في أوقات كثيرة. يصبح الفن الجميل. وخاصة الغناء والطرب هو البلسم.. بالتخفيف عن النفس وسط هجير حياتنا المتخمة بالمشكلات في ظل انفجار إعلامي حول سهرات الناس أمام التليفزيون والفضائيات إلي متابعات ساخنة وملتهبة ما بين أزمات واحتجاجات وحوادث قتل وترويع وصراعات سياسية وحزبية. ومشكلات يومية لا تتوقف! وسط هذه المتابعات الفضائية المعتادة التقطت أذناي وعيناي أغنية رومانسية رقيقة للمطربة "أليسا" التي نجحت بفنها الجميل أن تدغدغ مشاعر الناس في أمتنا العربية الغارقة في بحر هائج من المشكلات والهموم. جاءت أغنية اليسا الأخيرة بالكليب الغنائي تصور أرق المشاعر الإنسانية لفتاة تستعد في ليلة العمر لتزف إلي عريسها.. عنوان الأغنية وكلماتها رقيقة مؤثرة بصوت "أليسا الملائكي": "ألبس لك الأبيض".. تقصد فستان الزفاف.. حلم كل فتاة يكبر معها منذ نعومة أظافرها وتفتحها للحياة.. يظل يطاردها هذا الحلم الجميل. حتي ولو أبدت غير ذلك من مظاهر خادعة أو تقلدت أعلي المناصب. ولكنها لم يسعدها حظها بنيل هذا النصيب الإنساني الباعث للحياة. بصراحة لقد ارغمتني هذه الأغنية الرقيقة أن أتذكر أغاني أخري علي نفس المنوال ولكن من زمن ماضي ربما يعود إلي ثلاثين أو أربعين عاما من الزمان. لا شك علي مستوي التطور التقني في أساليب الغناء والتوزيع الموسيقي حدث تطور هائل.. وكذلك حدث مثله في منظومة حياتنا بين تعليم للفتيات وإقبال شديد منهن علي مقاسمة الرجل أو الشاب في العمل والتنافس معه في اقتناص الوظائف وفرص العمل المتاحة بل وتقلد المناصب الكبري في المؤسسات والشركات وأيضا بعض المناصب الوزارية ومقاعد مجلس الشعب. ولكن علي الجانب الآخر ماذا كان تأثير ذلك علي الفتاة والمرأة نفسها في الحياة الإنسانية ودورها الطبيعي في الحياة كزوجة وكأم تربي الأبناء وتشارك في تقويم سلوكهم كأفراد صالحين في المجتمع. لن أتحدث عن سلوكيات سلبية كثيرة انعكست علي النشء والشباب في المجتمع كلنا يلحظها الآن في كل مكان في الشارع وأمام المدارس والمواصلات العامة وجرائم كثيرة دخيلة علي مجتمعنا ربما يدخل سوء التربية كأحد عناصرها. ولكن سأتحدث عن الخسارة الإنسانية التي حدثت للفتاة المصرية وزيادة نسبة العنوسة بين فتيات مصر إلي أرقام غير مسبوقة وفقا للتقارير الرسمية لأجهزة عديدة في حكومتنا وقد تعدت الأرقام المفزعة إلي أكثر من عشرة آلاف فتاة عانس فاتها قطار الزواج. وضاع حلمها ولم يعد بمقدورها أن تلبس الأبيض وغطي السواد نفسها وأنفس أهلها الذين قد يتركونها وحدها بعد غيابهم تعاني مرارة الوحدة وشرور الحياة وهمومها. كثيرا ما اسأل نفسي سؤالا صريحا منطقيا يسأله كثير من الناس لأنفسهم: أيهما أفضل للأسرة المصرية بأسرها في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية ضاغطة تشح فيها فرص العمل: هل من الأفضل أن تستحوذ فتاة علي فرصة عمل متاحة أمام شاب في مقتبل حياته لتكون فرصة العمل هذه من نصيبها مقابل أن يبقي هذا الشاب عاطلا وبالتالي يعزف عن الزواج لعدم القدرة علي الانفاق وتبقي أيضا هذه الفتاة "عانسا" رغم حصولها علي هذه الوظيفة؟ أم من الأفضل أن يحصل الشاب علي فرصة العمل هذه ويكون بمقدوره الزواج من تلك الفتاة التي لا تعمل وأن يقتسما الحياة معا في عش زوجية يرضيان فيه باللقمة الحياة كما كان حال مجتمعنا في الماضي قبل أن تتمرد فيه المرأة علي مسئوليتها الإنسانية والاجتماعية كزوجة وكأم وتنافس الرجل في العمل وتشاركه في لقمة عيشه ورزقه لدرجة تجعله عاطلا تتوقف معه الحياة وأيضا حياة تلك الفتاة التي تصير عانسا.. وقد تهاوي المعبد علي رأسهما معا.. وأصبح عنوان مجتمعنا الأبرز هذه الأيام: بطالة الشباب وعنوسة الفتيات! * * * أدرك تماما أن مثل هذا التفكير والمنطق قد يكون صادما لكثيرين من دعاة التنوير ومناصرة حركة المرأة وحقها في العمل.. ولكن بالله عليكم أيها السادة: هل يرضيكم حجم البطالة الهائل الآن بين الشباب.. وطوابير الاستغلال والاتجار بالشباب في الوظائف الوهمية والأعمال الهامشية حيث يطاردك شاب الآن وسط الشوارع بمجموعة سلع هامشية وهو يردد كلمات محفوظة من شركات الدعاية والتسويق لعلك تتعاطف معه وتشتري سلعا أنت لست بحاجة إليها لكي يحصل مثل هذا الشاب علي عمولة أو راتب ضئيل يعينه علي بعض متطلبات الحياة؟! للأسف إن مجتمعنا يمر بظروف اقتصادية واجتماعية صعبة تقلصت فيها فرص العمل إلي حد كبير خاصة في ظل زيادة سكانية هائلة "مقلقة" علي حد تعبير رئيس الوزراء مؤخرا وقد صار تعدادنا 85 مليون نسمة وفشلت جهود وزيرة الأسرة والسكان الجديدة وكأن الناس يتحدون سياسات الحكومة وخططها في الترشيد والتنظيم سواء في المشكلة السكانية أو في غيرها وكأننا أصبحنا مجتمعا ضد نفسه. لا شك نحن الآن في ظروف اقتصادية واجتماعية ضاغطة تحتاج حلولا غير تقليدية.. وتحتاج إلي أساليب مضنية لابد أن تعلو فيها هيبة الدولة وسيطرتها حتي يستطيع أن يعبر مجتمعنا هذا النفق الصعب من الأزمات والمشكلات.. وأظن أننا سبق أن فكرنا في مسألة تخلي المرأة عن عملها مقابل نصف الأجر وفكرنا في أن يحل الابن محل أبيه في العمل مقابل المعاش المبكر.. وفكرنا في المستشارين الكبار الذين يملأون الدواوين والمصالح الحكومية وقد تخطوا السن القانونية في الخروج إلي المعاش؟ لكننا نفاجأ الآن بقانون جديد في التأمينات والمعاشات يبقي العامل في الوظيفة حتي سن الخامسة والستين!! ألم أقل لكم إننا كثيرا نكون ضد أنفسنا وضد المنطق وضد مصلحة المجتمع؟! باختصار.. مشكلاتنا الاقتصادية الاجتماعية بحاجة لحلول غير تقليدية حتي نستطيع أن نستمتع ولا نتألم علي الأقل حينما نستمع إلي أغاني الأفراح والليالي الملاح التي ندرت في حياتنا هذه الأيام! * * * الإعلام.. وتضخيم الحوادث الفردية أمر غير منطقي أن يسلط الإعلام الضوء علي حوادث فردية في مجتمعنا كأن يقتل رجلا زوجته أو موظف زميلا له أو أكثر ويصبغ علي مثل هذه الحالات مهما تعددت صفة الظاهرة ويصور المصريين جميعا علي أنهم صاروا قتلي ومجانين أو مرضي نفسانيين -علي الأقل- يحتاجون إلي العلاج! يا سادة مصر الآن 85 مليون نسمة ولو وقع بنسبة واحد في المائة منهم حوادث غير مبررة- أي 850 ألف حالة فإن هذا العدد رغم ضخامته لا يمثل أكثر من واحد في المائة من تعداد المصريين فما بالكم إذا كان عدد الحالات المسلط عليها الأضواء هذه الأيام خمس أو عشر حالات علي الأكثر. يبدو أن الإعلام التجاري الواسع وكثرة البرامج وتعددها مضطر لأن يجعل من الحبة قبة كما كان يقول لنا الأساتذة والرواد في هذا المجال..!!