرب الأهلية في لبنان, ومأساة الحرب العراقية الإيرانية, وجريمة الغزو العراقي للكويت.. وهكذا تبخرت الأحلام الوطنية والأحلام القومية ونشأ الحلم الديني كمنقذ من أوضاع الإحباط والفشل لتتوافر البيئة الحاضنة لأفكار التطرف وجماعات الإرهاب. وأقول للتاريخ وليس لمصر فقط إنه لولا صمود مصر بعد هزيمة يونيو1967 وقدرتها علي رد الاعتبار وتحقيق النصر عام1973, لما كان قد بقي من المشروع القومي شيء سوي بضعة سطور في كراسة التاريخ! هكذا ينبغي أن يتم إنصاف مصر ليس فقط من جانب أشقائها العرب, وإنما نقطة البداية من بين أهلها وذويها الذين أعمتهم حسابات ذاتية محضة فراحوا يهيلون التراب علي أعظم وأمجد أدوارها, وهو دور الحفاظ علي العقد العربي من الانفراط والذي يحسب لمرحلة حكم الرئيس مبارك. وعلي من يتشكك في صحة حرف واحد مما كتبت, أن يعود إلي القصاصات والملفات التي تسجل وضع مصر العربي قبل مجيء الرئيس مبارك وبعد مجيئه! *** لقد أصبح الدور المصري محددا وواضحا ومرتكزا إلي ثوابت أساسية أهمها: ان مصر تبني علاقاتها الدولية ارتكازا علي فلسفة التوازن التي لاتسمح باستدراجها نحو الخصام والتناحر مع أحد وإنما تسعي وبكل الموضوعية إلي تعزيز منهج الحوار والتعاون مع الجميع, مهما بلغت درجة التباين في وجهات النظر خصوصا مع الأشقاء والأصدقاء. ان استقلالية القرار المصري خط أحمر وحقيقة لايملك أحد قدرة التشكيك فيها, وكل ما تتخذه مصر من سياسات وقرارات وخطوات تنبع من ارادة وطنية خالصة ورؤية قومية واضحة, والدليل علي ذلك موقفها التاريخي من مأساة الشعب الفلسطيني في غزة وإقدامها علي فتح المعابر دون انتظار إذن من أحد! ولعلي أشير هنا إلي نقطة أساسية كان ينبغي علي الجميع أن يستوعبوا معناها وأن يدركوا مغزاها, وأعني ذلك عفة اللسان ورقي الخطاب السياسي والإعلامي والذي أصبح سمة أساسية وبندا واضحا من بنود منهج الحكم في عصر مبارك في التعامل مع الأزمات والقضايا, خصوصا أزمات وقضايا الداخل, فأي مراقب منصف ومحايد لابد وأن يشهد بأنه مهما بلغ الشطط والانفعال بأي فرد أو جماعة فإن الرد عليه ينطلق من ايمان لا يتزعزع بأننا جميعا أبناء وطن واحد مهما اختلفت المواقع في الحكم أو المعارضة. بل انني أستطيع أن أقول ما هو أكثر من ذلك وأن أنعش ذاكرة البعض بأن مبارك هو الذي حرص دائما علي وجود الرأي والرأي الآخر واحترام الرأي المعارض مهما شط أو احتد, فالتعارض في الرأي يمثل بالنسبة لمبارك ظاهرة صحيحة في إطار الفهم الصحيح لمعني الديمقراطية الحقيقية التي تصنع الحياة وتعزز الاستقرار وليس ديمقراطية الفوضي والأهواء التي ترتكز إلي تغييب متعمد للحقائق وخلط معيب للأوراق وتمثل مدخلا غير مأمون لتقويض البناء وتخريب ما أنجزه الشعب علي مر السنين. ثم أقول في النهاية إن الخطر كل الخطر أن يؤدي العمي عن الرؤية الصحيحة إلي الانزلاق بوعي أو بدون وعي في لعبة الغزل الرخيص مع بعض القوي الكارهة في الداخل خصوصا تلك التي يشهد عليها سجلها بأنها عرضت نفسها مرارا وزايدت علي أمنها مرات ومرات وأدعت لنفسها الحق في أن ترفع رايات مضللة باسم انقاذ مصر.. مع أن الانقاذ الحقيقي لمصر يكمن في سرعة الخروج من هذه العباءة المزيفة! وليس انصافا أن يزعم البعض أن مصر قد تراجع دورها وأن يصل التجني علي الحقيقة إلي حد الزعم بأن استقلالية القرار باتت محل شك! وكم أتمني علي الذين يغالطون الحقيقة أن يعتبروا هذه السطور بمثابة رسالة مفتوحة, وليتهم يدركون أهمية الاحتياج للاتفاق كنقطة بداية علي مسألة بديهية خلاصتها أن أول مفتاح لفهم أي موقف سياسي هو مفتاح المعرفه الكاملة لطبيعة المرحلة وطبيعة الظروف التي ربما تساعدهم علي الرؤية الصحيحه لجوهر الأشياء وبالتالي عدم التوقف طويلا أمام الشكليات! وأظن أنه من العيب.. بل ومن العار أن يقال إن مصر تعاملت مع أزمة قطاع غزة في اطار البحث عن بقايا دور عربي ضاع منها وتأمل في استرداد جزء يعيد لها هيبتها الخارجية ويرمم تصدعات داخلية.. لأن الكل يري بوضوح أن هيبة مصر محفوظة ومصانة وأن دورها العربي لم يغب لحظة واحدة لأنه قدر لانملك منه فكاكا, أما أقاويل التصدعات الداخلية فإنها مجرد أوهام في نفوس مريضة لا تستحق عناء الرد عليها! *** ثم لا أجد في ختام هذه السطور شيئا يعزز ما أقول به سوي مقولة تاريخيه للمؤرخ المصري العظيم جمال حمدان: إن ريادة مصر للعرب قدر لاتملك الفكاك منه, وإن هذه الريادة لاتعني طبقية اقليمية داخل العروبه وإنما تعني أولوية بين أكفاء ثم إنها ليست تشريفا أو تخليدا ولكنها تكليف وتقليد... تكليف من الجغرافيا وتقليد من التاريخ. وفي اعتقادي أن جمال حمدان كان يريد أن يقول لمن يظهرون بين الحين ليتحدثوا عن فرعونية مصر أو لأولئك الذين ينسبون أرض الكنانة لأفقها الشمالي في البحر المتوسط وأوروبا أو لمن لايعرفون قدر مصر ويطالبونها بالانكفاء علي نفسها إن ما تقولون به ظاهره الرحمة وباطنه كل العذاب, لأن قيمة وأهمية مصر في موقعها وتاريخها وجذور انتمائها ودوائر اهتمامها وفي المقدمة من كل ذلك البعد العربي الذي يجمع بين الموقع والتاريخ والعقيدة والانتماء! وإذا كان الموقع الجغرافي يشكل العامل الرئيسي في توجهات وسياسات أي وطن فإن الموقع الجغرافي لمصر يمنحها وزنا عربيا مهما ومؤثرا لأن مصر هي همزة الوصل بين آسيا العربية وإفريقيا العربية, فضلا عن أن مصر تعد من الدول العربية القليلة التي ليس لها حدود مع غير العرب, وبالتالي فإن مجالها الحيوي مجال عربي بالكامل. ونتيجة لهذا الوضع الجغرافي الفريد لمصر فقد كان تعاملها وتفاعلها الأوسع علي طول التاريخ مع العرب والعروبة, كما أن مصر لم تعرف المؤثرات الأجنبية القوية التي تعرضت لها أطراف العالم العربي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في شكل حملات التعجيم في منطقة الخليج أو دعوات التتريك في سوريا ولبنان! بل إنه يمكن القول باطمئنان إن مصر ربما تكون هي الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في امتصاص واستيعاب عناصر وعينات من جميع الشعوب العربية دون أن تتأثر تركيبتها الديموجرافية, فقد اندمج وذاب في صفوفها شوام وخليجيون وليبيون وسودانيون ومغاربة من تونس والمغرب والجزائر عندما حطوا برحالهم في مصر واستوطنوها إلي الأبد! والحقيقة ان مصر التي أشار الراحل العظيم جمال حمدان إلي ريادتها قبل عشرات السنين هي التي يقول التاريخ عنها منذ مئات السنين إنها كانت دائما تتحمل المسئولية الرئيسية في الدفاع عن قضايا أمتها العربية بدءا من التصدي للتتار والصليبيين ومرورا بسنوات الاستعمار الأوروبي ووصولا إلي دورها المستمر حتي اليوم دفاعا عن حق الشعب الفلسطيني في مواجهة الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية الشرسة! والتاريخ أيضا يشهد بسجلاته وصفحاته بأن مصر كانت دائما بمثابة الملجأ والملاذ وخط الدفاع الأخير عن الوجود والهوية والتراث العربي, وقد برز ذلك بوضوح في أصعب الأزمات وأحلك اللحظات بدءا من احتضانها الدافئ لآلاف العلماء والصناع والحرفيين العراقيين الذين فروا من طوفان الغزو المغولي قبل عدة قرون ووصولا إلي المشهد الراهن الذي تحتضن فيه مصر آلاف اللاجئين الذين فروا من العراق قبل عدة سنوات إثر سقوط بغداد أمام جحافل الغزو الأمريكي... وفي ذات المشهد الراهن رأت الدنيا كلها وليست الأمة العربية وحدها كيف فتحت مصر حدودها لفك الحصار الظالم عن الشعب الفلسطيني في غزة برغم مايحمله ذلك القرار التاريخي من مخاطر ومحاذير جري التعامل معها بأولويات إنسانية وقومية في المقام الأول. وعندما أطالع اليوم وأتابع اهتمام مصر ورئيسها ببذل أقصي الجهد من أجل توفير الدعم والحماية للشعب الفلسطيني والعمل بكل الطرق والوسائل الممكنة لتجنيب لبنان مخاطر فتنة داخلية محتملة.. أشعر بأن مصر مازالت علي الطريق الصحيح وأن من فضل الله عليها أن يتولي زمام أمورها من يعرف قدرها ويحسن ببراعة استخدام مفاتيح مصالحها المرتبطة ارتباطا وثيقا بأمن واستقرار أمتها العربية. ولست أتجاوز الحقيقة إذا قلت إن مصر سوف تظل قوية طالما احتفظت في أيديها بأوراق قوتها بعيدا عن دعوات الانكفاء والانعزالية أو شعارات إيثار السلامة والدعوة إلي الأنانية الذاتية. والتاريخ يشهد بأن مصر لم تكن يوما دارا مغلقة وانما كانت علي الدوام منتدي مفتوحا للثقافة والفن والفكر والأدب والعلم والسياسة الذي يخدم هدف إبقاء راية العروبة مرفوعة خفاقة. فمصلحة العرب مع مصر ومصلحة مصر مع العرب.. وعلي الجهلاء الذين لم يقرأوا التاريخ جيدا أن يتوقفوا عن اللغو!