مرّ تدشين الدورة السابعة والعشرين من بينالي الإسكندرية الدولي لدول حوض البحر المتوسط، بعد انقطاع دام 12 عامًا، مرور الكرام، بشكل لا يتناسب مع ضخامة هذا الحدث الثقافي. فغياب البينالي طوال هذه السنوات كان "قاسيًا" على المشهد الفني المصري والعربي، وكان من المتوقع أن تحظى عودته باحتفاء يليق بتاريخه وأهميته. لكن الحقيقة التي قد تخفى على الكثيرين هي أن ما حدث ليس مجرد "إعادة إطلاق" للبينالي، بل عملية إعادة تأسيس شاملة تتجاوز القواعد القديمة جذريًا. لقد تحول البينالي، الذي تأسس في عام 1955 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ثالث أقدم بينالي في العالم بعد بينالي البندقية وساو باولو، وأول بينالي في إفريقيا والمنطقة العربية، من كونه مجرد معرض فني مغلق تُموّله الدولة بالكامل للاحتفاء بالفنون، إلى مشروع ثقافي ضخم يهدف إلى تفعيل دور الفن في الحياة العامة والترويج للمدينة واستثمار فضاءاتها المفتوحة، مما يضاعف من قيمته الاقتصادية والسياحية. بجرأة، يمكن وصف إقامة بينالي الإسكندرية هذا العام بأنها "معجزة" حقيقية، تقدّم نموذجًا فريدًا للتعاون والتكامل بين جميع قطاعات المجتمع. النموذج الذي جمع إرادة الدولة ممثلة في وزارة الثقافة، وذكاء القطاع الخاص. وراء هذه المعجزة حقيقة مالية مذهلة؛ فتكلفة هذا البينالي تقترب من 100 مليون جنيه، بينما لا يتجاوز التخصيص المالي من موازنة الدولة 5 ملايين جنيه فقط! هذا التناقض الرقمي يطرح سؤالًا محوريًا: كيف يُقام هذا الصرح الثقافي الضخم في ظل هذه الميزانية الضئيلة؟ الإجابة تكمن في قصة نجاح إدارية وفنية تستحق الدراسة. فقد قررت وزارة الثقافة، بعزيمة صلبة، استعادة هذا الإرث الثقافي، وامتلكت الإرادة ووظفت الأدوات والأشخاص المناسبين لتحقيق الهدف. وكانت الحلقة الأهم في سلسلة النجاح هي "توظيف الكفاءات". فعندما قرر الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة استعادة البينالي، عين الفنان محمد طلعت مستشارًا لشئون الفنون التشكيلية، الذي مثّل "دينامو" العمل الفني والإبداعي. وفي الجناح الآخر، وقف الدكتور وليد قانوش رئيس قطاع الفنون التشكيلية، بمهارته الفائقة في إنجاز التعقيدات والإجراءات الحكومية البيروقراطية، مما ضمن سير العمل بسلاسة. نموذج التعاون.. من الحكومة إلى القطاع الخاص لم تكن المعجزة محصورة داخل أروقة وزارة الثقافة فقط، فبالتعاون مع محافظة الإسكندرية، تم تسخير إمكانات المدينة لخدمة الحدث؛ حيث ساهمت المحافظة في تسهيل استخدام المواقع التراثية والساحات العامة والكورنيش، وقدمت دعمًا لوجستيًا كبيرًا شمل تركيب اللافتات الإرشادية وإعلانات الشوارع وتوفير صناديق القمامة والمظلات ومقاعد الجلوس. هذا التحول جعل الفن جزءًا من نسيج المدينة اليومي، يراه كل المارة، ليس في مدة محدودة فقط، وإنما سيمتد على مدار ثلاثة أشهر، وبعضها سيتحول إلى إرث مستدام. باكتمال هذه الصورة الحكومية المتضافرة، بدأت المرحلة الأصعب: جذب رعاة وداعمين من القطاع الخاص لتمويل الفجوة المالية الهائلة. وهنا برز السؤال الشائك: ما المصلحة التي ستعود على كبرى الشركات ورجال الأعمال من ضخ ملايين الجنيهات في حدث ثقافي؟ عندما يتحول الفن إلى استثمار ذكي كانت الإجابة على لسان عدد من رواد الأعمال المؤمنين بالثقافة والفنون، سواء داخل اللجنة العليا للبينالي أو خارجها: لقد نجح التخطيط الحديث للبينالي في خلق عامل جذب حقيقي يتمثل في خروج الأعمال الفنية من الجدران المغلقة إلى الفضاء العام ليتم عرض الأعمال والأنشطة المصاحبة في أكثر من 10 ميادين وأماكن عامة، بخلاف المؤسسات الثقافية. لم يعد البينالي حدثًا نخبويًا يقتصر على زوار قاعات العرض، بل أصبح مهرجانًا مرئيًا للجميع، يحيي المدينة ويجذب السياحة ويخلق حركة اقتصادية غير مسبوقة. وضع القائمون على البينالي تخطيطًا زمنيًا محكمًا تضمن التأسيس والتخطيط خلال الفترة من أغسطس 2025 إلى يناير 2026، ثم مرحلة التطوير والإنتاج خلال الفترة من يناير إلى يوليو 2026، يليه مرحلة الإنشاء والانطلاق خلال الفترة من يوليو إلى سبتمبر 2026، ثم مدة العرض من سبتمبر إلى نوفمبر 2026. تحولت المشاركة في رعاية البينالي من عمل خيري إلى استثمار ذكي في سمعة الشركة وعلامتها التجارية، وإسهام مباشر في تنشيط الحركة الاقتصادية لمدينة الإسكندرية التي يعملون فيها. لقد وجد رواد الأعمال في البينالي منصة مثالية لتحقيق مسؤوليتهم الاجتماعية بأسلوب مبتكر ومؤثر، يبرز دورهم كشركاء حقيقيين في التنمية. ورغم تحفظي على شعار البينالي "هذا أيضًا سيمر.."، والذي حاول القائمون على الملتقى تسويقه لنا باعتباره دعوة للتفاؤل وسط الأجواء الدولية المضطربة، إلا أنه داخليًا يمكن فهمه بطريقة خاطئة باعتباره يعبر عن فلسفة عدمية، حتى لو كان استخلاصه جاء من مقدمة ابن خلدون، كما قال الفنان معتز نصر قوميسير عام البينالي. نموذج للمستقبل إن عودة بينالي الإسكندرية بهذا الشكل تثبت أن الإرادة الواضحة والشراكة الحقيقية بين الدولة والقطاع الخاص قادرة على تحقيق المستحيل، بل وتتوافق مع رؤية مصر 2030. فنجاح هذه الدورة لا يقتصر على استعادة حدث فني ضائع فحسب، بل يطلق نموذجًا جديدًا يمكن احتذاؤه لإدارة المشاريع الثقافية الكبرى في مصر، حيث يتحول الفن من نشاط مغلق إلى محرك حيوي للحياة والاقتصاد في المدينة. وختامًا، أتمنى استعادة عدد من أهم الأحداث الثقافية والسينمائية التي توقفت خلال الأعوام الماضية، مثل المؤتمر الدولي للرواية العربية والمهرجان القومي للسينما، وغير ذلك من الأحداث، على نفس طريقة بينالي الإسكندرية. ولن يأتي ذلك إلا من خلال تضافر عوامل الإرادة السياسية للوزارة في اختيار القيادة صاحبة الخيال الخلاق، وإحياء دور القطاع الخاص ودمجه كشريك أساسي للحكومة في كافة مجالات التنمية، ولا سيما التنمية الثقافية، لأنه يتوافق مع رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030، كما يتوافق مع أهداف الجمهورية الجديدة التي تستهدف بشكل أساسي بناء الإنسان. وما أحوج بعض المؤسسات التابعة للوزارة إلى ذلك، مثل المجلس الأعلى للثقافة وهيئة الكتاب وقصور الثقافة وصندوق التنمية الثقافية.