ومن أعطى بشار الضوء الأخضر لقصف مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا !؟
في عام 1998م اعتقد الهالك حافظ الأسد أن بمقدوره استخدام عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني كورقة ضغط على الأتراك. لم تنتظر تركيا طويلاً حتى جاء الردّ سريعاً وحاسماً على لسان وزير دفاعها آنذاك فهدّد بلهجة حازمة أن الجيش التركي سيكون في قصر الشعب خلال 24 ساعة! ارتعدت فرائص سيّد ال قصر حينها، فهو يعرف الفرق الشاسع بين قدراته العسكرية والقدرات التركية، فأمرَ فوراً بإخراج أوجلان من سوريا ليُعتقل بعد ذلك عام 1999. الآن، وبعد مرور ما يربو عن 14 عاماً على تلك الحادثة، وقد باتَ الجيش التركي أكثر قوة في حين أن الجيش السوري منهكُ القوى بمعنويات منهارة، فإن الأجدر بالجيش السوري عدم التحرّش بتركيا، فمن الحماقة أن يَعبثَ الهرّ بذيل وحش نائم، فتركيا تمتلك أقوى وأكبر جيش (برّي) في حلف الناتو من حيث العدد والعتاد، وهو قوة ضاربة يحسبُ لها حسابها، ومن الغباء الاستراتيجي الاستهانة بتلك القوة. فلماذا يا ترى يتحرّشُ الهرُّ الهزيل بالوحش!؟ ولماذا تُقدِمُ عصابة دمشق على خطوة كهذه وهي تعلمُ علم اليقين أنها تُشكّل استفزازاً صارخاً لتركيا واعتداءً سافراً على سيادتها قد تكون عواقبه وخيمة فضلا عن كونه انتحاراً لسفاح دمشق؟! فمن أين أتت هذه الجرأة بل الوقاحة يا ترى؟! المسألة ببساطة أن عصابة دمشق لم تقصف الأراضي التركية إلا بضوء أخضر وإيعازٍ من إحدى الدول (روسيا، إيران، إسرائيل، أمريكا أو أوروبا)، وقد تكون بعض تلك الدول مجتمعة في ذلك، والهدفُ هو جرّ تركيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد! كيف؟ ولماذا؟. إنّ المُتأمّل في سياسة تركيا الخارجية ومواقفها السياسية الأخيرة، يعلمُ أنها باتت مصدر قلق للعديد من الدّول التي لا تريد لها أن تلعب دور الريادة في المنطقة. وعلاوة على تصدّرها، بل وقيادتها، الناجحة للمنطقة في المجال السياسي وسحبها للبساط من تحت أقدام العرب فيما يخص القضية الفلسطينية، باتت تركيا تشكلُ تهديداً وتحدّيا اقتصادياً متعاظماً تتخوفُ منه القوى العظمى وتحسب له ألف حساب. ففي الوقت الذي كانت تئنّ فيه أوروبا وأمريكا، ولا تزال، تحت وطأة الأزمة المالية العالمية وتباطؤ نموّها الاقتصادي، كانت تركيا (والصين) هي الدول الوحيدة في العالم التي استطاعت تحقيق نموّ اقتصادي تُحسد عليه. وعندما كان الغرب والشرق يعاني عجزاً في موازناته التجارية وركوداً اقتصادياً لم يشهده منذ الحرب العالمية الثانية وما ترتب على ذلك من إفلاس عشرات البنوك وبطالة طالت الملايين، كان دخل الفرد التركي قد تضاعف 3 مرات خلال السنوات العشر الأخيرة في ظل حزب العدالة والتنمية. فتركيا ليست خصماً سياسياً للغرب فحسب، بل أيضاً عدوّ اقتصادي أصبح يقرعُ أبواب أوروبا وبقوة. خبراء السياسة الأتراك يعرفون جيّداً ما يُحاك لتركيا في الخفاء، وما يُراد لها من سوء، فالدول الإقليمية العظمى ومعها إسرائيل وإيران، معنيّة بشكل كبير لتبقي المارد العثماني في قمقمه، وها هي الفرصة السانحة لتحجيم "الخطر العثماني الجديد" القادم بقوة. ولن تجد تلك القوى وسيلة للقضاء على ذلك الخطر الذي بات يتهددها أفضل من إشغال تركيا واستنزافها اقتصاديا وعسكريا في حرب (أو حتى مناوشات عسكرية) طويلة الأمد مع سوريا وحلفائها في المنطقة كإيران وحزب العمال الكردستاني. وهو ما يُفسر جوهر الموقف السياسي التركي الحذر تجاه ما يجري في سوريا. فتركيا تعي جيداً خيوط اللعبة وأبعادها، وتعرفُ أنها تسير في حقلٍ مليء بالألغام، فسارعت بذكاء إلى أخذ زمام المبادرة وقطعت الطريق على المتربصين بها فصرّحت مراراً أنها على استعداد لاتخاذ أي إجراء ضد سوريا شريطة أن يكون ذلك تحت مظلة الناتو أو الأممالمتحدة وبقرار أممي، فهي تعلم أنها لو تحرّكت منفردة فسوف يُستَفردُ بها وستكون قد أكلت الطّعمَ بغباء، وسيكون حالها كحال الأبله الذي ذهب بقدميه إلى حتفه. فتركيا التي استطاعت على مدى سنوات طويلة بناء اقتصاد متين ودخول نادي الكبار، يحقّ لها الحفاظ على مكتسباتها التي حققتها، وليس من الحكمة أن تجعلَ للمتربصين بها عليها سبيلاً. لا شكّ أن السوريين مستائين من موقف أردوغان تجاه الثورة السورية، فهو لطالما صرّح ولقلّما فَعَل. لكن علينا أن ندرك أن لعبة السياسة والمصالح الدوليّة لا تأخذ بعين الاعتبار دماء الأبرياء، وما يحكم السياسة هي المصالح وليس العواطف. ليس لدي أدنى شك في أصالة أردوغان ونزاهته ورغبته الصادقة في مناصرة الشعب السوري، لكن ماذا عساه يفعل وهو يعلم علمَ اليقين أنّ السقطة الأولى لتركيا ستجلب عليها كل الضباع من كهوفها وقد اتفقت سلفاً على التهام فريستها، هذا إن لم تنضم لتلك الضباع ضباعٌ عربيةٌ أخرى أكلتها الغيرة وحرقت قلبها النجاحات التركية الباهرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي!