انعقدت القمة الخماسية المكلفة من القمة العربية الأخيرة بإعداد تصور حول تطوير منظومة العمل العربي المشترك، هذا الأمل الذي راود العديد من المهتمين بهذا الشأن منذ عام 1987 عندما شكلت لجنة عربيه لنفس الغرض برئاسة الأستاذ سليم الحص رئيس وزراء لبنان الأسبق ورئيس المنظمة العربية للشفافية ومناهضة الفساد حاليًا.. وفي تصوري فإن توصيات تلك اللجنة التي بقيت حبيسة الأدراج في كواليس أمانة جامعتنا العربية العتيقة كانت هامة جدًّا، لو وجدت من يعمل ويحث على تنفيذها في الأمانة العامة مع ضرورة إيمان أصحاب القرار العربي من عرب وغير عرب بأهمية ذلك، وليكن عندهم يقين بأن تطوير العمل العربي المشترك لن يتعارض مع مصالحهم الذاتية والوطنية وأن التكامل العربي سيؤدى إلى سهولة التنسيق مع العرب على المستوى العالمي اقتصاديًا وسياسيًا.عمومًا، اجتمعت اللجنة الخماسية على المستوى الوزاري وعلى مستوى القمة، وظهرت لنا وسائل الإعلام بحديث خجول جدًّا لأخينا الفاضل الأستاذ عمرو موسى، الذي تحدث عن مجموعة من النقاط سيتم دراستها وتقديم مقترح بشأنها إلى مؤتمر القمة الاستثنائي القادم قبل نهاية هذا العام.وتسربت من خلال وسائل الإعلام أخبار من داخل أعمال لجنة القمة أن هناك خلافًا في الآراء، أو إن صح التعبير هناك رأيان، أحدهما يرى السير في التغيير تدريجيًا مع الإبقاء على مسمى الجامعة العربية، والرأي الآخر متسرع، يرى أن نبدأ فورًا بإجراءات إعلان الاتحاد على نمط ما حدث في منظمة الوحدة الأفريقية.والقارئ العربي يعلم جيدًا من وراء كل من هذين الرأيين، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرأي المؤيد لقضية التدرج قد يكون الأصوب، ولكنه في نفس الوقت هو الرأي الذي وأد خطة التطوير في عام 1987م.والسؤال هنا: هل التدرج سيكون بجدول زمني محدد مدروس يتم الالتزام به أم سيترك هكذا ليُنسَى ويلحق بغيره من المقترحات التطويرية في ملفات الجامعة العربية سابقًا.في بعض الأحيان ينتاب الإنسان شعور بأن التأجيل والتدريج وتشكيل اللجان للدراسة أصبحت وسائل مقنعة شكلاً، أما الغرض منها على رأي إخواننا في مصر "فركشة الموضوع".والرأي الثاني الذي يطالب بالإجراء الاتحادي الفوري حتى وإن كان شكليًا ليسجل التاريخ المبادرة، وتبدأ البهرجة الإعلامية تتفاخر بالإنجاز العظيم الذي واقعه شكلي، وهو ورقي هش جدًّا جدًّا، ولا يملك في طياته خطوات تنفيذية في المضمون تحول هذا الشكل الاتحادي إلى واقع ملموس يلمسه المواطن العادي وينعم الفرد والأسرة بخيراته من المحيط إلى الخليج؛ لأن أي خطوة حقيقية في مضمون الاتحاد ستؤدي إلى إنقاص ما يسمونه السيادة الوطنية، والتي هي في الواقع سيادة أنظمة وأفراد وليست سيادة شعوب؛ لأن الشعوب متحدة ولا يعرقل استمرار وتطوير اتحادها إلا أنظمتها وسيادتها الفردية التي تتغلّف بثوب وطني.ومن خلال هذا الواقع المرير وبكل الحب والإخلاص لهذه الأمة ولهذا الوطن استعرض بعض من الرؤى التي أرى فيها خطوات صادقة صحيحة لنقلة حقيقية للواقع المأساوي للعمل العربي المشترك في هذه الوقفات الهامة، التي أرى أنها أمثلة ليست على سبيل الحصر من أجل تفعيل التضامن العربي؛ لأنها الأهم:الوقفة الأولى:على النظم العربية أن تقتنع قناعة تامة بأنها تدريجيًا ووفقًا لجدول زمني محدد متفق عليه ستنقل البعض مما يسمونه السيادة الوطنية لتمارسه من خلال السيادة القومية من داخل تواجدها في مؤسسات الاتحاد التي يتم منحها صلاحيات وسيادات قومية مستقطعة من كل السيادات الوطنية في الدويلات العربية وأن لا يكون ذلك فقط في ميثاق الاتحاد بل يُنص عليه في دساتير الدول العربية المكونة للاتحاد، ويتم التأكيد في هذه الدساتير الوطنية على أن الاتحاد يمثل في سيادته القومية جزءًا لا يتجزأ من السيادة الوطنية لكل دولة، وأن السيادة الوطنية تمثل جزءًا مهمًّا للسيادة القومية، وأن كلاًّ منهما يكمل الآخر.وأعني هنا أن يوضع برنامج زمني تنفيذي للتكامل العربي وبناء مؤسسات الاتحاد وصلاحياتها التي يتم ممارستها من قبل مفوضيات الاتحاد.وهنا تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة وهى القيادات التي يتم اختيارها للمواقع القيادية والعاملين في مؤسسات الاتحاد، صحيح أن نتيح الفرص لكل الدول العربية ولكن لا نتركها كما حدث ويحدث الآن في الجامعة العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك، فالدول ترشح أصحاب الواسطة والمحسوبية والمقربين للنظام ولا يرشحون كفاءات، وبالتالي فإن الاتجاه الصحيح هو أن يعلن عن الوظيفة بمسماها والمواصفات المطلوبة لمن يتقدم لها وأنها من نصيب الدولة "س" ويتم قبول الطلبات وتجرى المقابلات من لجنة متخصصة موثوق فيها يتم اختيارها من المجلس القانوني للاتحاد، وتفرز ثلاثة مرشحين يعرضون على الدولة "س" لترشيح أحدهم، وبالتالي نكفل إلى حد كبير كفاءات جيدة لإدارة عمل مؤسسات الاتحاد.الوقفة الثانية:أن اقتراح مجلس تنفيذي من رؤساء الحكومات حلقة جديدة ستزيد الأمور تعقيدًا، وهنا أقولها بصراحة لا يوجد لدى العرب رؤساء وزراء فعليين لهم صلاحيات تنفيذية مثلما هو موجود في دول العالم الأخرى، إلا إذا استثنينا دولة أو اثنين على الأكثر، أما الباقي فهم منسقين بين الوزراء ورئاسة الدولة ومراكز القوى المقربة من رأس الدولة، وعليه فإن وجود حلقة رؤساء الوزراء في مجلس تنفيذي لا معنى لها، وإذا كنا جادين فيفترض فيها أن تستبدل بوزراء لشئون الاتحاد مفرغين في حكوماتهم لهذا العمل ويمارسون عملهم داخل مجالسهم الوزارية في أوطانهم ومن خلال مندوبيات الدول في القاهرة بحيث يتولَّون الصلاحيات الممنوحة الآن للمجلس الاقتصادي والاجتماعي ولمجلس وزراء الخارجية العرب في جزئية الإشراف على مؤسسات العمل العربي المشترك وتمارس المجالس الوزارية أعمالها النوعية في الخارجية والاقتصاد والاجتماع وغيرها، وبالتالي سنحقق وجود مسئولين عرب متفرغين لهم صلاحيات كوزراء داخل حكوماتهم ويمارسون عملهم القومي من خلال عضويتهم بالمجلس التنفيذي للاتحاد، ويمكن لدولنا العربية أن تختارهم من رؤساء الوزراء السابقين في الدول العربية وهم- والحمد لله- كثيرون.الوقفة الثالثة:أن نبدأ بالمستقبل بحيث تكون لنا رؤى تعليمية وتربوية قومية واحدة، ونؤسس مؤسسة عربية لتوحيد المناهج التعليمية والتربوية من مرحلة رياض الأطفال إلى الجامعات مرورًا بجميع مراحل التعليم وبرامج التربية والتنشئة الاجتماعية للجيل الجديد، وهذا العمل يعتبر اللبنة الأولى الأساسية التي تبني جيلاً في المستقبل يتحدث لغة ثقافيه واحدة وتربية قومية وأهداف ومبادئ واحدة.وأتذكر أن المرحوم محمد مزالي الوزير الأول في تونس عام 1979 عندما افتتح مؤتمر وزراء الشئون الاجتماعية العرب قدم عرضًا لكيفية أن نبدأ ببرامج تربوية لتنشئة الجيل القادم بثقافة اجتماعية قومية واحدة تجعل منه في مدة لا تزيد عن خمسين عامًا جيلاً ينتمي للأمة العربية قويًا بإيمانه وبالعمل من أجل نهضة أمته.الوقفة الرابعة:أعلم ويعلم الكثير من القريبين من العمل العربي المشترك الجهود الصادقة التي بذلت من أجل إظهار التكامل الاقتصادي حتى في أبسط صوره، ومنها ما بذله الأستاذ الدكتور أحمد جويلي أمين عام مجلس الوحدة الاقتصادية ، لتحقيق حلم السوق العربية المشتركة التي ولدت ميتة وسيظل تحقيقها وتحقيق التكامل الاقتصادي العربي ضربًا من ضروب المستحيل؛ لأن مصالح المحتكرين للأسواق المحلية ودولاب الاقتصاد الوطني في كل دولة- لهم علاقة وطيدة بمصادر القرار السيادي في الدولة الوطنية، إن لم يكونوا هم نفس الأفراد سواء عن طريق أبنائهم أو المقربين منهم، وبالتالي فإن إنشاء السوق العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي العربي لن يتحقق إلا إذا استطعنا أن نقدم شكلاً من أشكال التكامل الاقتصادي لا يجعل هؤلاء يخسرون ما يجنونه من احتكاراتهم الاقتصادية المحلية، وأن لا يتضررون من هذا التكامل وهذه السوق، كما أن الدول الكبرى المسيطرة على الاقتصاد العالمي ترغب أيضًا في استمرار تفتت الاقتصاد العربي إلا إذا رأت في هذا التكامل مصلحة اقتصادية لاقتصادياتها القومية!وعلينا إذًا- عن طريق مفكرينا الاقتصاديين وحكمائنا العرب واقتناع أصحاب السيادة وأصحاب القوة الاقتصادية العالمية- أن نبدأ بخطوات جادة لإلغاء الازدواج الضريبي ونسمح بانسياب البضائع المصنعة عربيًا بيننا وبين بعضنا البعض، وكذلك ننظم انسياب رأس المال العربي ونؤسس مؤسسات مالية عربية لتقديم التسهيلات الائتمانية للمشاريع الاستثمارية العربية ونضع قواعد مشددة لضمان الاستثمارات العربية في الدول العربية ومكافحة الفساد الذي له علاقة بتسهيلات الاستثمار العربي العربي، ونشجع استثمارات الأفراد والشركات وندعم ونقوِّي المؤسسة العربية لضمان الاستثمار.الوقفة الخامسة :إنشاء منظومة عربية للمعلوماتية تجمع فيها كافة المعلومات الاقتصادية والاجتماعية للدول العربية بما فيها معلومات السجل المدني وإدارات الجوازات والرقم الوطني للمواطنين العرب في كل الدول العربية بجميع فئاتهم ويركز في هذه البيانات على ما يلي:1- الأفراد وبطاقاتهم وجوازاتهم وبياناتهم الشخصية بالكامل.2- الإنتاج الزراعي والصناعي لكل دولة وبيانات مؤسسات الإنتاج فيها.3- خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.4- حركة التصدير والاستيراد وبيانات الأنظمة الاقتصادية والتجارية والجمركية.5- العمالة الوطنية وتخصصاتها وعدد ونوع العاطلين عن العمل من حيث الجنس والتخصص.من خلال هذه البيانات وغيرها تستطيع مؤسسات العمل العربي المشترك أن تنشئ إدارة موحدة للجوازات تنظم التنقل للعرب بين الدول العربية، وقد تمنح صلاحية منح التأشيرة العربية لغير العرب في المستقبل، ونكفل من خلالها انسياب المعلومات وتوفرها في مركز عربي للبيانات تكون في عضويته- بوضوح وصراحة- كل أجهزة المخابرات العربية ومتخصصو المعلوماتية العرب لإدارة هذا الجهاز بشكل عربي يخدم حتى التنسيق المخابراتي والأمني العربي ويخفف من الهاجس الأمني الذي يعرقل قيام رجال أنظمتنا بالقيام بخطوات تكاملية عربية من خلال التخوفات التي تصلهم من التقارير الأمنية والأسباب المصلحية الذاتية الاقتصادية الأخرى السالف الإشارة إليها.ولو أردت أن استمر في الوقفات لوصلت إلى أكثر من عشر وقفات أخرى، ولكنني أكتفي بهذه وأختم بأن إرادة الشعوب في التكامل متوفرة ولا ينقصنا إلا إرادة صادقة ممن يجتمعون ويعلنون عن التكامل العربي، فهم الذين في يدهم القرار، وهم الذين لا يرغبون في التنفيذ لأنهم مستمرون في تعويم وتسويف الموضوع، ولا ألوم البعض منهم لأن قرارهم ليس في أيديهم بل في أيدي القوى العالمية سواء الإدارة الأمريكية وفرعها بالشرق الأوسط "الكيان الصهيوني"، أو إدارة الاتحاد الأوربي أو روسيا وحتى الصين الآن، وكل هذه القوى ليس من مصلحتها أن يتحقق أي شكل من أشكال التكامل العربي الجدي أو حتى الخطوات التي توصلنا إلى ذلك، فمثلاً لن يمكنوننا من توحيد المناهج، وسيضعون أمامنا عراقيل متعددة من خلال أعوانهم "عملائهم" الوطنيين، وحتى من يدّعون القومية، فهم ينفذون بكل دقة واقتدار إفساد أي مخطط عربي تكاملي في أي مجال من المجالات.ولذلك فإن اتحاد الدول العربية إن قام فسيكون نسخة مكررة لجامعة الدول العربية، والمفوض العام سيكون نسخة مكررة للأمين العام بدون صلاحيات قوميه سيادية، وسيكون دوره التصريح لوسائل الإعلام وإعداد وترتيب الاجتماعات وإلقاء الكلمات، وسيكون مساعدو المفوض العام هم أنفسهم مساعدو الأمين العام الآن.والخوف كل الخوف أن تكون نشأة الاتحاد سببًا مباشرًا في انقسام العرب بين بعضهم البعض وتحولهم إلى تكتلات مثلما حدث في أفريقيا بعد الاتحاد الأفريقي... وإذا لزم الأمر فسيكون للحديث بقية[email protected]