كأن مصر ليس فيها شىء أهم من جدو ومسلسلات التليفزيون. ذلك أن أخبار السيد جدو أصبحت تمثل مكانا ثابتا على الصفحات الأولى. أما المسلسلات فهى الموضوع الأساسى على الصفحات الداخلية. وكل ما عدا ذلك يظل من الحواشى الأقل أهمية. صحيح أن هناك فرقعات عارضة تهتم بها الصحف، أحدثها حادث سرقة لوحة فان جوخ «زهرة الخشخاش»، والاتهامات المتبادلة بهذا الخصوص بين وزير الثقافة ووكيل الوزارة الأول المحبوس حاليا، إلا أن مثل هذه الحوادث تشكل استثناء لا قاعدة. أدرى أن كرة القدم لها جمهورها العريض والمهووس بها. وأن ثمة جيلا يحفظ أسماء ونجوم الفرق الكبرى فى العالم ويعرف اللاعبين فى الفرق المصرية واحدا واحدا، لكن هذا الهوس بحد ذاته يحتاج إلى تفسير سواء فى الجمهور أو الصحف التى تنطلق منه. أدرى أيضا أن المسلسلات أصبحت الشاغل الرئيسى للناس فى شهر رمضان، وأن الاهتمام بها والانقطاع لها فاق بكثير الاهتمام بالعبادة وما ينبغى أن ينشغل له المسلمون فى شهر الصيام. لكن ما لا أستطيع أن أفهمه وأستوعبه هو أن تنتقل تلك اللوثة إلى الصحف، فتجعل من تحركات جدو وقضاياه ومشكلاته مادة يومية تحتل مساحات واسعة، بما يفرض على القارئ تفاصيل لا تهمه فى قليل أو كثير، كما تجعل من أحداث المسلسلات ونجومها موضوعا شاغلا للرأى العام، بل وتصور أولئك النجوم باعتبارهم «مراجع» ليس فى الفن فقط، وإنما فى شئون السياسة والاجتماع أيضا. فى تفسير تلك اللوثة أزعم أن المنافسة بين الصحف لها دورها فى السباق، الذى يدفعها إلى المزايدة على اهتمام القراء بالأمور والنجوم التى يتعلق بها. وهى منافسة دفعت صحيفة كالأهرام لها رصيدها من الاحترام والاحتشام إلى تخصيص ملحق أسبوعى للتليفزيون، وملحق داخلى كل يوم سبت للفنون وفى المقدمة منها مسلسلات التليفزيون، ذلك إلى جانب الاهتمام الزائد بالرياضة وأخبار نجوم الكرة ومبارياتهم فى داخل مصر وخارجها. وما حدث مع الأهرام تكرر مع غيرها، بما فى ذلك صحيفة «الشروق» التى أصبحت صفحات الرياضة فيها ثلاثة أضعاف مساحة الرأى، الذى يعتبر إحدى الإضافات المهمة التى قدمتها الجريدة. هناك سبب آخر عام يتمثل فى حالة الانكفاء على الذات التى تعيشها مصر فى الوقت الراهن. ذلك أن انسحاب مصر السياسى من العالم العربى استصحب تلقائيا نوعا من الانسحاب الإعلامى. ومن ثم أصبحت الأخبار الداخلية هى المهيمنة على الصحفات الأولى من الصحف، بما يعطى للقارئ انطباعا بأنه لا شىء يهم فى العالم الخارجى. وربما كان الأدق أن تقول إن اهتمام الإعلام المصرى صار منصبا بالدرجة الأولى على الداخل، بحيث لم تعد منابره تتطرق إلى ما هو خارجى إلا إذا اتصل بالتحركات أو الحسابات المصرية، حتى إن بعض الدول لم تعد تذكر فى الصحافة المصرية إلا إذا زارها الرئيس مبارك. من أسباب الاستسلام لتلك اللوثة شيوع التراجع المهنى، بحيث أصبحت الصحف أحرص على دغدغة مشاعر القراء بأكثر من حرصها على الأخذ بيدهم وقيادتهم. إن شئت فقل إنها تنزل إليهم ولا تصعد بهم. وقد تعلمنا فى بواكير عملنا فى المهنة أن الصحافة لها مهام ثلاث هى: الأخبار والترويح والتعليم. والملاحظ أن صحافتنا تقدم الترويح على أى مهمة أخرى، فى حين تراجعت مهمة الأخبار التى أصبحت فى الأغلب أخبارا عن الحكومة، واختفت تماما مهمة التعليم، وهذا التراجع المهنى راجع إلى حد كبير إلى ضعف أغلب القيادات الصحفية، التى يتم اختيارها فى الصحف القومية لأسباب أمنية وليست مهنية أما الصحف الخاصة التى يصدرها رجال الأعمال فى الأغلب فإن اختيار قياداتها يتم انطلاقا من معايير تناسب أصحاب رءوس الأموال، وجميعهم من خارج المهنة. وهؤلاء وهؤلاء أعجز من أن يقدموا نصرا صحفيا، ويعتبرون أن الترويح من خلال الفنون والرياضة هو الوسيلة المضمونة لجذب القارئ وزيادة التوزيع. السبب الرابع والأهم فى رأيى هو موت السياسة فى مصر، الأمر الذى أدى إلى حدوث فراغ فى المجال العام. وفى غياب الحيوية السياسية يتراجع اهتمام القارئ بالشأن العام، وتضعف الحيوية الصحفية، وتصبح السلطة هى المصدر الأساسى للأخبار. وقد قلت ذات مرة إن السياسة فى مصر أصبحت هى الرئاسة، حيث لم تعد هناك سياسة خارج محيطها. وسمعت من أحد أساتذتنا فى المهنة قوله إن مصر أصبحت دولة مستهلكة للأخبار وليست منتجة لها. وأن ذلك أضعف الصحف كما أضعف القارئ أيضا. إن الصحافة ستظل عليلة طالما لم يبرأ الوطن من العلل التى تكاثرت عليه. وهى من هذه الزاوية تصبح مرآة للواقع، وتغدو تعبيرا أمينا عن اعوجاج الحال. من ثم فما لم ينصلح حال الوطن فإن مستقبلا بائسا ينتظر الصحافة والصحفيين. وما نزوح الصحفيين الراهن إلى التليفزيون إلا بعض إرهاصات ذلك البؤس، الذى يؤذن بانقراض المهنة.